حققت صادرات الأسلحة الكورية طفرة هائلة بسبب حرب أوكرانيا دون أن تصدر رصاصة واحدة لأي من طرفي الصراع، فكيف فعلت ذلك وما الذي جعل العالم يتهافت على أسلحة كوريا الجنوبية؟
فبعد مرور عام على غزو روسيا لأوكرانيا، حفَّزت الحرب جهداً عالمياً لإنتاج المزيد من الصواريخ والدبابات وقذائف المدفعية وغيرها من الذخائر. لكن قِلَّة من الدول فقط تحرَّكت بقدر سرعة كوريا الجنوبية لزيادة إنتاجها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
صادرات الأسلحة الكورية تشهد قفزة هائلة
إذ ارتفعت صادرات كوريا الجنوبية من الأسلحة العام الماضي، 2022، بنسبة 140% وصولاً إلى مستوى قياسي بلغ 17 مليار دولار، بما شمل صفقات تبلغ قيمتها 12.4 مليار دولار لبيع دبابات ومدافع هاوتزر ومقاتلات وراجمات صواريخ لبولندا، أحد أوثق حلفاء أوكرانيا.
وتعد بولندا المندفعة للتسلح خوفاً من روسيا المجاورة من أبرز زبائن كوريا الجنوبية، حيث طلبت 1000 دبابة كورية جنوبية كيه 2 بلاك بانثر (سوف تُصنع غالبيتها في بولندا)، واختارت وارسوا هذه الدبابة بدلاً من دبابة جارتها ألمانيا الشهيرة ليوبارد 2، والتي تمتلك وحدات منها أصلاً.
كما أعلنت بولندا في 9 ديسمبر/كانون الأول 2022، عن نيتها الانضمام إلى برنامج الطائرة الشبحية الكورية الجنوبية KF-21، التي لفتت الأنظار بعد أن حلقت مؤخراً، في أول رحلة فوق صوتية لها، وينظر لها أنها ستكون من أرخص طائرات الجيل الخامس رغم أنها تفتقد حتى الآن أهم ميزة في هذا الجيل وهي حاوية الأسلحة الداخلية التي تخبئ الصواريخ والقنابل عن موجات الرادارات لزيادة تخفي المقاتلات.
وقبل توقيع الصفقة البولندية، وتحديداً، في مطلع عام 2022، وقعت كوريا الجنوبية "أكبر صفقة عسكرية في تاريخها" مع الإمارات وكوريا الجنوبية، بقيمة 3.5 مليار دولار، ستورد سيول بموجبها لأبوظبي أنظمة صواريخ أرض جو، من طراز تشونغونغ 2 أرض-جو متوسطة المدى المطورة من صواريخ إس 300 وإس 400 الروسية.
كما التزم الجانبان بتوسيع العلاقات بين صناعاتهما الدفاعية، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية في يناير/كانون الأول 2022.
لماذا ترفض كوريا بشدة بيع الأسلحة لأوكرانيا؟
لكن فيما توسِّع كوريا الجنوبية مبيعات السلاح عالمياً، فإنَّها رفضت إرسال مساعدات فتَّاكة إلى أوكرانيا نفسها. وركَّزت بدلاً من ذلك على سد فجوة إعادة التسلُّح في العالم، في حين قاومت الاضطلاع بأي دور مباشر في تسليح أوكرانيا، وفرضت قواعد رقابة صارمة على كل مبيعاتها.
ينبع حذر كوريا الجنوبية في جزءٍ منه من إحجامها عن استعداء موسكو علانيةً، وهي التي تأمل منها أن تتعاون في فرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية التي تزداد عدوانيتها أكثر فأكثر. وبجانب موقف كوريا الجنوبية، رفضت بلدان بمختلف أنحاء أمريكا اللاتينية وإسرائيل وغيرها أيضاً إرسال أسلحة مباشرةً إلى أوكرانيا.
لكنَّ بلداناً قليلة ازدهرت صناعاتها الدفاعية نتيجة للغزو الروسي بقدر ما ازدهرت في كوريا الجنوبية. وعلى الرغم من المناشدات من كييف وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، واصلت سول السير على حبل رفيع، مُوازِنَةً بين تحالفها الراسخ مع واشنطن ومصالحها الوطنية والاقتصادية.
الفضل في ازدهار صناعتها العسكرية يعود لكوريا الشمالية
وعلى عكس حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الذين قلَّصوا حجم جيوشهم وقدرات إنتاج الأسلحة عند نهاية الحرب الباردة، حافظت كوريا الجنوبية على سلسلة إمداد دفاعية محلية قوية لتلبية الطلب من قواتها المسلحة وللحماية من كوريا الشمالية التي تعد أكثر الدولة عسكرة ولديها واحد من أكبر جيوش العالم.
وواجه مُورِّدو السلاح أمثال الولايات المتحدة نقصاً كبيراً في إنتاج منصات إطلاق الصواريخ والأسلحة الأخرى منذ الغزو الروسي. وعانت أيضاً ألمانيا وبلدان أخرى لتأمين ما يكفي من دبابات لإرسالها إلى أوكرانيا.
فبدأ المشترون يبحثون في أماكن أخرى.
دول أوروبا الشرقية تهرع لسيول لتقترب من تحقيق حلمها بأن تكون رابع مصدر عالمياً
ومع تسابق البلدان في أوروبا الشرقية لإعادة تسليح وتطوير جيوشها بعد إرسال أسلحتها التي تعود للحقبة السوفييتية إلى أوكرانيا، أصبحت كوريا الجنوبية خياراً جذاباً لهم.
جرى توقيع عقود الدبابات ومدافع الهاوتزر البولندية في أغسطس/آب الماضي مع كبار متعهِّدي الدفاع الكوريين الجنوبين. وقد استغرق وصول أول شحنة أكثر بقليل من ثلاثة أشهر. وأظهرت وارسو تقديراً لهذه السرعة.
كانت الطلبيات القادمة من وارسو منحة لحكومة الرئيس يون سوك يول، الذي تعهَّد بجعل بلاده رابع أكبر مُصدِّر للأسلحة بحلول عام 2027 بعد كل من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
إنها الآن الأسرع نمواً بين مصدري السلاح
ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كانت كوريا الجنوبية الأسرع نمواً بين أكبر 25 مُصدِّراً للأسلحة في العالم في الفترة بين 2017 و2021، وحلَّت في المرتبة الثامنة بحصة تبلغ 2.8% من السوق العالمية. كان ذلك قبل أن تحصل على عقود من بولندا ومصر والإمارات العام الماضي، 2022.
وأصبحت شركة Hanwha Aerospace، أكبر متعهِّد دفاعي في كوريا الجنوبية، مشغولة اكثر من أي وقتٍ مضى، وتُخطط لزيادة طاقتها الإنتاجية ثلاثة أضعاف بحلول العام المقبل، 2024.
وتنتج الشركة مدفع هاوتزر K9 ذاتي الدفع، وهو السلاح الأكثر مبيعاً في البلاد.
قال بارك سانغ كيو، المهندس بالشركة: "إنَّنا بحاجة لخطي إنتاج آخرين لتلبية الطلب المتنامي"، في إشارة إلى طلبيات K9 من بولندا وبلدان أخرى.
واشنطن تقول إن كوريا الشمالية تزود موسكو بالسلاح
وأدانت سول غزو أوكرانيا، وتعهَّد الرئيس يون بحماية قيم مثل "الحرية" والنظام الدولي "القائم على القواعد". لكنَّ حماس كوريا الجنوبية لزيادة صادراتها من السلاح في خضم الحرب سلَّط الضوء أيضاً على صعوبات التوازن.
إذ حذَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كوريا الجنوبية من مساعدة أوكرانيا عسكرياً، قائلاً إنَّ فعل ذلك سيُدمِّر العلاقات بين موسكو وسول وقد يدفع روسيا لتعميق العلاقات العسكرية مع كوريا الشمالية.
وقرَّبت الحرب في أوكرانيا بالفعل كوريا الشمالية إلى روسيا أكثر، فدعمت الغزو علانيةً، واتهمتها واشنطن بإرسال قذائف مدفعية وصواريخ وذخائر أخرى إلى روسيا.
كوريا تشترط على بولندا وأمريكا عدم تصدير أسلحتها لأوكرانيا، ولكن بعض المكونات تصل إليها
حين وافقت سول على بيع قذائف مدفعية لمساعدة الولايات المتحدة على إعادة ملء مخزوناتها، أصرَّت على شرط رقابة على الصادرات واضح يقضي بأنَّ "المستخدم النهائي" سيكون الولايات المتحدة، وهي قاعدة تُطبِّقها في كل صفقات السلاح العالمية التي تبرمها منذ عقود، بما في ذلك عقودها مع بولندا.
مع ذلك، شقَّت بعض تكنولوجيا السلاح الكورية الجنوبية طريقها إلى أوكرانيا، إذ تستخدم مدافع الهاوتزر البولندية من طراز Krab التي أُرسِلَت إلى أوكرانيا الهيكل المعدني المُستخدَم في مدافع K9 الكورية الجنوبية. (رفضت إدارة برنامج الاستحواذ الدفاعي في كوريا الجنوبية التعليق عمَّا إذا كان هذا النقل يُمثِّل انتهاكاً لقواعد رقابة الصادرات).
إنها تقدم للزبائن ما لا توفره واشنطن
عندما التقى الرئيس الكوري يون نظيره الأمريكي جو بايدن في سول في مايو/أيار الماضي، اتفقا على التعاون بشأن سلسلة توريد صناعة الدفاع. ومع أنَّ كوريا الجنوبية لا تصنع أسلحة الحقبة السوفييتية التي تمثل أكثر ما تحتاجه أوكرانيا، فإنَّ الكثير من منظومات أسلحتها متوافقة مع أسلحة الناتو المتجهة لأوكرانيا.
وتأمل شركة Hanwha في مشاركة تكنولوجيتها في المدفعية والمركبات المدرعة مع الولايات المتحدة، والمساعدة في تسليح الناتو بالأسلحة التي لم تعد الولايات المتحدة تنتجها أو غير قادرة على توريدها بالسرعة الكافية. فقال سون جاي إل، رئيس الشركة: "الولايات المتحدة لا يمكنها صنع كل الأسلحة".
وقال إل مؤخراً في مقر الشركة في سول: "جعلت الجغرافيا السياسية قدرنا أن نُنمِّي صناعة دفاعية".
وأضاف أنَّه في حين صنعت الولايات المتحدة أسلحة متطورة مثل حاملات الطائرات والغواصات النووية ومقاتلات من أحدث طراز في المنافسة مع روسيا والصين، ركَّزت كوريا الجنوبية على "الأسلحة متوسطة المستوى مثل المدفعية والمركبات المدرعة والدبابات، وراكمت تقنيات تنافسية في هذا الميدان".
مدفع K9 الكوري يسيطر على نصف المبيعات العالمية
وقد ورَّدت شركة Hanwha قرابة 1200 مدفع هاوتزر من طراز K9 إلى الجيش الكوري الجنوبي منذ أواخر التسعينات، فضلاً عن مئات إضافية للهند وتركيا وإستونيا وفنلندا والنرويج.
ووفقاً لمحللين كوريين جنوبيين، استحوذ مدفع K9 على 55% من سوق صادرات مدافع الهاوتزر ذاتية الدفع منذ عام 2000 حتى 2021.
تجعل صادراتها جذابة بنقل التكنولوجيا مع التصنيع المحلي مثلما فعلت مع تركيا
تجعل كوريا الجنوبية صفقاتها لتصدير السلاح أكثر جاذبية من خلال عرض نقل التكنولوجيا وتسهيل الإنتاج المحلي، وهو ما يُعزِّز صناعات الدفاع المحلية للمشترين.
فلقد صنعت تركيا دبابة القتال الرئيسية المحلية Altay والمدفع الهاوتزر T-155 اعتماداً على نماذج كورية جنوبية. وستُنتَج معظم مدافع الهاوتزر الكورية الجنوبية التي ستشتريها بولندا في بولندا مع شركاء محليين.
هي لا تكرر ما فعلته أمريكا معها
وتدرك كوريا الجنوبية جيداً كيف لهذه الحوافز أن تكون قوية.
إذ عانت البلاد طوال عقود من أجل صنع أسلحتها من خلال الهندسة العكسية للعتاد العسكري الأمريكي. وكانت شركة Hanwha تصنع الديناميت حين صنَّفتها الحكومة كمتعهِّد دفاعي في السبعينات لإنتاج القنابل والألغام الأرضية وطلقات الإشارة.
وهي الآن تصنع أنظمة الرادارات، ومحركات الطائرات، وروبوتات التخلص من القنابل، ومركبات القتال غير المأهولة، والأسلحة المضادة للطائرات. وهي أيضاً شريكة في برنامج الفضاء الكوري الجنوبي.
وفيما تدور رحى الحرب في أوكرانيا، وضعت شركة Hanwha عينيها بقوة على السوق العالمية، بالدعم الكامل من حكومة وجيش كوريا الجنوبية. فالتقى الرئيس يون نظيره البولندي في يونيو/حزيران الماضي للمساعدة في إنهاء صفقات الأسلحة العام الماضي. وأعلن مكتبه في يناير/كانون الثاني الماضي أنَّه قد أنشأ فرقة عمل جديدة لتعزيز صادرات الأسلحة.