أصبحت مجموعة فاغنر الروسية رقماً صعباً في الحرب في أوكرانيا وحول العالم، فهل الشركة الأمنية الخاصة مجرد مرتزقة، أم أنها أداة التأثير الروسي الأكثر فاعلية، وخاصة في قارة إفريقيا؟
كان الاتحاد السوفييتي السابق قد أنفق مليارات الدولارات على مساعدات عسكرية لحلفائه الأفارقة، إلا أن انهيار الحكم الشيوعي في أوائل التسعينيات أجبر روسيا على التراجع عن دورها الواسع على الساحة العالمية.
لكن اليوم، عاد النفوذ الروسي في إفريقيا إلى الواجهة مرة أخرى، فبعد ثلاثة عقود تقريباً من انهيار الإمبراطورية السوفييتية، يحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عاتقه مهمةَ إعادة بناء نفوذ موسكو الدولي في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعتمد الحملة، في جزء منها، على بناء تحالفات مع دول نامية خارج القنوات الرسمية، غالباً من خلال وكلاء مثل متعهدي شركات أمن خاصة وشركات تجارية ومستشارين.
فاغنر.. أكثر من مجرد مرتزقة
وفي القلب من هذه التحركات تأتي فاغنر، التي حققت وجوداً راسخاً في دول مثل مالي والساحل الإفريقي، وذلك بعد تدخلاتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى ودول أخرى.
وتتحدث التقارير الغربية حالياً عن وجود آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية ينشطون في عدة دول إفريقية، ففي جمهورية إفريقيا الوسطى على سبيل المثال، يدعم 1890 "مدرباً روسياً" القوات الحكومية في الحرب الأهلية المستمرة، وفقاً للسفير الروسي. وفي ليبيا، يُعتقد أن ما يصل إلى 1200 من مرتزقة فاغنر يقاتلون إلى جانب خليفة حفتر.
ووفقاً لمراقبين، فإن المجلس العسكري الموالي لروسيا والمناهض للغرب في مالي قد جلب أيضاً مئات من مقاتلي فاغنر إلى البلاد، وتزعم تقارير غربية أن هؤلاء متهمون بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان هناك، لكن خبراء يقولون إن وجود مجموعة فاغنر في إفريقيا يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير.
وقال المحلل السياسي يوليان راديماير، لشبكة DW الألمانية، خلال حضوره مؤتمر ميونيخ للأمن مؤخراً، إنه "بمرور الوقت تطورت فاغنر إلى ما وراء الخدمات العسكرية الخاصة، إلى شبكة من العلاقات والشراكات مع شركات في مختلف البلدان الإفريقية". وأضاف: "إنهم يعملون في تلك المنطقة الرمادية بين الأنشطة غير القانونية إلى حد ما، ويغطون المنطقة بأكملها جيداً".
وخلال يناير/كانون الثاني الماضي، أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قراراً بتصنيف مجموعة فاغنر "منظمة إجرامية عابرة للحدود"، وهو القرار الذي اعتبرته موسكو غير مؤثر على روسيا أو المجموعة نفسها.
إذ قال ديمتري بيسكوف، متحدث الكرملين: "لا أعتقد أن لهذا أي أهمية عملية لبلدنا، أو حتى أكثر من ذلك بالنسبة لشركة فاغنر العسكرية الخاصة"، مشيراً إلى أنه "من غير المرجح أن يؤثر القرار على روسيا أو المجموعة نفسها".
وكان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، قد قال للصحفيين، إنه بالإضافة إلى قرار وزارة الخزانة بتصنيف مجموعة فاغنر على أنها "منظمة إجرامية عابرة للحدود"، فإن إدارة الرئيس جو بايدن "ستفرض عقوبات اقتصادية على المنظمة والداعمين لها".
لكن رئيس شركة فاغنر الروسية الخاصة للمتعاقدين العسكريين نشر رسالة قصيرة موجهة إلى البيت الأبيض، يسأل فيها عن الجريمة التي تُتهم شركته بارتكابها، وذلك بعد أن أعلنت واشنطن أنها ستفرض عقوبات جديدة عليها. فيما تقول رسالة نُشرت عبر تليغرام، على قناة الخدمة الإعلامية التابعة ليفجيني بريجوجين، مؤسس فاغنر: "عزيزي السيد كيربي، هل يمكنك توضيح الجريمة التي ارتكبتها شركة فاغنر؟".
أداة تأمين النفوذ الروسي في إفريقيا
المحلل السياسي راديماير، الذي يعمل في شبكة المجتمع المدني "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان"، نشر مؤخراً تقريراً مع زملائه حول فاغنر في إفريقيا، ويقول عن محتوى التقرير "نناقش فيه كون مجموعة فاغنر هي اللاعب الروسي الأكثر نفوذاً في إفريقيا اليوم، وإن أنشطتها وأنشطة الشركات التي تختفي خلفها، لها تأثير ضار على القارة".
تسعى روسيا جاهدة لتحقيق نفوذ أكبر في إفريقيا، ومجموعة فاغنر يجب أن تكون وسيلة لذلك، حالها حال الزيارات الرسمية التي يقوم بها وزير الخارجية سيرغي لافروف، وكذلك أيضاً التعاون العسكري وصفقات الأسلحة، وفي بعض الحالات توصيل المواد الغذائية والأسمدة مجاناً.
وبفضل هذا النفوذ الروسي، تمكنت موسكو أيضاً من تسجيل 15 دولة امتناعاً عن التصويت من إفريقيا على أحدث قرار للأمم المتحدة بشأن الحرب في أوكرانيا؛ فيما انحازت إريتريا ومالي بشكل أكثر وضوحاً إلى جانب روسيا برفضهما القرار.
ويُزعم أن المجموعة سميت على اسم المؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر، وقد تأسست في عام 2014 من قِبل رجل الأعمال يفغيني بريجوجين الموالي لبوتين، ومنذ ذلك الحين تطورت لتصبح جهة فاعلة منظمة بشكل خاص لا غنى عنها لتحقيق المصالح الروسية.
وفي الآونة الأخيرة فقط صرَّح بريجوجين علناً لأول مرة أنه كان أيضاً وراء "وكالة أبحاث الإنترنت" (Internet Research Agency)، وهي مصنع لـ"الجيوش الإلكترونية" التي تغمر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً في الغرب، بمعلومات تتماشى مع سياسات روسيا.
يمكن أيضاً العثور على حملات للتأثير على السكان الأفارقة في بحث شبكة المجتمع المدني "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان" حول مجموعة فاغنر.
كما يستخدم الكرملين فاغنر "كأداة دبلوماسية في إفريقيا"، وفقاً لما قاله ممثل المجموعة البحثية "كل العيون على فاغنر" (All Eyes on Wagner)، التي تراقب أنشطة المجموعة في جميع أنحاء العالم. وقد أجرت الشبكة الألمانية مقابلة مع ممثل المجموعة البحثية، لكن تتم الإشارة إليه باسم مستعار وهو غابرييل، لأسباب أمنية.
ويقول غابرييل "الشركات العسكرية الخاصة محظورة في روسيا، لكن إلى حد ما مسموح لها بالعمل خارج روسيا"، موضحاً أن المرتزقة على الأرض ينتمون إلى شركات فرعية. ويضيف لـDW أن "هناك موافقة من الكرملين في كل مرة تطور فيها العلامة التجارية فاغنر أنشطتها في إفريقيا".
تجارة متنوعة وليست الأسلحة فقط
أبحاث دولية تتحدث عن أن العلامة التجارية فاغنر لها أنشطة في مجالات تتجاوز مجال الأمن. ففي يوليو/تموز 2022، دخلت منظمة "كل العيون على فاغنر" في شراكة مع 11 مؤسسة إعلامية أوروبية، للكشف عن كيفية جني المجموعة أرباحاً ضخمة باستخدام الأخشاب الاستوائية الثمينة من جمهورية إفريقيا الوسطى. وفقاً للتقرير، منحت الحكومة في بانغي شركة فرعية حقوق قطع الأشجار بدون قيود، على مساحة تقدر بـ187 ألف هكتار.
منجم الذهب "نداسيما" في جمهورية إفريقيا الوسطى، حالة مماثلة. تقول التقارير إنه تم سحب امتياز من شركة تعدين كندية لصالح شركة من مدغشقر، تظهر في تقرير منظمة "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان" كشركة تابعة لفاغنر.
يتتبع البحث الذي أجرته مجلة "تقرير إفريقيا" (The Africa Report)، كيف استوردت مجموعة فاغنر ما يُزعم أنه معدات تعدين ثقيلة، عبر ميناء دوالا البحري في الكاميرون. حيث يتم تنظيم ما يصل إلى ثلاث قوافل شاحنات أسبوعياً من بانغي إلى دوالا لنقل المواد الخام، تحت حماية أعضاء فاغنر المزودين بأسلحة ثقيلة.
وقال غابرييل إنه بالنسبة للحكومات الإفريقية التي تعاني من ضائقة مالية، قد يكون من الجذاب للغاية أن تدفع مقابل خدمات فاغنر حقوق التعدين أو قابلية الوصول إلى الأسواق. "لست مضطراً لسحب الأموال من حسابك، يمكنك فقط أن تكون، هنا، لمدة 25 أو 50 أو 100 عام، يمكنك استغلال هذا المنجم دون أي مشاكل".
يبدو أن مجموعة فاغنر تعمل على تنويع أعمالها في جمهورية إفريقيا الوسطى، إذ يقول جوزيف بندونغا، رئيس حزب "الحركة الديمقراطية للنهضة والتطور في وسط إفريقيا" ( MDREC) المعارض هناك، إن المجموعة تحاول على سبيل المثال، إجبار شركة السكر الفرنسية SUCAF على الخروج من السوق.
وذكر بندونغا مثالاً آخر في حواره مع الشبكة الألمانية: "إنهم بصدد تأطير مصنع الجعة الفرنسي Castel لدعم وتمويل القوات. الروس هم السادة في كل المجالات التي تجلب المال، بما في ذلك الجمارك والضرائب".
ويمكن لشركة "First Industrial Company" أن تستفيد من ذلك، وهي شركة تنتج البيرة والمشروبات الكحولية في بانغي، ووفقاً لتقرير "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان"، فإن الشركة مسجلة على ما يبدو لرجل أعمال روسي مرتبط بفاغنر.
لا تنكر روسيا الروابط مع هذه الشركة، وقال متحدث باسم السفارة الروسية في بانغي لشبكة دويتش فيله: "تسير الأمور على ما يرام، لأن المشروبات الكحولية المصنوعة وفقاً للمواصفات الروسية تحظى بشعبية كبيرة في جمهورية إفريقيا الوسطى"، مضيفاً أن نشر الثقافة الروسية والقيام بأعمال تجارية مع سكان إفريقيا الوسطى يمثلان أولوية. وقال المتحدث إن المستثمر الخاص يمكنه أن يفعل ما يشاء: "هذا هو قانون السوق الحرة".
الحرب في أوكرانيا لم تؤثر على أنشطة فاغنر
ورغم مشاركة فاغنر المكثفة في العمليات الحربية في أوكرانيا، فإن الواضح أن الأنشطة الاقتصادية لشبكة فاغنر في إفريقيا تتزايد بشكل كبير. وقال راديماير، المحلل في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان: "في بعض الحالات تم سحب أعداد كبيرة من مرتزقة فاغنر، للذهاب والقتال في الحرب في أوكرانيا، لكن لا يزال هناك آخرون. الأنشطة مستمرة بالتأكيد على مستوى أدنى، لكن ليس هناك ما يشير إلى أن الحرب في أوكرانيا تؤدي إلى الانسحاب الكامل لمرتزقة فاغنر من إفريقيا".
على العكس من ذلك: قبل وقت قصير من ذكرى بدء الحرب، في 24 فبراير/شباط، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، نقلاً عن مصادر استخباراتية أمريكية، أن مجموعة فاغنر كانت تعمل مع المتمردين المحليين للتخطيط لانقلاب في تشاد.
وقال راديماير: "المقلق هو أن فاغنر سوف تستمر في الانتشار والنمو في سياق إفريقي، ما لم يتم التدخل لمواجهة تلك التأثيرات، ويجب أن تعمل أوروبا وشركاؤها بشكل أفضل مع إفريقيا لتحقيق ذلك".
وفي السياق ذاته، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد اختص فاغنر بجانب كبير من خطاب ألقاه مؤخراً، قبل القيام بجولة إفريقية، بشأن تعديل سياسات فرنسا في القارة السمراء، حيث دعا الرئيس الفرنسي إلى التحلي بـ"التواضع" و"المسؤولية"، رافضاً "المنافسة" الاستراتيجية التي يفرضها من يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم".
ويرى ماكرون أن الدول الإفريقية ستتوقف في النهاية عن اللجوء إلى مجموعة فاغنر، لأنها ستعرف أنها لا تنشر سوى الشقاء فقط، وقال "إنها مجموعة من المرتزقة المجرمين، والتأمين على حياة أنظمة فاشلة وانقلابيين". كما اتهم ماكرون روسيا بتغذية دعاية مناهضة لباريس في إفريقيا لخدمة طموحات "عدوانية".
لكن هذا الانتشار والتغلغل الروسي في مناطق نفوذ فرنسا السابقة، من خلال أنشطة فاغنر المتنوعة، يناقض رؤية الرئيس الفرنسي بشكل واضح.