مع انطلاق أول رصاصة روسية على أوكرانيا، تأثرت الكثير من الدول بسبب هذه الحرب، وبات كل شيء تقريباً متوقفاً، من الأسمدة إلى الحبوب الغذائية، ومروراً حتى بأعلاف الحيوانات.
لكن التدخلات الدولية والوساطات التي قامت بها عدد من الدول، منها تركيا والسعودية، نجحت إلى حد كبير في تخفيف وطأة هذه المأساة، وفتحت الباب أمام عودة تصدير شحنات الحبوب والأعلاف للدول التي تنتظرها بفارغ الصبر.
من بين هذه الدول مالاوي، التي كانت تنتظر الشحنة الروسية المحتجزة منذ شهور في ميناء روتردام الهولندي، حتى إن الأمم المتحدة تدخلت للتوسط في الإفراج عنها. ثم استأجر برنامج الغذاء العالمي سفينة لنقل الشحنة إلى موزمبيق، التي نُقلت منها بالشاحنات إلى وجهتها النهائية في ملاوي، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
48 دولة متأثرة على وقع صدمة الحرب
لم تكن شحنة حبوب أو ذرة، وإنما 20 ألف طن من الأسمدة الروسية كانت مالاوي في حاجة ملحة إليها. فقد ذهبت التوقعات إلى أن نحو 20% من سكان مالاوي معرضون لنقصٍ حاد في الأمن الغذائي خلال "موسم الجفاف" الممتد حتى شهر مارس/آذار، ما يجعل استخدام الأسمدة في زراعة المحاصيل أمراً بالغ الأهمية.
تأتي ملاوي من بين 48 دولة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية صنَّفها صندوق النقد الدولي ضمن أكثر الدول عرضة للتأثر بصدمة الارتفاع في تكاليف الغذاء والأسمدة التي أفضت إليها الحرب الروسية الأوكرانية. وبعد مرور نحو عام من الحرب، ترى الأمم المتحدة أن الاضطراب الحادث في أسواق الأسمدة العالمية أحد المخاطر الأساسية على توافر الغذاء في عام 2023.
بالإضافة إلى الأزمة الإنسانية الناجمة عن نقص الأسمدة، فإن الإدراك بأن جزءاً كبيراً من العالم يعتمد على قلة من الدول -على رأسها روسيا وحليفتها بيلاروسيا، والصين- في معظم إمداداته من الأسمدة، قد أخاف كثيرين، ودق أجراس الإنذار في عواصم العالم. ومثلما أصبحت أشباه الموصلات بؤرة توترات جيوسياسية، فإن السباق على الأسمدة نبَّه الولايات المتحدة وحلفاءها إلى خطورة اعتمادها الاستراتيجي على خصومها في مدخلات زراعية لها تأثير مباشر على الأمن الغذائي العالمي.
على إثر ذلك، تصدَّر الحديث عن الأسمدة والدول التي تتحكم في إمداداتها أجندة المناقشات السياسية في جميع أنحاء العالم؛ فوزارة الخارجية الأمريكية تعمل على تعزيز خبراتها في مجال الأسمدة، ويكتب الرؤساء منشورات عن أزمة نقص الأسمدة على موقع تويتر، ويتداول المرشحون برامج توفير الإمدادات في حملاتهم الانتخابية، فضلاً عن أن الموضوع صار بؤرة للتوترات بين الدول من جهة، ووسيلة للتفاوض بينها من جهة أخرى.
قال أوداي شانكر أواستي، الرئيس التنفيذي لأكبر شركات إنتاج الأسمدة في الهند Indian Farmers Fertiliser Cooperative، إن "أهمية الأسمدة لا تقل عن أهمية البذور في الأمن الغذائي للبلاد. وإذا شبع أهل البلاد، صاروا قادرين على الدفاع عن بيوتهم، وعن حدود بلادهم واقتصادها".
زيادة وارتباك في الأسواق بعد الحرب على أوكرانيا
شهد العام الماضي تقلبات كبيرة في سوق الأسمدة أسفرت عن زيادة قيمتها السوقية إلى نحو 250 مليار دولار، وقد أبرز ذلك دور روسيا وبيلاروسيا بوصفهما مصدرين لما يقرب من ربع إمدادات الأسمدة اللازمة للمحاصيل في العالم. ففي حين أن المنتجات الزراعية الروسية، ومنها أبرز ثلاثة أنواع من الأسمدة (البوتاس والفوسفات والنيتروجين)، ليست مستهدفة بالعقوبات، فإن صادرات الأسمدة الروسية قيَّدتها الاضطرابات المتواصلة في الموانئ وعمليات الشحن والعقبات في الخدمات المصرفية والتأمين.
قال أندريه ملنشينكو، قطب صناعة الأسمدة الروسية ومؤسس شركة EuroChem Group AG، إن منظومة عقوبات الاتحاد الأوروبي سدَّت سبل التجارة حتى تسببت في تقليص شحنات الأسمدة بنحو 13 مليون طن في غضون عام واحد من الحرب.
تسبب اضطراب السوق في ارتفاع الأسعار خلال الصيف الماضي، فلجأ القادرون على شراء الأسمدة إلى تخزينها، ثم انخفضت الأسعار انخفاضاً كبيراً بعد ذلك، إلا أنها لا تزال أعلى مما كانت عليه قبل جائحة كورونا. أما في المناطق الفقيرة، فإن الإمدادات محدودة. وقد تفاقمت الأحوال سوءاً بسبب العقوبات المفروضة على بيلاروسيا، عملاقة إنتاج البوتاس، علاوة على القرار الذي أصدرته الصين، المنتج البارز لأسمدة النيتروجين والفوسفات، بفرضِ قيود على الصادرات لحماية الإمدادات المحلية، وهي قيود يستبعد المراقبون رفعها قبل منتصف عام 2023.
استدعت تلك القرارات جدلاً مألوفاً في هذا الموضوع، فقال ألكسيس ماكسويل، المحلل في Bloomberg Intelligence، إنه على الرغم من انخفاض الأسعار بأكثر من 50% عما كانت عليه عند أقصى ارتفاع لها العام الماضي، فإن المزارعين في جنوب شرق آسيا وفي إفريقيا متأثرون بنقص الإمدادات أكثر من نظرائهم في أمريكا الشمالية والصين والهند.
وحذر بنك التنمية الإفريقي من أن انخفاض إمدادات الأسمدة سيعقبه تراجع بنسبة 20% في إنتاج المحاصيل الغذائية. ويرى برنامج الأغذية العالمي أن أصحاب الحيازات الصغيرة في العالم النامي معرضون لمخاطر "أزمة كبيرة في توافر الغذاء، بفعل أزمة الأسمدة والصدمات المناخية والصراع المحتدم على الأسمدة التي لا غنى عنها في إنتاج المحاصيل الغذائية".
وفي الوقت نفسه، حذّر الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو في قمة مجموعة العشرين التي استضافتها بلاده في نوفمبر/تشرين الثاني، من أن "العالم مقبل على أزمة أشد وطأة" إذا لم تُتخذ خطوات فورية لتوفير المنتجات الغذائية بأسعار معقولة. أما رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجموعة العشرين، فقد تعهد في مقال بصحيفة The Times of India بالعمل على "نزع التسييس" عن إمدادات الأسمدة العالمية، "حتى لا تؤدي التوترات الجيوسياسية إلى أزمات إنسانية".
آثار الحرب على أوكرانيا جيوسياسياً
طالت التداعيات الجيوسياسية للحرب الأوكرانية مناطق بعيدة عنها من العالم، مثل كندا التي تأتي في صدارة الدول المنتجة للبوتاس في العالم (بعدها روسيا وبيلاروسيا)؛ فقد سافر وزير الزراعة البرازيلي إليها فور اندلاع الحرب لتأمين المزيد من الشحنات لبلاده التي تأتي بين القوى العظمى لتصدير الغذاء في العالم. وقالت حكومة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، إنها تنظر في زيادة صادرات "السلع الاستراتيجية" إلى أوروبا، ومنها البوتاس.
وفي غضون ذلك، تسعى شركة Nutrien Ltd الكندية، أكبر شركة للأسمدة في العالم، إلى زيادة إنتاجها بحلول عام 2026 زيادة تبلغ نسبتها 40% على مستويات الإنتاج في 2020. وقال كين ستينز، الرئيس التنفيذي للشركة: "نرى أن العالم ستزداد حاجته إلى هذه الإمدادات"، وعلَّل ذلك "بالآثار المتوقعة للاضطرابات الجيوسياسية" القائمة.
أعدَّت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أداة تعقب لتجارة الأسمدة العام الماضي، وقد كشفت البيانات أن كثيراً من المستوردين الصافين في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى يعتمدون على روسيا في الحصول على أكثر من 30% من مكونات الأسمدة الثلاثة الرئيسية.
وفي أوكرانيا، التي لطالما كانت سلة الإمدادات الغذائية لأوروبا، حذّر وزير الزراعة ميكولا سولسكي في يناير/كانون الثاني، من أن محصول الحبوب هذا الصيف سيتأثر بنقص الأسمدة المستخدمة في الزراعة خلال الخريف.
وبالنظر إلى السباق المحتدم على إمدادات الأسمدة، فقد لجأت بعض الدول إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي، فأعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن منح بقيمة 500 مليون دولار لزيادة "إنتاج الأسمدة الأمريكية الصنع"، و"إعادة الإنتاج والوظائف بهذا القطاع في الولايات المتحدة".
في مقابل ذلك، تشير بيانات المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في واشنطن، إلى أن أمريكا اللاتينية تعتمد في نحو 83% من واردات الأسمدة على روسيا والصين وبيلاروسيا. وقد تأثرت بعض دول القارة تأثراً شديداً بأزمة الأسمدة، مثل بيرو، التي كانت قد نجحت في تعزيز مكانتها بسوق الفاكهة والخضراوات في السنوات الأخيرة، وصارت المصدر الأول في العالم للتوت الأزرق، ومورداً رئيسياً للأفوكادو والهليون والخرشوف والمانجو، في صناعة يُتوقع أن تصل قيمتها في البلاد إلى نحو 10 مليارات دولار هذا العام.
المغرب.. الاتجاه إلى الفوسفات
لكن إذا كانت بيرو من الدول الخاسرة في أزمة الأسمدة، فإن المغرب من الفائزين فيها، وقد بدأت الأخيرة تغتنم نفوذها من ذلك في بلوغ أهدافها السياسية. فالمغرب موطن لنحو 70% من احتياطيات العالم المعروفة من الفوسفات، المصدر الطبيعي للفوسفور، والعنصر الأساسي في الأسمدة. وقد رفع ذلك من مكانة مجموعة "المكتب الشريف للفوسفاط" المغربية، المسؤولة عن تعدين فوسفور البلاد ومعالجته وتصنيعه وتصديره، وجعل المغرب دولة شديدة الأهمية للأمن الغذائي العالمي في عالم ما بعد الحرب الروسية.
شرع المغرب في استخدام تبرعات الأسمدة ودعم المبيعات إلى بعض الدول لترويج تطلعاته إلى الريادة الإقليمية. وقد أشار مايكل تانشوم، أستاذ الاقتصاد السياسي، في مقال لمعهد الشرق الأوسط، إلى زيادة المغرب للمبيعات والاستثمار المحلي والتواصل التنموي على أساس الدعم بالأسمدة، و"استخدمت الرباط صادرات المكتب الشريف للفوسفاط أداةً للسياسة الخارجية، لا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى".
وقالت ندى المجدوب، نائبة الرئيس التنفيذي لمجموعة "المكتب الشريف للفوسفاط"، في رد عبر البريد الإلكتروني، إن المجموعة رغم أنها مملوكة للدولة، فإن لها هوية منفصلة ومتمايزة عن الحكومة. لكن "مصالح الحكومة والمجموعة تتلاقى في أحيان كثيرة، لا سيما في مساعي المجموعة لتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة وزيادة الإنتاجية في جميع أنحاء إفريقيا".
تعهدت المجموعة بمضاعفة إمداداتها من الأسمدة لإفريقيا في عام 2023 إلى نحو 4 ملايين طن، ويأتي ذلك بعد تبرعها بكميات تزيد على 500 ألف طن من الأسمدة المخفضة السعر خلال العام الماضي. وقد استحسنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وغيرها من المنظمات المعنية خطوة المغرب، ويرى بعضهم أن الأمر يخدم مصالح المغرب أيضاً، فهو يخوض نزاعاً مع جارته الجزائر بشأن الصحراء الغربية، وقد باتت الأسمدة ضلعاً في صراع كسب النفوذ بالقارة.
في سبتمبر/أيلول، تلقى الرئيس الكيني الجديد وليام تورو، مكالمة تهنئة من ملك المغرب محمد السادس، وبعد ذلك أعلن روتو لمتابعيه على تويتر أن كينيا تلغي اعترافها باستقلال الصحراء الغربية التي ترى المغرب تبعيتها لها. ومن ثم أشادت وزارة الخارجية المغربية بالخطوة وأعلنت أن البلدين يعملان على تعزيز الروابط التجارية، ومنها روابط "الأمن الغذائي (استيراد الأسمدة)". وسرعان ما بدأت شحنات الأسمدة في الوصول إلى كينيا، وإن كان روتو قد حذف تغريدته فيما بعد.
يلقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باللوم على العقوبات في تعطل إمدادات الأسمدة من روسيا، وقال في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني إن هناك أكثر من 400 ألف طن محجوزة في الموانئ الأوروبية. وتقول الأمم المتحدة إن الأزمة تكمن في امتناع شركات التأمين عن تغطية الشحنات الروسية، وعجز البنوك الزراعية الكبرى عن إجراء المعاملات المالية بعد انفصالها عن منظومة "سويفت" المالية العالمية للاتصالات بين البنوك.
بناءً على ذلك، أصدر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بياناً مشتركاً في نوفمبر/تشرين الثاني، يوضح أن "البنوك وشركات التأمين والشحن وغيرها من الجهات الفاعلة يمكنها الاستمرار في نقل الأغذية والأسمدة الروسية إلى العالم".