تعاطف عربي وإسلامي لافت وشح أوروبي.. كيف أظهر الزلزال أن الصديق الحقيقي للأتراك هم العرب والمسلمون؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/13 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/13 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني/الأناضول

بدأت المساعدات لتركيا وسوريا تدفق بسرعة من كل مكان بعد اتضاح حجم كارثة الزلزال، ولكن اللافت أن هناك تعاطفاً ضخماً وتدفقاً كبيراً للمساعدات من العالم العربي لتركيا، مقابل برود أوروبي لا يتلاءم مع إمكانيات القارة الثرية ولا أهمية تركيا بالنسبة لها.

ورغم أن المشاكل السياسية بين تركيا وعدد من الدول العربية قد انتهت لتوها، وقد يكون هناك حساسية شعبية من إظهار التضامن مع الشعب التركي، خوفاً من إغضاب الأنظمة العربية الحساسة عادة من النظرة الشعبية الإيجابية لحكم حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، إلا أنه كان هناك تدفق لافت من المساعدات من قِبل الدول العربية، حكومات وشعوباً، رغم أن إمكانياتها لا تضاهي الدول الأوروبية.

المساعدات لتركيا وسوريا تتدفق من الدول العربية بشكل كبير

ومنذ وقوع الزلزال، أعلنت 16 دولة عربية رسمياً إنشاء جسور جوية وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة لدعم تركيا، هي: السعودية، قطر، الكويت، الإمارات، مصر، لبنان، الجزائر، الأردن، البحرين، ليبيا، تونس، فلسطين، العراق، موريتانيا، السودان، سلطنة عمان.

فلقد كان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أول زعيم دولة يزور تركيا بعد الزلزال، حيث وصل الأحد 12 فبراير/شباط 2023 والتقى الرئيس التركي، وقبلها بيومين تبرع الشيخ تميم بـ50 مليون ريال قطري (14 مليون دولار) لصالح متضرري الزلزال في تركيا وسوريا، جاء التبرع ضمن حملة "عون وسند" الإغاثية لمتضرري الزلزال بالبلدين عبر البث التليفزيوني المباشر.

وأعلنت الخطوط الجوية التركية أنها نقلت، الأحد، 46 طناً من المساعدات الإنسانية القطرية إلى ولاية أضنة لتوزيعها على ضحايا كارثة الزلزال جنوبي تركيا. 

وزار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، الأحد 12 فبراير/شباط 2023، المناطق المتضررة من الزلزال في جنوبي تركيا، مقدماً التعازي لعائلات الضحايا، ومتفقداً جهود الفرق الإماراتية المشاركة في عمليات الإنقاذ.

المساعدات لتركيا
وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد – رويترز

وقبل ذلك دشن طيران الإمارات جسراً جوياً بين دبي وإسطنبول لنقل نحو 100 طن من مواد الإغاثة، حسب وكالة الأناضول.

وقرر رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان تقديم 50 مليون دولار للمتضررين من الزلازل من الشعب السوري الشقيق إضافة إلى 50 مليون دولار إلى الشعب التركي الصديق.

كما أطلق الهلال الأحمر الإماراتي حملة "جسور الخير" لجمع التبرعات النقدية والعينية لتركيا وسوريا، وتبرعت والدة الرئيس الإماراتي الشيخة فاطمة بنت مبارك بـ13 مليوناً و600 ألف دولار للمتضررين من الزلزال.

وفي السعودية، وجَّه الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، المركز بتسيير جسر جوي وتنظيم حملة شعبية عبر منصة "ساهم"، لدعم تركيا وسوريا بمواجهة الزلزال الذي ضربهما.

وارتفع عدد المشاركين بحملة تبرعات شعبية أُطلقت في السعودية لإغاثة سوريا وتركيا، إلى مليون و23 ألفاً و406 متبرعين، بحصيلة أولية تجاوزت 311 مليوناً و841 ألفاً و204 ريالات (نحو 83 مليون دولار).

وشاركت فرق الإنقاذ السعودية بفاعلية في عمليات الإنقاذ. 

وأجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عقب الزلزال اتصالاً هاتفياً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث قدم التعزية في ضحايا الزلزال، كما أرسلت مصر 5 طائرات عسكرية محملة بمساعدات طبية عاجلة لسوريا وتركيا.

وسيّرت سلطنة عُمان جسراً جوياً لنقل المواد الإغاثية للمناطق المتضررة من الزلزال في سوريا وتركيا، وشاركت هيئة الدفاع المدني والإسعاف العمانية في عمليات الإنقاذ في جنوب تركيا.

وقدمت الحكومة الجزائرية مساعدة مالية بقيمة 45 مليون دولار إلى تركيا وسوريا، وأرسل الهلال الأحمر الجزائري 210 أطنان من المساعدات الإنسانية، التي شملت مواد غذائية وخيماً ومساعدات أخرى، وتوزعت على النحو التالي: 115 طناً منها وُجهت إلى سوريا، و95 طناً إلى تركيا.

وأعلن الأردن، الأحد، 12 فبراير/شباط 2023 تسيير طائرتين عسكريتين إلى مطار أضنة التركي، وعلى متنهما 480 خيمة عائلية من أصل 10 آلاف، سيتم إرسالها تباعاً، لمساعدة المتضررين من الزلزال

الدول العربية المنكوبة والفقيرة تسارع بتوجيه الدعم

أعلن وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني، حاتم البكري، أن حصيلة حملة "أغيثوهم" لصالح ضحايا زلزال تركيا وسوريا بلغت 4 ملايين و250 ألف شيكل (نحو 1.2 مليون دولار)، كما غادرت طائرة مساعدات موريتانية، الأحد، مطار العاصمة نواكشوط متوجهة إلى تركيا للمساهمة في إغاثة المتضررين من الزلزال.

وأعلن السودان تقديم كميات من مواد الإيواء دعماً لجهود الإغاثة والخدمات للمتضررين من الزلزال في تركيا، وسيتم نقلها بجسر جوي ينطلق من الخرطوم.

وكان التعاطف لافتاً أيضاً في العالم الإسلامي بين الفقراء والأغنياء على السواء، إذ قال رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، السبت 11 فبراير/شباط 2023، عبر حسابه على تويتر: "تأثرت بشدة برجل باكستاني مجهول دخل إلى السفارة التركية في الولايات المتحدة، وتبرع بمبلغ 30 مليون دولار لضحايا الزلزال في تركيا وسوريا".

ونشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لعمال في مطار جدة يقدمون تبرعات لمعتمرين أتراك قبيل عودتهم لبلادهم، ونقلت 5 طائرات محملة بالمساعدات من أوزبكستان لضحايا زلزال تركيا.

أوروبا تقدم مساعدات لتركيا وسوريا، ولكن هل تليق بقدراتها؟

بالطبع هناك مساعدات أوروبية وأمريكية ضخمة لتركيا، وكانت مؤثرة وفعالة، ويمكن رصد أبرزها ومقارنتها بالمساعدات المقدمة من الدول الإسلامية ولاسيما العربية.

وبعد نحو عام من بدء الحرب بينهما اتفقت روسيا وأوكرانيا على قضية واحدة خلال هذه الأيام وهي ضرورة إغاثة المتضررين من الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا.

كما أعلن البيت الأبيض عن إرسال فرقتين تتألف كل واحدة من 79 مسعفاً مجهزين بـ12 كلباً بوليسياً و170 ألف رطل من المعدات والأجهزة المتخصصة بما في ذلك معدات للفرز وتحطيم الخرسانة بعد أن قال الرئيس الأمريكي على حسابه الرسمي على تويتر إنه طلب من أجهزته "تقديم كل المساعدة الضرورية أياً كانت"، كما أفادت تقارير بإرسالة حاملة طائرات لتركيا.

وقام الاتحاد الأوروبي بتفعيل "آلية الحماية المدنية" الخاصة به وتمت "تعبئة فرق من عشر دول أعضاء بشكل عاجل"، وغادر الفريقان الهولندي والروماني بالفعل، بحسب بيان صادر عن المفوض الأوروبي لإدارة الأزمات يانيز ليناركيتش.

وأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن الاتحاد الأوروبي يعتزم استضافة مؤتمر للمانحين مطلع آذار/مارس في بروكسل لجمع مساعدات دولية لسوريا وتركيا بالتنسيق مع السلطات التركية.

وأرسلت فنلندا، أمس الإثنين، مساعدات إيواء لمساعدة 3 آلاف شخص تضرروا من الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا الإثنين الفائت.

وعبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن تضامنه مع تركيا إثر كارثة الزلازل، وقررت فرنسا، توجيه 139 من عمال الإنقاذ التابعين للأمن المدني إلى تركيا.

وأعلنت إيطاليا والمجر وبولندا وإسبانيا وضع فرق إنقاذ تحت تصرف تركيا، وأعلنت الأخيرة إرسال "أفراد ومسيرات" متوجهة إلى ملاطية (تركيا) حيث يقع مركز المساعدة الدولية.

وقدمت كل من اليونان والسويد اللتين تربطهما علاقات متوترة مع أنقرة، المساعدات لها؛ حيث أعلنت السويد التي ترأس الاتحاد الأوروبي منذ كانون الأول/ديسمبر، التبرع بحوالي 650 ألف دولار للجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الهلال الأحمر مخصصة لتركيا وسوريا.

واللافت أنه من الواضح أنه واحدة من أكثر الدول الأوروبية فاعلية في تقديم المساعدة لتركيا كانت جارتها اللدودة اليونان، كما زار وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس، المناطق المتضررة من الزلزال.

الاتحاد تعهد بعقد مؤتمر للتعامل مع تداعيات الزلزال في تركيا وسوريا/رويترز

وقال المستشار الألماني أولاف شولتز: "قلوبنا مع تركيا وضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد فجر الإثنين". 

ووعدت إيرلندا بتقديم مساعدات إنسانية قيمتها مليونا يورو.

وأعلنت الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، عن إرسال مساعدات بقيمة 5,9 مليون دولار، بما في ذلك رجال إنقاذ وفرق طبية ومعدات طوارئ.

وفاقت المساعدات الشعبية ببريطانيا لدعم متضرري زلزال تركيا وسوريا تبرعات الحكومة، حيث تخطت 52 مليون جنيه إسترليني من بينها 5 ملايين إسترليني مساعدات حكومية، ولا يمكن استبعاد أن هذه المساعدات جاء جزء كبير منها من الجاليات العربية والإسلامية بالمملكة المتحدة.

استعراض بسيط لأرقام المساعدات العربية والغربية يُظهر أن حجم المساعدات الغربية قليل بالنظر لإمكانيات أوروبا والولايات المتحدة، وبالنظر لموقع تركيا بالنسبة للغرب، وخاصة أوروبا والناتو، وبالنظر إلى أن أنقرة هي مرشح رسمياً، ومنذ عقود للانضمام للاتحاد الأوروبي، والأهم يظهر ضآلتها عند مقارنة حكم الاقتصادات العربية مقابل الغربية.

كاتب بريطاني: الزلزال كشف وجه أوروبا القبيح

وفي هذا الإطار كتب ديفيد هيرست رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، مقالاً بعنوان "زلزال تركيا ووجه أوروبا القبيح دائماً!"، مشيراً إلى ضعف الاهتمام الأوروبي بالكارثة رغم أن تركيا جارة أوروبا.

ويقول هذا الأسبوع، حلّت زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى بريطانيا وبروكسل مكان الزلزال في صدارة الاهتمامات.

ويشير هيرست إلى أن بريطانيا خصصت 3 مليارات دولار لتسليح أوكرانيا مقابل 6 ملايين دولار لإغاثة المنكوبين من الزلزال الذي أثر على حياة 23 مليون شخص.

ويقارن ذلك بجمع السعوديين أكثر من 51 مليون دولار بعد 4 أيام من إطلاق منصة "ساهم" لإغاثة سوريا وتركيا.

تركيا أكبر مستضيف للاجئين ويمينيون أوروبيون يشمتون بها

وأشار هيرست إلى أن تركيا هي أكبر دولةٍ مضيفة للاجئين في العالم، بعد أن أصبحت تستضيف أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري و320 ألف شخص من الجنسيات الأخرى. وأنفقت تركيا 5.59 مليار دولار على المساعدات الإنسانية العام الماضي، أي ما يعادل 0.86% من ناتجها المحلي الإجمالي، لتصبح رائدةً عالمية في هذا المجال، بحسب تقرير منظمة Development Initiatives.

كما تحل تركيا في المرتبة الثانية على صعيد الأموال التي جرى إنفاقها، وذلك بعد الولايات المتحدة. ويقول: لا شك أنها أرقام مذهلة بالنسبة لحكومةٍ اعتاد الغرب تشويه سمعتها.

ثم يضيف: "لكن تلك الجهود ليست مضمونة الاستدامة؛ إذ تدير الأحزاب المعارضة في تركيا حملات طوّافة من أجل جمع الأموال لتذاكر حافلات ترحيل السوريين. بينما انقلب بعض الأتراك على اللاجئين في أعقاب الكارثة، وسط بحثهم عن أحدٍ لتحميله مسؤولية بطء جهود الإغاثة.

ولكن أسوأ ما في الموقف الأوروبي، ما قاله نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي إن وسماً أطلقه اليمين المتطرف لـ"الشماتة" بزلزال تركيا، تصدَّر العبارات الأكثر تفاعلاً عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، ومن بين التغريدات، دعوات لسحب المساعدات الإنسانية، وحرمان المنكوبين من الإغاثة، بسبب رفض تركيا الموافقة على انضمام السويد لحلف الناتو، بعد سماح ستوكهولهم بحرق المصحف.

هل أسباب البرود الأوروبي هو توتر العلاقات مع أردوغان؟ 

يمكن محاولة تفسير هذا البرود الأوروبي اللافت في دعم تركيا، إلى توتر العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية برئاسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبين الغرب، في ظل رفض أردوغان ما يعتبره محاولات أوروبية للوصاية على بلاده وتهديد مصالحها أحياناً مثلما يحدث في خلافها مع اليونان، وأيضاً في المسألة الكردية، مقابل اتهام الاتحاد الأوروبي لأردوغان بالابتعاد عن المعايير الأوروبية ومناوءة المصالح الأوروبية أحياناً.

ولكن هذا التفسير ليس كافياً على الإطلاق، فالواقع أن التوتر بين حكومة أردوغان وبين بعض الأنظمة العربية كان أكبر بكثير التوتر بينه وبين أوروبا.

فالواقع أن الأنظمة العربية تقليدياً لديها حساسية ذاتية وشديدة من نموذج الحكم في تركيا؛ لأنها تخشى أن يكون ملهماً لفكرة تولي أحزاب إسلامية معتدلة السلطة على أساس ديمقراطي، وبالتالي كان الخلاف معه خلافاً وجودياً وليس خلافات جزئية كما هو الأمر مع أوروبا.

والخلافات بين تركيا وبين بعض الدول العربية انتهت للتو، بينما بعض الخلافات ما زالت في مرحلة النقاش حول سبل حلها مثلما يحدث مع مصر.

وكذلك الخلافات الأوروبية التركية انتهت تقريباً، وتلعب أنقرة دوراً لا غنى للغرب عنه في الأزمة الأوكرانية وفي جهود حل مشكلات الطاقة الأوروبية.

إنقاذ المنكوبين جزء من الثقافة العربية الإسلامية

ولكن أسباب هذه البرودة الأوروبية مقابل الكرم العربي أعمق.

قد يكون أحد أسباب التحرك العربي الواسع إلى الطباع العربية والقيم الإسلامية في إنقاذ المنكوبين، وهي طباع أحياناً ترى أن من شيم الكرام مساعدة الناس حتى في ظل الخلافات، بل إن الخلافات قد تكون حافزاً لإظهار الترفع، مقابل البراغماتية الغربية المعروفة.

وهي طباع جعلت زعيماً بدوياً في مصر خلال الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، يقتسم رشفات الماء ولقيمات الخبز الأخيرة مع ضابط فرنسي أسير كان قد اختطفه للتو من جيش نابليون، ثم تاها معاً في الصحراء.

وقد تعود لشعور فطري عربي وإسلامي بأن تركيا جزء مهم من العالم الإسلامي وبلد شقيق للعرب (البلد الأقرب في الجغرافيا والثقافة والتاريخ للعالم العربي)، وهو شعور قوي بصرف النظر عن الخلافات السياسية والأيديولوجية.

هل أثبت خيار حزب العدالة بالتوجه شرقاً وخاصة نحو العرب والمسلمين صحته؟

يظهر ذلك صحة خيار حزب العدالة بالتوجه شرقاً، خاصة نحو العرب والمسلمين وكذلك إفريقيا وروسيا وآسيا الوسطى وحتى أمريكا اللاتينية، بدلاً من الانتظار على عتبة أوروبا أملاً في قبول عضوية الاتحاد الأوروبي.

كانت تركيا بالنسبة لأوروبا دوماً هي الآخر وأحياناً العدو (ومعها أحياناً روسيا)، وقبلها العرب المسلمون الذين طرقوا أبواب أوروبا ووصلوا يوماً، لقلب روما وقرب باريس.

ولكن منذ حرب الاستقلال بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى تسعى تركيا للاندماج مع أوروبا، وبعد الحرب العالمية الثانية، تحولت لعضو شديد الأهمية في حلف الناتو، ولعبت أنقرة دوراً شديد الأهمية في دعم القوات الأمريكية في حرب كوريا في الخمسينيات، وأصبح جيشها ثاني أكبر جيش في الحلف، وكان له دور شديد الأهمية باعتبار أن تركيا كانت أقوى دول الحلف التي تجاور الاتحاد السوفييتي مباشرة، ومن ناحية بطنه الرخوة (القوقاز)، كما أنها تمسك بتلابيب الأسطول السوفييتي في البحر الأسود عبر سيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل.

ولكن في أوقات الأزمات كما حدث في الخلافات مع اليونان تنحاز أوروبا وبصورة أقل أمريكا لأثينا، رغم أن الأخيرة ليست بذات أهمية تركيا الاستراتيجية، كما أن أغلب الخلافات والأزمات كانت اليونان (أو القبارصة اليونانيون) هي التي تبدأ باختراق الاتفاقات السابقة مثل الانقلاب في قبرص الذي أراد ضمها لليونان، وأدى للغزو التركي للجزيرة عام 1974، ومخالفة أثينا للاتفاقات الدولية بتسليح جزرها القريبة من تركيا.

كما طلبت تركيا منذ عقود، الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة، وبينما تم قبول اليونان كأول عضو أرثوذكسي رغم أن أوضاعها الاقتصادية لم تكن تختلف عن تركيا كثيراً، كما أن القلق من دور العسكريين في السلطة كان قائماً بها مثل تركيا.

ولكن قبل الأوروبيون اليونان ضمن التكتل، رغم علمهم بأن قبولها يعني واقعياً إضعافاً شديداً لفرص قبول أنقرة في الاتحاد الأوروبي في ظل الفيتو اليوناني المتوقع بجانب توريط الكتلة الأوروبية في مشكلات اليونان وقبرص المعقدة مع تركيا (الطبيعي كان قبول تركيا واليونان في وقت واحد).

ومع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية السلطة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وتنفيذها معظم شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، باعتراف الاتحاد، لم يتم ضمها بل ظلت تركيا صاحبة لقب أطول مرشح للانضمام، وهي مرحلة تعني أن أوروبا تواصل إملاء الشروط على أنقرة بما في ذلك شروط تخدم مصالح أو أيديولوجيات محدودة في بعض دول الاتحاد الأوروبي وتطلب منها الانصياع حتى تحافظ على أملها في الانضمام المنشود.

وكان واضحاً دوماً أن التكتل الأوروبي يريد أن يبقي تركيا بشكل دائم في مكانة مرحلة الترشح، دون أن تصل لمرحلة العضوية، والدليل على ذلك توالي دخول أعضاء أفقر من تركيا وأصغر وديمقراطيتهم هشة وتعاني من انتشار الفساد مثل بلغاريا وكرواتيا.

كانت أوروبا تريد تركيا حارسة لبوابتها أمام مشكلات الشرق الأوسط والتجبر الروسي، دون أن تحظى بنعيم القلعة الأوروبية التي وصفها مؤخراً مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيف بوريل بأنها حديقة قمنا ببنائها بينما بقية العالم غابة.

ولكن نظرة حزب العدالة الذي يرى أنه إرثه يعود للدولة العثمانية كانت مختلفة، فهو يعتبر أن الدولة العثمانية في ذروة قوتها كانت تحكم أجزاء كبيرة من أوروبا، وأن تركيا كوريثة لها هي جزء من أوروبا ولكن بشروطها أو على أقل شروط مقبولة للطرفين وليس على أساس من التبعية والانصياع.

عبر عودته لإرث الدولة العثمانية وغيرها من الدول الإسلامية التاريخية في أوروبا، تخلى حزب العدالة على شعور النقص الذي يسيطر على كثر من العرب والمسلمين وغير الأوروبيين (بل كثير من الأوروبيين) تجاه أوروبا ولا سيما شمالها المسيطر على بقية القارة.

وعلى عكس ما يظن البعض فإن حزب العدالة يرى أن تركيا جزء من أوروبا، وأن البعد الأوروبي هو جزء من هوية تركيا الثرية التي تشمل بحكم تاريخها وجغرافيتها (وتاريخ الدولة العثمانية وجذور الشعب التركي) أبعاداً شرق أوسطية وقوقازية وبحر أسودية وآسيوية وحتى إفريقية.

ولكن الأهم أن نظرة حزب العدالة مختلفة لأوروبا، فهو يرى أن أوروبا ليست قارة مسيحية فقط تحكمها نخب شمال القارة، التي تنظر لبقية العالم (بما فيها بقية أوروبا) نظرة استعلاء، وتتبنى قيماً ليبرالية متطرفة، وتعتبرها قيماً ديمقراطية عالمية، بينما تقودها أحقاد يمينية تعود للعصور الوسطى.

فالواقع عكس ذلك، أوروبا قارة متنوعة ومثلما يتم التركيز على ما يوصف بالإرث اليهودي المسيحي لأوروبا، يتم التجاهل الإرث الإسلامي لأوروبا، وأن الإسلام ليس ديناً وافداً، على القارة بل جزء أصيل وقديم وواسع الانتشار بها (إلا إذا اعتبرنا المسيحية واليهودية وافدتين أيضاً من الشرق الأوسط).

فالإسلام وصل أوروبا بعد نحو من مئة عام من الهجرة المحمدية، وكان دوماً هناك وجود إسلامي كبير وسياسي في القارة، بدءاً من الأندلس وصقلية، والفتوحات الإسلامية بجنوب فرنسا وإيطاليا، وصولاً للخانات التترية الكبرى التي سيطرت على أجزاء واسعة من شرق أوروبا، والدولة العثمانية التي سيطرت لقرون طويلة على الجنوب الشرقي لأوروبا، بل إن هذه المنطقة تعد معقلها الرئيسي وموطن قادتها وعسكرييها وساستها.

يتزامن مع هذه النظرة التي ترفض النظرة الفوقية لنخب شمال أوروبا، واحتكارها لمفهوم أوروبا والديمقراطية، نظرة موازية لتركيا بأنها متعددة المشارب، وأنها قائدة في عالمها الإسلامي، ولديها علاقات تاريخية وثيقة لا تخلو من المنافسات مع العرب والإيرانيين والروس، وكذلك دول العالم الإسلامي البعيدة مثل باكستان وماليزيا وإندونيسيا، وبالطبع دول آسيا الوسطى التي يجمعها أصول وإرث ثقافي ولغوي مع تركيا الحديثة.

اللامركزية الدبلوماسية.. هذه الأيديولوجيا ترجمت في الاقتصاد

ترجم حزب العدالة هذه الرؤية إلى تغييرات سياسية ودبلوماسية وعسكرية واقتصادية، فلم تعد بوصلة السياسة والاقتصاد التركية الوحيدة العواصم الغربية الكبرى المتعجرفة التي لم تتقبل فكرة الندية، وأرادت تركيا حارس بوابة للغرب لا غير.

بل سعت هذه السياسة لإطلاق ما يمكن تسميته دبلوماسية لامركزية تركز على الفاعلين الإقليميين بما في ذلك أوروبا، وهو ما يظهر في قوة علاقة تركيا مع دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا، وفي أوروبا الشرقية مع أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق والمجر، وكذلك دول جنوب شرق أوروبا التي كانت مستعمرات للدول العثمانية حيث لدى أنقرة علاقات قوية مع دول مثل صربيا وبلغاريا ورومانيا.

بجانب علاقات وثيقة مع المنافسين الإقليميين إيران وروسيا، وفي العالم العربي كانت المشكلة متعلقة بدعم تركيا للربيع العربي والإسلاميين المعتدلين والديمقراطية أكثر منها منافسة مع الدول أو الشعوب.

ساعد على ذلك موقع تركيا، وتطور صناعاتها الدفاعية، وأنه أصبح لها نشاط سياسي عسكري خارج حدودها، سواء عبر التدخل المباشر أو عبر دعم الحلفاء.

على الصعيد الاقتصادي، عمد حزب العدالة لنهج اقتصادي مرن يحاول الحصول على أفضل ما في النموذج الأوروبي، عبر التصنيع بجودة أوروبية أو مقاربة لها (أو أعلى من بعض دول شرق وجنوب أوروبا)، مع بيروقراطية وتكلفة أقل من الاتحاد الأوروبي، ويقول الأتراك عن منتجاتهم جودة أوروبية وأسعار صينية.

جعل ذلك تركيا لديها تعدد لافت للشراكات التجارية، وسوق واسعة، فمن أبرز شركائها التجاريين دول نادراً ما تجتمع في قائمة واحدة مثل ألمانيا وروسيا وإيران ودول البلقان والدول العربية خاصة دول مثل العراق والسعودية والإمارات ومصر.

وأصبحت تركيا أحد أبرز المصدرين والمقاولين في قطاعات عديدة في منطقة تمتد من حدود الصين مع كازاخستان شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً ومن بحر الشمال شمالاً إلى خليج غينيا جنوباً.

وتحولت إسطنبول ومطارها لنقطة التقاء الشرق والغرب كما كانت في عهد الدولة العثمانية، يأتي السياح والمتسوقون من العالم العربي وإيران وهولندا وألمانيا وروسيا، وتستضيف لاجئين سوريين وآخرين من الإيغور، ورجال أعمال أرمن، ومليارديرات روساً فارين من الاضطهاد البريطاني في لندن وشباباً روسياً هارباً من حملة بوتين للتجنيد الإجباري، وأوكرانيين دمر الروس بيوتهم.

بالطبع هذا التنوع وبالأخص الانفتاح على العالمين العربي والإسلامي لا يعجب بعض القوى السياسية التركية التي لا ترى أنه لا وجه لتركيا سوى الوجه الأوروبي المأمول.

ويركز هؤلاء على سلبيات الانفتاح التركي على العالم العربي والشرق سواء في مجال السياحة أو استضافة اللاجئين.

ولكن اليوم تثبت محنة الزلزال مثلما أثبت قدوم السائح العربي لإسطنبول بعد العمليات الإرهابية، صحة خيار حزب العدالة بإعادة تركيا لمحيطها الإسلامي والأوراسي، الذي أثبت أنه رغم المشكلات السياسية الطارئة يقدر تركيا، بينما النخب الأوروبية الشمالية لا يقدرون إلا أنفسهم. 

تحميل المزيد