يشن الغرب حرباً شعواء، تهدف إلى محاصرة تطبيق تيك توك، رافعاً شعار "التجسس" لصالح الصين، فما مدى واقعية هذا الاتهام؟ وما علاقة فيسبوك بالقصة؟
تناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية قصة تلك الحرب الغربية على التطبيق الصيني، في تقرير بعنوان "تيك توك.. كيف انقلب الغرب على التطبيق المفضل للجيل زد؟"، كشف أبعاداً مختلفة لذلك الصراع.
كان النقاش المحتدم حول تطبيق تيك توك قد بدأ في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قبل أن يستمر تحت قيادة الرئيس الحالي جو بايدن. فعلاوةً على حظر تنزيل التطبيق في جميع أجهزة الحكومة الفيدرالية، حظرت 27 ولاية تنزيل تطبيق تيك توك على أجهزتها، ما أثر على عددٍ كبير من المدارس والجامعات الأمريكية أيضاً. بينما شهد الكونغرس في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تقديم مشروع قانون من الحزبين، لفرض حظرٍ على استخدام أي أحدٍ للتطبيق داخل حدود الولايات المتحدة.
التضييق الأمريكي والأوروبي على تيك توك
وامتد التشكيك في تيك توك إلى القارة الأوروبية أيضاً، حيث ردد بعض ساسة أوروبا مخاوف نظرائهم في واشنطن، مؤكدين أن تيك توك يمثل تهديداً أمنياً. كما حذروا من أن التطبيق قد يُسلّم بيانات المستخدمين إلى السلطات الصينية، و/أو قد يُستخدَم كأداة دعايةٍ للحكومة الصينية. ما سيؤثر بطريقةٍ بارعةٍ على مستخدمي تيك توك النشطين شهرياً، الذين يجاوز عددهم المليار مستخدم، بغرض توجيههم لأفكارٍ تتوافق مع أهداف السياسة الخارجية الصينية.
ويحمل الأمر رمزيةً تُعبّر عن حجم تصعيد التوترات بين الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، وبين الصين، إذ يتمحور الخلاف التقني حول جنون الارتياب الحقيقي من التجسس، كما يمثل بالدرجة نفسها ساحةً مفيدة للدفاع عن المواقف الجيوسياسية.
كانت طائرة مقاتلة عسكرية أمريكية قد أسقطت، السبت 4 فبراير/شباط، ما تقول إدارة بايدن إنه منطاد تجسس صيني، بينما تصرّ بكين على أنه لم يكن سوى بالون لأبحاث الطقس، في استمرار للصراع الجيوسياسي المستعِر بين الصين وأمريكا.
فقد تحدّثت تقارير أمريكية، الأربعاء 1 فبراير/شباط، عن اختراق المنطاد الصيني الأجواء الأمريكية، وهو ما أثار انتقادات عنيفة من جانب الجمهوريين لإدارة بايدن الديمقراطية، وتسبب في مزيد من التدهور في العلاقات بين الصين وأمريكا. وقال بايدن، السبت: "لقد نجحنا في التخلص منه، وأريد أن أثني على طيّارِينا الذين فعلوا ذلك"، وأضاف أنه أصدر أمراً يوم الأربعاء بإسقاط المنطاد، لكن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أوصت بالانتظار حتى يمكن القيام بذلك في منطقة مفتوحة فوق المياه.
ومنذ اللحظة الأولى، كان هناك إصرار من جانب واشنطن على أن المنطاد الصيني، الذي يُحلق على ارتفاعات شاهقة تبلغ 60 ألف قدم، هو أداة تجسس صينية متقدمة، ما فتح ملف التجسس المتبادَل بين البلدين وأدواته المختلفة.
وفي عصر "شبكات الإنترنت المجزأة"، بدأت تتصاعد المخاوف حيال سيادة البيانات وتدفق المعلومات. ولا شك أن طريقة تعامل الحكومات الغربية مع تيك توك تمثل خطوةً حاسمة على طريق تنظيم التقنية في العقود الآتية.
ويُمكن القول إن الاتهامات المرتبطة بتسليم بيانات مستخدمي تيك توك إلى الحكومة الصينية لا أساس لها، بحسب خبراء تحدثوا إلى صحيفة الغارديان، لكن مزاعم التطبيق حول مصداقيته تعرضت لضربةٍ قوية، في ديسمبر/كانون الأول، بعد الكشف عن وصول موظفي شركة ByteDance إلى بيانات التطبيق في محاولةٍ لتعقب مواقع عدة صحفيين أجانب، وذلك بغية اكتشاف مصادرهم داخل الشركة.
كيف يدافع التطبيق الصيني عن الاتهامات الغربية؟
التقى مسؤولو تيك توك بالمفوضين الأوروبيين، الشهر الماضي، لنقاش خصوصية البيانات والإشراف على المحتوى، ضمن سياق خطط الشركة من أجل الامتثال للوائح الخدمات الرقمية الجديدة داخل الاتحاد الأوروبي. حيث قال نائب البرلمان الأوروبي البلجيكي، توم فاندندريشه: "بدأوا يدركون أن تيك توك ليس مجرد تطبيق للتواصل، أو تبادل مقاطع الفيديو، أو التسلية، بل يجمع تيك توك بيانات مواطنينا".
وتجدر الإشارة إلى أن تطبيق تيك توك ليس الوحيد المتورط في مثل هذه الممارسات، إذ تبيّن أن الشركات الأمريكية مثل مايكروسوفت وأوبر، متورطة في تتبع مستخدميها الأفراد من خلال منتجاتها. كما أن عملاق منصات التواصل الاجتماعي، فيسبوك، تم تغريمه أكثر من 5 مليارات دولار من قبل بسبب فضيحة تسريب بيانات ملايين المستخدمين، وهي ما تعرف بفضيحة "أناليتكا".
لكن الأنباء الأخيرة تأتي في وقتٍ شديد الحساسية بالنسبة لشركة تيك توك داخل الولايات المتحدة، حيث كتب عضو هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية، براندان كار، تغريدةً قال فيها: "لا بد أن يكون هذا هو المسمار الأخير في نعش الفكرة القائلة إن بإمكان الولايات المتحدة الثقة في تيك توك"، في إشارة إلى قضية المنطاد.
لكن الحوار الدائر في أوروبا مختلف بعض الشيء، إذ كانت الكتلة الأوروبية أقل ميلاً لتمييز تطبيق تيك توك بعينه على أساس موقع شركته الأم، بل يحقق الاتحاد الأوروبي في أمر التطبيق، بسبب مخاوف خصوصية البيانات. وقد فتح مفوض حماية البيانات الأيرلندي تحقيقين في أمر الشركة عام 2021، حيث يركز أحدهما على التعامل مع بيانات الأطفال، بينما يتحقق الآخر من أن عمليات نقل البيانات إلى الصين تمتثل للوائح البيانات الأوروبية.
ولا ينصبّ تركيز الاتحاد الأوروبي على تيك توك فقط؛ بل تورطت شركات مثل فيسبوك وجوجل في مشكلات مرتبطة بقوانين خصوصية البيانات الأوروبية أيضاً، بينما يتجادل الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة حول السماح بإرسال البيانات الأوروبية إلى الأراضي الأمريكية، وذلك خشية أن تقع تحت يد وكالات الاستخبارات الأمريكية.
ويقول بعض خبراء التقنية إن الاتهامات تحمل قدراً من المبالغة، حيث أوضح رئيس تحرير مشروع DigiChina Project، التابع لجامعة ستانفورد، غراهام ويبستر، أن تهديدات خصوصية البيانات والإشراف على المحتوى تفتقر إلى الأدلة المقنعة حالياً.
وأضاف للصحيفة البريطانية: "أعتقد أن كلتا النظريتين واردة الحدوث، لكننا نحتاج لقدرٍ كبيرٍ من الخيال حتى نتمكن من اعتبارهما تهديداً لأمن الولايات المتحدة القومي في الوقت الراهن".
ما السبب الحقيقي وراء استهداف تيك توك؟
ويرجع السبب هنا إلى أن البيانات الموجودة لدى تيك توك ليست بيانات فريدة، إذ يستطيع التطبيق جمع بيانات المواقع، لكن عليه سؤال المستخدمين أولاً قبل تتبع بيانات نظام التموضع العالمي GPS. وفي حال رفض المستخدم منح الإذن بالتتبع، فلن يجمع التطبيق سوى موقعه التقريبي فقط، علاوةً على أن مختلف التطبيقات تجمع العينة نفسها من البيانات بانتظام، قبل بيعها لسماسرة البيانات من الطرف الثالث، الذين يعرضونها بدورهم على المشترين المحتملين.
بينما أوضح أنوبام شاندر، أستاذ القانون والتقنية في مركز القانون بجامعة جورجتاون: "هناك العديد من الطرق التي تستطيع الحكومات الأجنبية استخدامها للوصول إلى البيانات داخل الولايات المتحدة. ولا يبدو تطبيق تيك توك من الأهداف المحتملة لجمع المعلومات بواسطة الحكومة الصينية، نظراً للطبيعة العامة التي تتميز بها الأنشطة على التطبيق".
فهل يغرس تيك توك أفكار الحزب الشيوعي سراً في عقول الجيل زد؟ نشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً، عام 2019، حول إرشادات تيك توك للمشرفين من أجل التعامل مع المحتوى التحريضي. وكشف التقرير أن تلك الإرشادات أسفرت بالصدفة عن نتيجةٍ ثانوية تمنع ذكر ميدان تيانانمن، أو استقلال التبت، أو الفالون غونغ. ويُذكر أن جميع المواضيع السابقة محظورة بواسطة بكين، بينما أصرت الشركة على أن الوثائق المتداولة آنذاك لا تعكس سياستها الحالية، وأنها تبنّت استراتيجية قائمةً على التوطين من أجل الإشراف على المحتوى حسب المنطقة.
فيما أجرى مركز الاتصالات الاستراتيجية التابع لحلف الناتو دراسةً، عام 2021/ 2022. ووجد المركز أن تطبيق تيك توك قدّم أداءً أفضل من المنصات الأخرى، التي تواجه اتهامات بالتلاعب غير الأصيل أيضاً. وقد أوصى التقرير بمزيدٍ من التعاون مع الباحثين الأجانب من أجل تسهيل دراسة جهود الإشراف على المحتوى في المنصة، وهو الأمر الذي يهدف التطبيق إلى تنميته وفقاً للمتحدث باسم تيك توك.
وقال تطبيق تيك توك مراراً إن بيانات المستخدمين الغربيين لا تُخزّن في الصين، وإنه لم يشارك بيانات المستخدمين مع المسؤولين الصينيين- ولن يفعل ذلك مطلقاً- وإن استراتيجيته العالمية للإشراف على المحتوى لا علاقة لها ببكين، ورغم ذلك يخوض التطبيق محادثات مع لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة منذ ست سنوات، وذلك بغرض التوصل إلى صفقة لتهدئة مخاوف الساسة الأمريكيين.
ويتضمن مشروع تكساس مثلاً تأسيس مركز بيانات لتخزين بيانات المستخدمين الأمريكيين في تكساس، تحت رقابة شركة Oracle وبتكلفة 1.5 مليار دولار. كما ستفحص Oracle الشيفرة المصدرية وخوارزميات المحتوى على التطبيق، من أجل القضاء على مخاوف التلاعب بالمحتوى لخدمة الحكومة الصينية.
ويسعى تيك توك لترتيبات مماثلةٍ في أوروبا الآن، حيث تعكف الشركة على إنشاء مركز بيانات في أيرلندا، لتخزين بيانات المستخدمين من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا شك أن هذه الإجراءات ستُعرّض ممارسات البيانات على التطبيق لتدقيقٍ أكبر بكثير مما يحدث مع منافسيه في وادي السيليكون، وفقاً لويبستر.
بينما تتابع منصة فيسبوك تلك المفاوضات بترقب، لأنها ترى في تيك توك تهديداً وجودياً لها، حيث كشفت صحيفة Washington Post الأمريكية، في العام الماضي، عن الحملة المدعومة من فيسبوك، التي استهدفت تيك توك، ولعبت على مخاوف خصوصية البيانات تحديداً. ومن المؤكد أن فيسبوك اختارت توجيه إنفاقها بشكلٍ جيد، لأن مستخدمي تيك توك يقولون إنهم سيتجهون إلى إنستغرام في حال حظر التطبيق، أو سيختارون أي تطبيق تواصل اجتماعي آخر.
ويُمكن القول إن زيادة حالات الحظر ستُثير احتمالية التقاضي القانوني على أساس حرية الرأي أو التعبير، حيث أشار الكثيرون إلى أوجه الشبه الواضحة بين حظر التطبيقات من ناحية، وبين قيود الإنترنت الصارمة التي تفرضها الحكومة الصينية من ناحيةٍ أخرى. ولا شك أنها ظاهرةٌ تمثل مفارقةً بالنسبة للجمهوريين تحديداً، بعد أن قضوا السنوات القليلة الماضية في اللعب على وتر حرية التعبير المفترضة.
لكن الجميع يتفقون على أن الوضع الراهن يجب أن يكون بمثابة محفز للولايات المتحدة، وذلك حتى تبدأ التفكير في خصوصية البيانات على نطاقٍ أوسع. حيث قال شاندر إن "فكرة التحرك ضد تيك توك على أساس ملكيته الأجنبية هي فكرة تنقصها الحكمة، ويجب أن نتخذ نهجاً أوسع نطاقاً لدراسة مخاطر الأمن القومي، التي يمثلها تدفق البيانات بشكلٍ عام".