يبدو جو بايدن الرئيس الذي استعاد هيمنة أمريكا على أوروبا واليابان وكوريا، الرجل الذي يستنزف الجيش الروسي بواسطة الجنود الأوكرانيين دون إراقة أي دم أمريكي، الرجل الذي جعل الصين شبه محاصرة تكنولوجياً، عبر منع تصدير تقنيات عديدة إليها، فهل يكفل كل ذلك النجاح لبايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.
حين ألقى الرئيس الأمريكي جو بايدن خطاب "حالة الاتحاد" أمام نواب مجلسي الشيوخ والنواب قبل عام، لم يكن قد مضى على اندلاع الحرب في أوروبا إلا بضعة أيام، وبدا في حكم اليقين وقتها أن القوات الروسية ستُسيطر على أوكرانيا في مدة وجيزة.
وما زالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تكرر طيلة العام أن الصين هي التحدي "المتسارع" للنفوذ الأمريكي، والحق أن الصين منافس تكنولوجي واقتصادي طويل الأجل، لكن من المستبعد أن تمثل تهديداً وشيكاً لتايوان أو الولايات المتحدة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
أبرز إنجازات بايدن إعادة فرض هيمنة أمريكا على حلفائها
بينما كان للرئيس الأمريكي السبق في شيطنة الصين والتهويل من خطرها على أمريكا، فإن خطابه لم يلقَ رواجاً كبيراً في أمريكا ولا أوروبا، وانتقد كثير من الساسة الغربيين حربه التجارية ضد الصين.
ولكن إدارة بايدن هي التي حولت الخوف من الصين أو المنافسة معها كما تقول واشنطن، أو إبطاء تقدمها بالأحرى، إلى واحد من ثوابت السياسة الأمريكية، بل من ثوابت السياسة لدى حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا (اليابان وبصورة أقل كوريا الجنوبية).
رغم النجاح الكبير للرئيس الأمريكي الحالي في إعادة اليابان وأوروبا لحظيرة الولاء لأمريكا عبر فرض أجندة واشنطن على حلفائها في ملف روسيا والصين، حيث أصبح لا صوت يعلو على صوت معركة الغرب مع بكين وموسكو، إلا أنه يبدو أن هذا ليس كافياً ليرضى الأمريكيون عن بايدن.
فلقد كان خطاب حالة الاتحاد لهذا العام موجهاً بشكل كبير للداخل الأمريكي.
ستبقى قضية المواجهة مع روسيا والصين التحدي الأكبر لبايدن خلال العامين المقبلين من ولايته، وسيزداد اشتغاله بها بحثاً عن بعض الإنجاز، لا سيما بعد أن بدأت سيطرة الجمهوريين على أغلبية مجلس النواب تعترض طريق السياسات المدرجة في برنامج أعماله التشريعي داخلياً.
لذلك كان من اللافت للنظر أن بايدن اختار التحدث بقدرٍ من الإيجاز عن دور أمريكا العالمي، في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه اليوم، وانصرف باهتمامه إلى المساعي التي بذلتها إدارته في مساندة "الصناعة الأمريكية"، والعمل على زيادة الوظائف بقطاع الصناعة في الولايات المتحدة، حتى وإن جاء ذلك على حساب إغضاب أقرب حلفاء الولايات المتحدة وشركائها التجاريين، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية.
وربما يحكم التاريخ بعد برهةٍ بأن مساعي بايدن في لمِّ شتات حلف الناتو وجمع الحلفاء الآسيويين المتباينين على التصدي لعدوان روسيا ومجابهة الصعود الصيني، كانت أبرز إنجازاته، خاصة أن الرئيس الأمريكي يرى نفسه خبيراً محنكاً في السياسة الخارجية أكثر من كونه أي شيء آخر.
والآن التوتر بين أمريكا وروسيا هو الأعلى منذ أزمة الصواريخ الكوبية
غير أن هناك عدة أسباب جعلت بايدن ينصرف عن عرض إنجازاته الخارجية، ويركز على ما يراه إنجازات داخلية، فهو يعلم أن عودة الدور الأمريكي العالمي لها ثمن باهظ، وأنه في بداية دورة انتخابية جديدة، ومن ثم يصعب عليه إقناع مخالفيه بأهمية سياساته. فضلاً عن ذلك، فإن مساعي احتواء روسيا وحسم التنافس مع الصين يحتاج إنجازها إلى عقود من الزمن، وستزيد ميزانية البلاد المتعسرة بالفعل بمقدار عشرات أو مئات المليارات من الدولارات.
يمكن القول إن هذه اللحظة هي أشد اللحظات توتراً بين الولايات المتحدة وروسيا، منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، فقد تمكنت أوكرانيا بفضل المساعدات الغربية وبسالة قواتها من الصمود أمام القوات الروسية، وكلما زاد نجاح الأوكرانيين في استخدام الصواريخ الأمريكية دقيقة التوجيه، والدبابات الألمانية، وذخيرة الناتو، زاد اقتراب بوتين من التهديد مرة أخرى باستخدام السلاح النووي للانتصار فيما يراه معركة وجودية.
والصين باتت أكثر جرأة
أما الصين، فإن وكالات الاستخبارات الأمريكية أمضت الشهور السابقة في إعادة تقييم قدراتها، وخلصت التقارير إلى أنها أكثر عزماً على تحمل مخاطر التصعيد وتهديد تايوان، والدفاع عن الأراضي المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.
علاوة على ذلك، فإن حادثة منطاد التجسس الصيني وحمولته الغامضة من أجهزة المراقبة عالية التقنية، والاهتمام الكبير للرأي العام الأمريكي بالمسألة، كلها أمور كشفت لبايدن أن حوادث التوتر الصغيرة مع الصين يمكن أن تتفاقم بسرعة إلى مشكلات كبيرة، وأن الضغوط السياسية المحلية يمكن أن تجبر زعماء البلدين على اتخاذ مواقف أكثر تشدداً، وهذا أقصر سبيل لتأجيج العلاقات المتوترة بالفعل.
هذه هي القضايا التي كانت الشغل الشاغل للرئيس الأمريكي خلال العام الماضي من ولايته، سواء أكان في طريقه إلى غرفة العمليات لمتابعة التقدم في جبهة الدونباس بأوكرانيا، أم في طريقه إلى الاحتفال بالمصانع الجديدة لأشباه الموصلات، وما تقدِّمه من فرص لتقليل الاعتماد على الإنتاج الصيني.
لم يشر للرئيس الأوكراني خلال خطابه، وركز على مبادرته لإنتاج الرقائق الإلكترونية
مع ذلك، فإن حديث بايدن عن أوكرانيا في خطاب حالة الاتحاد لهذا العام كان أوجز بكثير من حديثه عنها العام الماضي. وقد دعا السفيرة الأوكرانية لحضور الخطاب وشكرها، لكنه لم يذكر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قط في ثنايا كلامه، ولا تحدَّث عن زيارته لواشنطن قبل شهرين والجلسة التي عقدها أمام الكونغرس الأمريكي.
بدلاً من ذلك، ركَّز بايدن في خطابه على الخطط التي وضعتها إدارته بتخصيص 52 مليار دولار، لتعزيز قدرات بلاده في إنتاج الرقائق الإلكترونية، والعمل بحزم على أن "تبدأ سلاسل توريد الرقائق [التي تحتاج إليها المعدات التكنولوجية] الأمريكية من الولايات المتحدة نفسها". ولإعطاء أمريكا بعض الوقت للحاق بالركب، قطع بايدن سبل إمداد الصين بأحدث المعدات اللازمة لإنتاج أشباه الموصلات، وأقنع اليابان وهولندا بفعل الأمر نفسه.
وفي هذا السياق، قال كريس ميلر، البروفيسور بجامعة تافتس الأمريكية، ومؤلف كتاب "حرب الرقائق الإلكترونية"، في لقاء مع برنامج Marketplace الإذاعي، إن "التاريخ يظهر لنا أنه كلما تمكنت الدول القوية من الوصول إلى إمكانات الحوسبة المتقدمة، فإنها تستعملها في الأغراض الاستخباراتية والعسكرية".
وقد كرر بايدن في خطابه الحديث عن أن نيته هي السعي إلى منافسة الصين، وليس الصراع معها، وقال: "أعيد تأكيد ما قلته الأسبوع الماضي: إذا هددت الصين سيادتنا، فإننا سنفعل ما يلزم لحمايتها، وقد فعلنا".
حاول بايدن في خطابه أن يثبت نجاحه في الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه وإدارته، عند توليه الرئاسة من أن "الديمقراطية فعالة"، ويمكنها التغلب على الأنظمة السلطوية. وقال: "خلال العامين الماضيين قويت الديمقراطيات وضعفت الأنظمة السلطوية".
نجح في تشكيل أنجح تحالف منذ الحرب مع العراق عام 1991
ربما كان إعلان الانتصار في معركة الديمقراطية من بايدن سابقاً لأوانه، لكنه كان لديه الكثير ليتفاخر به فيما يتعلق بزعامة الرد الدولي على العدوان الروسي. وقال روبرت ليتواك، مدير الدراسات الأمنية في مركز وودرو ويلسون الدولي، إن بايدن أول رئيس ينجح في حشد تحالف من هذا النوع منذ جورج بوش الأب في حرب الخليج الثانية.
وبعد أربعة عقود من المساعي الحثيثة لمختلف الإدارات الأمريكية، تمكن بايدن من إقناع ألمانيا المترددة بتقليص اعتمادها على العلاقات مع روسيا، والتخلي عن خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2″، والعودة إلى بناء قوتها العسكرية بعد إحجام مستمر منذ الحرب العالمية الثانية. وقد وافقت ألمانيا قبل بضعة أسابيع على إرسال دبابات ليوبارد ألمانية، لمساعدة الأوكرانيين في اختراق الدفاعات الروسية، وهي خطة كان يتعذر تصورها عندما ألقى بايدن خطابه العام الماضي.
ولكن هل يلقى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية مصير بوش الأب الذي هزم صدام حسين؟
ومع ذلك، فإن جورج بوش الأب دفع ثمناً باهظاً حين انشغل بالسياسات الخارجية، ولم تشفع له إنجازاته فيها عند الناخبين الأمريكيين، فخسر الانتخابات عام 1992، بعد عام واحد من انتصاره على الجيش العراق في عهد صدام حسين وإخراجه من الكويت.
وكانت المفارقة أنه رغم الهزيمة المدوية للعراق بقي صدام حسين في السلطة، بينما خرج منها جورج بوش، الذي قاد أمريكا لأهم انتصار لها منذ الحرب العالمية، وهو انتصار اتسم بإظهار التفوق التكنولوجي الأمريكي على الأسلحة السوفييتية، التي كان يستخدمها الجيش العراقي.
وما زاد من مغزى هذا الانتصار، أنه تحقق بخسائر بشرية أمريكية قليلة، وبدون حتى تحمل أمريكا أعباء كثيرة، حيث دفعت دول الخليج، خاصة السعودية والكويت، جزءاً كبيراً من تكلفة الحرب، إضافة إلى ألمانيا واليابان.
وأعقب هذه الحرب انهيار سور برلين وحل الاتحاد السوفييتي، لتصبح أمريكا قوة عظمى متوجة بأقل التكلفة، في مرحلة تكاد تقارب نشوة الحرب العالمية الثانية دون دمائها.
ولكن كل ذلك لم يجعل الناخب الأمريكي يختار بوش، بسبب الوضع الاقتصادي، خاصة عندما ظهر مرشح شاب شبه مغمور ركز على ضرورة إصلاح الاقتصاد، المرهق من الحرب الباردة والعجز الذي وصل إلى 300 مليار دولار.
وبينما دخل الرئيس بوش المخضرم المسن (مثل بايدن) إلى الانتخابات، متباهياً بانتصاره الذي لا يبارى، دخل كلينتون، الشاب الوسيم، برنامجه وهو يركز على الاقتصاد بنصيحة من مدير حملته جيمس كارفيل، التي جاءت بشعار بسيط لا يخلو من سخرية: "إنه الاقتصاد أيها الغبي"!
وعليه، فإن بعض مستشاري بايدن يخشون أن يعيد التاريخ نفسه، مشيرين إلى أسعار الغاز والبيض تؤثر في الناخب الأمريكي بأوجهٍ أخرى لا تبلغها الإنجازات في احتواء القوة الروسية والصينية.