أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة دبلوماسية إلى موسكو في فبراير/شباط 2022، أي قبل أسبوعين من بدء الحرب على أوكرانيا، كان ماكرون يحاول إقامة حجته للتهدئة إبان تعبئة القوات الروسية لصفوفها، سعياً منه إلى ضم روسيا للقارة الأوروبية، حتى تحقق استقلالها الاستراتيجي، وتصبح قوة عالمية قائمة بذاتها، ويريد ماكرون أن تكون فرنسا ممثل تلك القوة.
حول ذلك، يقول موقع أسباب المتخصص بالتحليل السياسي والاستراتيجي، إنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تسعى فرنسا لتأمين مكانٍ لنفسها في النظام العالمي، ومن أبرز الشواهد على ذلك:
- انضمت البلاد إلى المؤسسات التي تقودها الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، ومنها حلف الناتو.
- انضمت إلى المنظمات الاقتصادية الأخرى، التي تحوّلت إلى الاتحاد الأوروبي لاحقاً.
- حياة الشريك الأصغر لم تُعجب فرنسا، فسحبت قواتها من قيادة الناتو بين عامي 1966 و2009.
- طوّرت أدوات الردع النووي الخاصة بها.
- رفضت بعدها دعم الغزو الأمريكي للعراق.
الخطة الفرنسية لفرض الهيمنة على أوروبا: الاستقلال الاستراتيجي
لكن الحاجة لاستقلالية صنع القرار الأوروبي بدأت تحظى بزخمٍ في السنوات الأخيرة؛ حيث تحولت الصين إلى قوة عالمية ناشئة، وأصبحت على مسار تصادمي مع الولايات المتحدة، وستُجرّ أقدام أوروبا إلى ذلك الصراع، جاء رد فرنسا بالضغط من أجل الاستقلال الاستراتيجي، حيث:
- سيحافظ على تحالف فرنسا والاتحاد الأوروبي مع واشنطن من جهة.
- سيُجنِّبهم مواجهة الصين إلّا في حالة الضرورة القصوى من جهة ثانية.
- سيسمح لأوروبا بتوسيع نطاق الاعتماد الاقتصادي المتبادل ليشمل روسيا.
- سيؤدي جذب موسكو لتكوين قطبٍ ثالث في أوروبا إلى الحيلولة دون تكوين التحالف الروسي الصيني.
ولا تفتقر هذه الخطة، بحسب موقع أسباب، إلى الطموح كما هو حال إلى استراتيجية كبرى، إذ تتألف خطة ماكرون من عدة دوائر متحدة المركز:
- تشغل فرنسا وألمانيا مركز الدائرة الرئيسية.
- دول منطقة اليورو.
- بقية دول الاتحاد الأوروبي.
- الدول المجاورة للاتحاد مثل بريطانيا، وتركيا، والنرويج، ودول البلطيق.
- دول البلقان، والقوقاز، وأوكرانيا وربما تنضم إليها بيلاروسيا وروسيا.
كيف أُعيقت الخطة الفرنسية؟
تبدو الخطة الفرنسية منطقية على الورق، لكنها اصطدمت بالواقع على الأرض بدايةً بجائحة كوفيد-19، وتعطيل سلاسل التوريد، ووصولاً إلى الصراع في أوكرانيا، مما دحض مصداقية الاستقلال الاستراتيجي الذي يدعو له ماكرون، وجاء تأسيس المجموعة السياسية الأوروبية ليمثل دفاعاً بسيطاً عن دعوات الاستقلال:
- تأسست المجموعة في مايو/أيار 2022 كمنتدى نصف سنوي للحوار الاستراتيجي بمشاركة 44 دولة.
- رغم تعليق عضويات روسيا وبيلاروسيا، لكن من المفهوم ضمنياً أنهما ستعودان للمشاركة بمجرد حل النزاع في أوكرانيا.
- المجموعة تمنح روسيا فرصةً لحفظ ماء الوجه، وإنهاء الحرب في أوكرانيا على وعدٍ بالوصول إلى الأسواق الأوروبية المربحة.
ثغرات داخل أوروبا وتحديات أمام فرنسا
لكن الخطة الفرنسية، بحسب موقع "أسباب"، تظل مليئةً بالثغرات حتى داخل أوروبا نفسها، حيث أثارت برلين الجدل بقرارها دعم استهلاك الطاقة محلياً بميزانية قدرها 200 مليار دولار، وربما سيؤدي دعم الطاقة إلى خفض تكاليف معيشة الألمان، ومنع المصنعين من الاستعانة بالمصادر الخارجية في عملياتهم.
لكنه يتيح للمستهلكين الألمان تقديم عروض أفضل من نظرائهم الأوروبيين، مما سينشر بذور الفرقة داخل السوق الموحدة، علاوةً على أن برلين لا تستطيع الانفصال عن روسيا والصين معاً، ولهذا السبب اختار المستشار شولتس تفرقة الصفوف، وسمح لشركة الشحن الصينية كوسكو بشراء حصة في ميناء هامبورغ رغم مخاوف الأمن القومي.
وربما تُعَدُّ هذه الصفقة استراتيجية، لكنها كانت بمثابة مقدمة لزيارة شولتس إلى بكين في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ورافقه قادة شركات ألمانية مثل BASF وBayer وBioNTech وSiemens ليبرهن شولتز على موقفه المنادي بتقوية العلاقات الاقتصادية، ومن الطبيعي أن تُقابَل مثل هذه الخطوات الأحادية بالانتقادات من ماكرون الذي اتهم شولتز بتقويض الوحدة الأوروبية.
وتمثل أوروبا الشرقية منطقة توترات أخرى، حيث انضمت تلك الدول إلى الناتو لموازنة القوى في مواجهة نفوذ موسكو، ولهذا ليست الكثير من تلك الدول متحمسةً للخطة الفرنسية التي تستهدف الترحيب بعودة روسيا، فقد استغلت بريطانيا تلك المشاعر، ونجحت لندن بفضل مساعداتها العسكرية في أن تحظى بنفوذٍ كبير داخل أوروبا الشرقية على حساب الفرنسيين.
الخطة الفرنسية أمام عقبة أمريكا أيضاً
لكن العقبة الأساسية التي تواجه الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي تتمثل في الولايات المتحدة، حيث تدفع واشنطن بحلفائها في الناتو إلى تمويل جهودهم الدفاعية الخاصة منذ سنوات.
ولا يعني أنها تريد من أوروبا تطوير سياسة دفاعية مستقلة أو إقامة شراكة مع موسكو، كما يتمحور هدف أمريكا حول استنزاف روسيا قدر الإمكان، حيث قدمت لأوكرانيا مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات حتى تُكبّد الروس قدراً مهولاً من الخسائر.
لكن المساعدات العسكرية لا تأتي دون قيود، فعلاوةً على دعم الجيش الأوكراني عسكرياً، أصبحت أوكرانيا قابلة للتشغيل المتوافق مع الأنظمة الأمريكية، مما يجعلها معتمدةً على الولايات المتحدة أيضاً، ويحول هذا الأمر دون تحقيق أوروبا للاكتفاء الذاتي بالتبعية. وتتصادم هذه السياسة مع الاستقلال الاستراتيجي الذي يدعو إليه ماكرون، والذي يمنح فرنسا دور ترسانة الأسلحة الأوروبية.
كيف وسعت باريس صناع الدفاع لديها؟
- في عام 2021 شهد تجاوز مبيعات الأسلحة لحاجز 11 مليار دولار.
- تُعَدُّ هذه الصادرات ضرورية لدعم صناعة الأسلحة الفرنسية التي تحت المرتبة الثالثة عالمياً، وتُوظّف نحو 200 ألف شخص.
- زيادة الطلب نتيجة تصاعد التوترات الجيوسياسية صبّت في صالح الشركات الأمريكية مثل بوينغ ولوكهيد مارتين أكثر من منافستها الفرنسية.
- جاء اختيار برلين شراء عشرات مقاتلات إف-35 بدلاً من المقاتلات الفرنسية طعنةً في صدر الاستقلال الدفاعي الأوروبي.
- أوروبا تزيد اعتمادها على صادرات الطاقة الأمريكية أيضاً.
ولم يصدر القول الفصل بعد في قضية تخريب خط نورد ستريم، لكن المستفيد المباشر هنا كان الجانب الأمريكي:
- تفوقت الولايات المتحدة على قطر وأستراليا لتصبح أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم بفضل ارتفاع الطلب الأوروبي.
- ليس لدى واشنطن استراتيجية أو أسباب اقتصادية تبرر السماح لأوروبا بشق مسار مستقل تحت القيادة الفرنسية.
- ترى الولايات المتحدة أن حلف الناتو ضروري لموازنة القوى في مواجهة الصين وروسيا.
- لن تتورع عن استغلال الانقسامات الداخلية من أجل إبقاء أوروبا تحت سيطرتها وبعيداً عن أيدي الروس.
تركيا.. الاستثناء الوحيد
يتمثل الاستثناء الوحيد هنا في تركيا، التي حققت درجةً من الاستقلال وحصلت على مكانة وسيط القوة التي تحلم بها فرنسا:
- فقد أعفت نفسها من فرض العقوبات.
- أنشأت مركزاً للغاز الطبيعي مع روسيا حتى يُتيح لها شراء موارد الطاقة الرخيصة التي كان يُفترض بها أن تتدفق عبر خط نورد ستريم.
- باعت لأوكرانيا مركبات عسكرية وطائرات مسيّرة؛ لتدعم صناعة أسلحتها.
- استغلت أنقرة نفوذها للضغط على موسكو من أجل رفع الحظر عن صادرات الحبوب الأوكرانية.
- فرضت نفسها باعتبارها قوة إقليمية تستحق الاحترام، أي إن تركيا تشغل المكانة التي تريدها فرنسا لنفسها.
في النهاية، يقول موقع أسباب إن رغبة الاستقلال أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الفرنسية، وربما يخدم التحالف مع واشنطن مصالح باريس الفورية، لكنه يهدد بجر أوروبا إلى مواجهة غير مرغوبة مع روسيا والصين على المدى البعيد، وربما يكون هناك اتفاقٌ على ضرورة الاستقلال لكن المصالح المتضاربة لدول الاتحاد تقوّض التماسك الأوروبي، ولا شك أن أي توسّع في الاستقلال الأوروبي سيؤدي لخسارةٍ في النفوذ الأمريكي، ولن تقبل واشنطن بذلك طبعاً.