تشهد فرنسا موجة احتجاجات وإضرابات تهدف إلى إجبار إيمانويل ماكرون على التراجع عن خطته لرفع "سن المعاش" في البلاد، فمن ينتصر هذه المرة؟
وزارة الداخلية الفرنسية قالت إن 1.272 مليون شخص قد شاركوا، الثلاثاء، 31 يناير/كانون الثاني، في الاحتجاجات على خطط إصلاح نظام التقاعد التي تم تنظيمها في أنحاء البلاد. وأضافت الوزارة في بيان أن 87 ألفاً شاركوا في المظاهرة التي جرى تنظيمها في باريس.
وبعد أقل من عام على فوزه بفترة رئاسية ثانية، تمثل هذه المواجهة بين ماكرون والشارع الفرنسي أبرز التحديات التي يواجهها، خاصة أن الرئيس وحكومته وضعوا رفع سن التقاعد في القلب من برنامج إصلاح اقتصادي شامل، وبالتالي فإن التراجع عن هذه النقطة تحديداً يلقي بالشك حول البرنامج ككل.
ماذا يريد ماكرون من رفع سن التقاعد؟
خلال خطابه بمناسبة السنة الجديدة 2023، أكد ماكرون مرة أخرى على ضرورة إصلاح النظام التقاعدي الفرنسي وجعله أكثر صلابة. وقال "كما تعهدت أمامكم، هذه السنة ستكون سنة إصلاح نظام التقاعد لضمان توازنه خلال السنوات المقبلة وتعزيزه، خاصة أنه يعتمد على مبدأ توزيع الثروات".
وتتمثل الخطوط العريضة لمشروع القانون الجديد، الذي كانت رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، قد كشفت عنه قبل 3 أسابيع، في رفع سن التقاعد من 62 عاماً إلى 64 عاماً أو حتى ربما إلى 65 عاماً.
وعلى الرغم من أن التقرير الذي نشره مجلس توجيه نظام التقاعد الفرنسي في سبتمبر/أيلول 2022، أشار إلى تسجيل فائض مالي قدره 3.2 مليار يورو عام 2021، فإن المجلس توقع أن يشكو من عجز مالي في السنوات الـ25 المقبلة.
وفق هذا المجلس، يتوقع أن ينهار نظام التقاعد بشكل طفيف وتدريجي بين عامي 2023 و2027 قبل أن يصبح سلبياً إلى 2032، ثم يستقر ويستعيد توازنه من جديد.
وخلال مقابلة مع القناة الفرنسية الأولى في 3 ديسمبر/كانون الأول 2022، أكد ماكرون أن "جميع الدراسات الجادة تشير إلى ارتفاع مستوى النفقات بهدف الحفاظ على نظام التقاعد، ولهذا السبب والحل الوحيد الذي نملكه هو إطالة مدة العمل".
وبالتالي يريد ماكرون أن يرفع سن التقاعد لتحقيق هدفين: الأول هو تخفيض مستوى النفقات، والثاني هو زيادة موارد صندوق تمويل المعاشات، لكن هل هذه هي الطريقة الوحيدة أو الحل الوحيد فعلاً كما أكد الرئيس؟
ميكائيل زمور، وهو متخصص في الشؤون الاقتصادية وأستاذ باحث في جامعة (باريس 1) وصاحب كتاب "النظام الفرنسي للضمان الاجتماعي"، يختلف تماماً مع وجهة نظر ماكرون.
وعلق زمور على تقرير مجلس توجيه نظام التقاعد، قائلاَ إنه "يبين بشكل واضح أن نظام التقاعد ليس مهدداً، وجميع السيناريوهات تشير إلى أنه سيكون متوازناً من الناحية المالية".
وأضاف لموقع فرانس برس: "السبب الحقيقي الذي يقف وراء إصلاح نظام التقاعد مدون في الصفحة الثالثة لبرنامج التوازن والاستقرار الاقتصادي الذي أرسلته الحكومة الفرنسية إلى بروكسل الصيف الماضي. هذا البرنامج يشير إلى أن سياسة تخفيض الضرائب على الشركات، التي اتبعها الرئيس ماكرون، سيتم تداركها بتنفيذ إصلاحات هيكلية في العديد من المجالات، بينها نظام التقاعد. وتأمل الحكومة الفرنسية بواسطة هذه الإصلاحات خفض عجزها المالي إلى أقل من 3% بحلول 2027. الأمر في الحقيقة لا يتعلق بتمويل نظام التقاعد أكثر مما هو اقتصاد النفقات لتمويل سياسة تخفيض الضرائب على الشركات".
ماذا يقول رافضو رفع سن التقاعد في فرنسا؟
بمجرد إعلان الحكومة الفرنسية عن تفاصيل المشروع الجديد، أعلنت النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني تنظيم إضراب وتظاهرات وفعاليات احتجاجية يوم 19 يناير/كانون الثاني 2023، شارك فيها نحو 1.2 مليون محتج عبر البلاد.
وتكررت الفعاليات ذاتها الثلاثاء، 31 يناير/كانون الثاني، وشارك فيها أعداد أكبر وفئات متنوعة من المجتمع الفرنسي، وليس فقط المعترضون من العمال والموظفين. إذ نظمت مظاهرات في عدد كبير من المدن الفرنسية وإضرابات عن العمل في أكثر من قطاع، خاصة النقل ومحطات توزيع الوقود احتجاجاً على إصلاح نظام التقاعد.
وانضم طلاب المعاهد والجامعات إلى دعوات النقابات والأحزاب للنزول إلى الشارع، والواضح أن عدد المعارضين للإصلاح في تزايد، بحسب عمليات استطلاع الرأي.
وتوافد عشرات الآلاف من الفرنسيين إلى ساحة الجمهورية وسط باريس، ورفع المشاركون عدة لافتات منددة بهذا المشروع، كتب على بعضها "من المترو إلى مقر العمل، ثم إلى القبر".
ولم ينتظر بعض طلبة ثانوية "إلين بوشيه" بالدائرة العشرين بباريس، والمنخرطين في حزب "فرنسا الأبية"، توقيت بداية المظاهرات، بل وصلوا، خلافاً لعادتهم، في وقت مبكر رفقة دانييل سيموني، نائبة من هذا الحزب إلى مقر الثانوية بهدف تعطيل دخول زملائهم الذين ينوون مزاولة دراستهم.
وانتشرت عناصر من قوى الأمن أمام الثانوية، في حين حاولت جمعيات أولياء التلاميذ، رفقة إدارة الثانوية، الحفاظ على الهدوء وإيجاد مسلك للطلاب غير المضربين لكي يلتحقوا بقاعات الدروس.
لكن تأزم الوضع الأمني قليلاً بعد أن حاول بعض الطلاب إحراق حاويات القمامة التي كانت موجودة أمام الثانوية. الأمر الذي جعل قوات الأمن تتدخل، وتطلق الغاز المسيل للدموع باتجاه الطلاب المضربين.
فرانسواز، سيدة متقاعدة، قالت لفرانس برس: " قررت المشاركة في المظاهرة لأنني أشعر بالغضب بعد أن أرغمتني شركة البريد التي كنت أعمل بها على التقاعد، واليوم الرئيس ماكرون يطلب تماماً العكس من الفرنسيين، أي العمل أكثر".
وأضافت: "كنت أعمل ساعية بريد. لكن العمل أصبح صعباً للغاية. كنا مطالبين بتوزيع الرسائل بسرعة. أصبحت أركض وأتعب أكثر. لذا طلبت مني الشركة التي كنت أعمل بها التقاعد مع تقاضي 70% من مرتبي. لهذا السبب، أصبحت أتقاضى اليوم معاشاً ضعيفاً". وانتقدت هذه الستينية وتيرة العمل في الورشات والمصانع، حيث أصبحت تؤثر سلباً على صحة العمال وعلى حياتهم العائلية. وتابعت: "مشروع إصلاح نظام التقاعد غير عادل؛ لأن الرئيس ماكرون يأخذ الأموال من جيوب الفقراء والبسطاء كالعمال والموظفين العاديين؛ ليقدمها على طبق من ذهب للأغنياء وكبار الرأسماليين وملاك المصانع الكبيرة خوفاً من أن يغادروا البلاد أو يتم شراء هذه المصانع من قبل دول أجنبية".
من ينتصر.. ماكرون، أم الشارع الفرنسي؟
يرى ميكائيل زمور أن هناك خطاباً سياسياً "يسعى إلى تضخيم مشكلة العجز المالي؛ لإظهار أن هناك ضرورة ملحة لإصلاح نظام التقاعد، لكن في الحقيقة نسبة العجز المالي الحقيقي الذي سيتم الكشف عنها قريباً ستكون معتدلة للغاية".
وأضاف مستنكراً: "أن يشكو نظام التقاعد الفرنسي الذي يصرف سنوياً حوالي 340 مليار يورو على المتقاعدين من عجز مالي يتراوح ما بين 10 إلى 12 ملياراً ليس أمراً خطيراً"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن "نتائج تقرير مجلس توجيه نظام التقاعد في فرنسا لا يتفق مع الخطاب الذي يوحي بأنه من الصعب جداً التحكم في النفقات المخصصة لتمويل هذا النظام".
ويشير نفس التقرير إلى أن نسبة النفقات سترتفع فقط بنسبة 13.9% من إجمالي الناتج المحلي الفرنسي في 2027 بعد أن كانت تعادل 13.8% في 2021، ثم بينما ستصل إلى 14.2% أو 14.7% على أقصى تقدير بين 2028 و2032. وبالرغم من أن نظام التقاعد الفرنسي سيعاني من عجز مالي في السنوات المقبلة، فإن نسبة هذا العجز لا "تبرر" وفق زمور "رفع سن التقاعد كما تخطط له الحكومة".
ويرى كثير من خبراء الاقتصاد أن إصلاح نظام التقاعد يتطلب مراعاة 3 عوامل هي: سن التقاعد ومستوى النفقات وطرق تمويل نظام التقاعد، لكن إيمانويل ماكرون استبعد من حساباته فرضية رفع مستوى النفقات أو التمويل، ما تركه أمام خيار سن التقاعد.
أما إليزابيث بورن، رئيسة الوزراء، فقد أكدت، في مقابلة مع صحيفة "لوبارزيان" الشهر الماضي، أن قانون التقاعد الجديد سيسمح للموظفين المسنين بالبقاء في مناصب عملهم. في حين اعتبر الخبير ميكائيل زمور أن "رفع سن التقاعد لا يعني بالضرورة أن وضع جميع كبار السن سيتحسن، خاصة أولئك الذين يشكون من البطالة. بل سيزيد من هشاشة وضعهم الاجتماعي، وسيصبحون رهائن المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة قبل الوصول إلى سن التقاعد".
إليزا، 28 عاماً، وصفت قرار الحكومة بأنه غير "صائب"، وقالت لفرانس 24: "بصفتي موظفة في مجال السينما، أدرك جيداً أنني سأعمل إلى سن 80 عاماً. لكن هذا لم يمنعني من المجيء إلى هنا لمساندة الآخرين، لا سيما أولئك الذين يعملون في مجالات صعبة تتطلب جهدا بدنيا كبيرا. فهم يحتاجون إلى التقاعد في سن مبكرة".
وانتقدت كبار الرأسماليين، أمثال برنار أرنو، الذي يرفض منح القليل من أمواله الضخمة، حسبها، لحل مشكلة العجز المالي الذي يعاني منه قطاع الضمان الاجتماعي وصندوق التقاعد. كما انتقدت أيضاً موقف الرئيس ماكرون الذي يقوم بكل ما في وسعه "لكي يبقى الأغنياء أغنياء والعمال بسطاء وفقراء".
لكن حكومة ماكرون قررت أن تكون صارمة في موقفها، وتتمسك بما تصفه بأنه "المسار الوحيد لإصلاح نظام التقاعد"، فإلى أي حد سيصمد هذا الموقف؟ من الناحية التشريعية يمتلك ماكرون أغلبية بسيطة في البرلمان تمكّنه من تمرير القانون الجديد، الذي لا يتطلب أغلبية الثلثين، لكن ارتفاع أعداد المشاركين في الاحتجاجات وموقف النقابات العمالية الصارم أيضاً يشير إلى أن حسم المعركة قد لا يكون بالسهولة التي يتمناها ماكرون، إذا كان ذلك ممكناً من الأساس.