قبل أن تكمل حكومة إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير شهرها الأول، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، فهل تندلع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال؟
نشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ لم تكد حكومة نتنياهو تكمل شهرها الأول في السلطة، حتى أشرفت، حتى الآن، على إشعال إحدى أشد موجات العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين وطأةً (بخلاف الحروب الواسعة) منذ سنوات طويلة.
فقد استشهد 9 فلسطينيين، صباح الخميس، 26 يناير/كانون الثاني، في أعنف مداهمة تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية منذ نصف عقد على الأقل. وعلى أثر ذلك، قتل شاب فلسطيني 7 إسرائيليين مساء الجمعة خارج كنيس يهودي في القدس الشرقية المحتلة، وهو أكبر هجوم من نوعه بالمدينة منذ عام 2018. ويوم السبت، قالت شرطة الاحتلال إن فتى فلسطينياً يبلغ من العمر 13 عاماً، أطلق النار وأصاب إسرائيليين بالقرب من مستوطنة في القدس أيضاً.
ما المختلف في حكومة إسرائيل هذه المرة؟
على الرغم من أن الحكومة الحالية لا تنفرد بإثارة هذا النوع من التوترات، فإن خبراء أبدوا خشيتهم من أن سياسات الإدارة الإسرائيلية الجديدة وتصرفات قادتها -الموصوفين بأنهم الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل- تزيد من احتمال تأجيج الأمور.
فالحكومة الإسرائيلية تشكلت من تحالف يضم مجموعة من قادة المستوطنين والقوميين المتشددين والمحافظيم المتطرفين، بقيادة بنيامين نتنياهو، ويسعى زعماء المجموعة، كلٌّ بطريقته، إلى ضم الضفة الغربية، وزيادة التخفيف القائم في قواعد الاشتباك لدى الجيش الإسرائيلي، وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة. وقد أثارت هذه السياسات تصاعداً في الغضب الفلسطيني، وضيَّقت على ما تبقى من قوى معتدلة في الحكومة الإسرائيلية السبل المتاحة لإطفاء فتيل التوترات.
نمرود نوفيك، المسؤول الإسرائيلي البارز السابق والمحلل في منتدى السياسة الإسرائيلية، قال للصحيفة الأمريكية إن "السياسة الإسرائيلية (في ظل الحكومة السابقة) كانت ترمي إلى الحفاظ على وهم الاستقرار العام، أما الآن فقد رُفع الغطاء عن هذا الوهم".
وفي اللقاءات التي عقدت حديثاً مع نتنياهو، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي مراراً هذه التحذيرات، ووصفها بأنها تبالغ في إثارة المخاوف بلا داع، وأن حزبه الليكود قادر على الاضطلاع بمسؤولية حفظ الاستقرار. وحثَّ نتنياهو في خطاب متلفز يوم السبت، 28 يناير/كانون الثاني، على الرد المحسوب، وحذَّر من الرد بأفعال غير قانونية، وقال: "نحن لا نسعى للتصعيد، لكننا مستعدون لأي سيناريو".
لكن في سياق الحديث عن توارث الاضطرابات من حكومات سابقة، استدعى بعض الخبراء أوجه الشبه والخلاف بين عمليتي إطلاق النار في القدس، وموجة الهجمات الفلسطينية، التي أسفرت عن مقتل 19 إسرائيلياً في الربيع الماضي، والتي كانت تحت ولاية الحكومة الإسرائيلية السالفة.
وقالت صحيفة The New York Times الأمريكية إن الغارة الإسرائيلية في جنين إنما هي جزء من حملة عسكرية إسرائيلية مستمرة منذ 10 أشهر، وأسفرت عن مقتل أكثر من 170 فلسطينياً في عام 2022، وهي أعلى حصيلة سنوية من الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ أكثر من عقد ونصف.
لهذه الحلقة المستمرة من الاضطرابات جذور طويلة المدى، أبرزها الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967، وإنشاء نظام قانوني من مستويين يميز بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين في التعامل؛ وفشل مفاوضات السلام حتى توقفها في عام 2014؛ ورفض الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي واستخدام العنف لمقاومته.
ماذا يريد بن غفير وزمرته؟
ومع ذلك، فقد انتُخب المتشددون الإسرائيليون بناء على وعود زادت بالفعل من حدة الغضب الفلسطيني، ولم يردع تصاعد الاضطرابات هذه الحكومة عن سبيلها، بل زادها إيغالاً فيه.
فاز الحزب الذي يقوده المتشدد اليميني الإسرائيلي إيتمار بن غفير بعدد غير مسبوق من المقاعد في انتخابات الكنيست في نوفمبر/تشرين الثاني، وقد قامت حملة بن غفير على وعود بتشديد الإجراءات المتخذة ضد الفلسطينيين، والقضاء على المخاوف التي تفاقمت بعد أعمال الشغب بين العرب واليهود عام 2021.
زاد الهجوم الذي وقع في القدس يوم الجمعة، من دعوات مؤيدي بن غفير للوفاء بوعوده، فقال له أحدهم بعد وصوله إلى مكان الهجوم: "إيتمار، اقض عليهم، إيتمار! لقد انتخبناك [لذلك] يا إيتمار."، وردَّ بن غفير: "يتعين على الحكومة أن ترد. بعون الله، آمل أن يحدث ذلك".
لم يتطرق بن غفير إلى تفاصيل القرارات التي يريد من الحكومة اتخاذها، لكن تاريخه الطويل في التطرف زاد المخاوف من خطوته التالية، فنحن نتحدث عن رجل ظلَّ حتى عام 2020 يعرض صورة كبيرة في منزله للمتشدد الإسرائيلي باروخ جولدشتاين الذي قتل 29 فلسطينياً وجرح 150 آخرين من المصلين في المسجد الإبراهيمي عام 1994.
هاني المصري، المحلل السياسي المقيم في رام الله، قال لصحيفة نيويورك تايمز: "هناك اختلاف كبير هنا [بين هذه الحكومة والحكومات السابقة]، فقد كان المعتاد أن نرى هؤلاء على الهامش، وليس بين الوزراء. أما الآن، فنحن في مرحلة جديدة".
لقد أوضحت الحكومة الإسرائيلية الجديدة بالفعل أنها غير معنية باتخاذ أي خطوات في سبيل حل الدولتين، ولم تستبعد الأمر فحسب، بل عدَّته مستحيلاً. وبدأ بيان إعلان الحكومة بتأكيد مباشر على الحق الحصري للشعب اليهودي في العيش بإسرائيل والضفة الغربية المحتلة، فضلاً عن الوعود بإضفاء الشرعية على عشرات المستوطنات غير المصرح بها في أراضي الفلسطينيين.
في غضون ذلك، يزور أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، القدس ورام الله، يومي الإثنين 30 يناير/كانون الثاني، والثلاثاء 31 يناير/كانون الثاني، في زيارة مخطط لها منذ مدة طويلة. ومع ذلك، يشكك المراقبون في أن تثمر هذه الزيارة عن كثير، لا سيما في ظل الاحتدام الجاري لمشاعر العداء بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد الأحداث الأخيرة.
السلطة الفلسطينية تجمّد التنسيق الأمني
بعد المداهمة الإسرائيلية يوم الخميس، أعلنت السلطة الفلسطينية تجميد التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وإذا اكتملت هذه الخطوة، فستُقطع معظم الاتصالات بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والفلسطينية. وقد زادت الاضطرابات الجارية من تأجج الأمور، وقللت من ميول التعاون مع إسرائيل بين القيادة الفلسطينية وأجهزة أمنها في الأراضي المحتلة.
ويرى خبراء ودبلوماسيون اطلعوا على قرار التجميد أن التعاون مع إسرائيل سيستمر سراً عند مستوى معين، وقد يُعاد بالكامل، كما حدث من قبل في عام 2017 وعام 2020.
ومع ذلك، قال إبراهيم دلالشة، مدير مركز الأفق الفلسطيني للدراسات السياسية، إن السياق الحالي قد يجعل من الصعب على السلطة تغيير موقفها بسرعة على نحو ما كانت تفعل في الماضي. واستبعد أن تهدأ التوترات مع الحكومة الإسرائيلية -التي حث أعضاؤها علناً على إسقاط السلطة الفلسطينية- بما يكفي للسلطة للتراجع من دون فقدان ماء الوجه، "فلا حدود للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه هذه الحكومة. إنه منحدر زلق".
وفي السياق ذاته، تساءلت The Times البريطانية في تقرير لها عن الاحتمال القائم باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تحت وطأة التوترات الجارية وما شهده الأسبوع الماضي من تصاعد في المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إذ أشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الحكومة الإسرائيلية بدأت ولايتها بتنافسٍ بين وزرائها في الإدلاء بتصريحات مثيرة للجدل ومستفزة للفلسطينيين، ومنها تصريح وزير السياحة حاييم كاتس، عضو حزب الليكود، عن خطط تعزيز الاستثمار في "يهودا والسامرة"، مستعملاً المصطلح التوراتي الذي يستخدمه القوميون الإسرائيليون للإشارة إلى الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، والمستوطنات اليهودية هناك. إلا أن فكرة إرسال السياح إلى الضفة الغربية قد خفت ذكرها الآن بعد التصاعد الكبير للعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال الأسبوع الماضي.
وذكرت الصحيفة أن الشاب الفلسطيني خيري علقم (21 عاماً) الذي شنَّ هجوماً يوم الجمعة، 28 يناير/كانون الثاني، يبدو أنه تصرف من تلقاء نفسه، إذ لا يُعرف عنه الانتماء إلى أي فصيل فلسطيني.
ولا يُعرف يقيناً إذا كان علقم قد شنَّ هجومه ثأراً لمن قُتلوا في المداهمة الإسرائيلية بجنين، لكنه انضم إلى قائمة طويلة من الشباب الفلسطينيين الذين حاولوا بمفردهم في الأشهر الأخيرة قتل إسرائيليين، لكن الاختلاف في هجوم يوم الجمعة عن غيره هو أن علقم تمكن خلال عمليته في إسقاط أكبر عدد من القتلى الإسرائيليين في هجوم واحد منذ 15 عاماً.
هل تندلع انتفاضة ثالثة؟
كثير من هؤلاء المهاجمين المنفردين فقدوا أفراداً من عائلاتهم برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد قُتل أحد أبناء عمومة علقم في وقت سابق من الأسبوع الماضي في مداهمة إسرائيلية لمخيم شعفاط للاجئين شمال القدس المحتلة.
سُمي علقم على اسم جده الذي قتله يميني إسرائيلي متطرف عام 1998، لكن الشرطة الإسرائيلية أطلقت سراحه آنذاك بزعم عدم كفاية الأدلة. ويُذكر أن أحد الأصدقاء المقربين للمشتبه فيه بقتل جدِّ علقم هو وزير الأمن القومي الإسرائيلي الحالي إيتمار بن غفير.
هذه الدورات المتوالية من العنف والقتل تجعل من المستحيل تقريباً وصفَ حدث معين بأنه المحفز للهجمات اللاحقة أو التنبؤ على أساسه بمزيد من التصعيد. فكلما اشتعل العنف مدةً في الضفة الغربية والقدس، يدور الحديث عن "انتفاضة أخرى". لكن الانتفاضتين الفلسطينيتين السابقتين كانتا أوسع نطاقاً بكثير، فقد تزامنت الأحداث خلالهما في مئات المواقع وشارك فيهما آلاف الفلسطينيين.
ومع ذلك، فإن الموجة الحالية مستمرة منذ 10 أشهر، ولم تظهر أي بوادر تُذكر عن انحسارها حتى الآن، فهل يمكن أن تتفاقم وتتحول إلى انتفاضة ثالثة كاملة؟ العناصر التي تنذر بهذا الاحتمال حاضرة، فالحكومة الإسرائيلية تعجُّ بالمتشددين الذين يطالبون باتخاذ إجراءات جذرية، إلا أن نتنياهو يعلم أنه ليس لديه حلول سريعة للأزمة، إلا إذا اختار إرسال حملة عسكرية كاملة إلى المدن الفلسطينية، ما قد يؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا.
واشتدت خيبة الأمل لدى الفلسطينيين، وتوقف العالم عن الالتفات إلى محنتهم، وزاد على ذلك أن انقطعت السبل بآخر محاولة جادة لإحلال السلام في عام 2014. وهم ليس لديهم ثقة بقيادتهم، التي يوشك رئيسها محمود عباس، البالغ من العمر 87 عاماً، على دخول عامه التاسع عشر في الحكم. ويواجهون الآن حكومة إسرائيلية تنتمي إلى اليمين القومي المتطرف، وتتبع سياسة رسمية لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية وضمها في نهاية المطاف.
وبعد 23 عاماً من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، نشأ جيل فلسطيني جديد ليس لديه أمل في سلام قريب، ولا يملك أبناؤه ما يخسرونه إذا أشعلوا انتفاضة جديدة.