في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أفادت تقارير بأن قوات الاحتلال التي نفذت عملية ضد مخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة، قد حظيت بدعم من المروحيات الحربية والطائرات المسيّرة المسلحة، رغم أن تلك المعدات لم تُستخدم هجومياً.
ويتساءل المعلقون عما إذا كانت هذه التقارير تشير إلى احتمالية بدء الاحتلال في استخدام الطائرات المسيّرة المسلحة داخل الضفة الغربية، كما يفعل في قطاع غزة المحاصَر. لكن فهم المعادلات الحسابية التي يعتمدها الاحتلال في قتل الفلسطينيين تشير إلى استبعاد احتمالات حدوث ذلك الأمر. إذ يعتمد الاحتلال أكثر حساباته فتكاً في غزة، حيث لا تكترث حكومة الاحتلال بإحصاء جثث الفلسطينيين الذين يموتون في هجماتها هناك.
المدنيون الفلسطينيون خارج حسابات جيش الاحتلال الإسرائيلي
يتجلى عدم الاكتراث هذا في أعداد القتلى الضخمة ضمن صفوف المدنيين، بما في ذلك العائلات التي تُذبح بالكامل أو جزئياً كما يقول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني. ناهيك عن الدمار الواسع الذي يلحق بالمنازل، والمستشفيات، والعيادات الصحية، والمدارس، والمساجد، والبنية التحتية للطرق والطاقة.
ولا يبدو أن المجتمع الدولي مهتمٌ بوفيات الفلسطينيين في غزة، بصرف النظر عن الإدانات الخاوية التي لا تُترجَم إلى أفعال. إذ لم تسفر أي تقارير أعدتها لجان الأمم المتحدة عن غزة إلى أي تداعيات أو عقوبات حقيقية على دولة الاحتلال. حيث أجرت الأمم المتحدة تحقيقاً حول تظاهرات عام 2018 في غزة، ووجد التحقيق أن جيش الاحتلال قتل 183 شخصاً بالنيران الحية، وجرح أكثر من 6000 شخص بالذخيرة الحية، وبينهم مئات النساء والأطفال.
بينما تعرّض أكثر من 1500 شخص آخر لإصابات غير مباشرة بشظايا الرصاص والقذائف. ولكن كما هو معتاد، لم يُسفر التقرير عن أي تداعيات بالنسبة لدولة الاحتلال.
"نعلم موقع سقوط كل رصاصة"
رداً على التقارير المتداولة حول أعداد الضحايا الضخمة أثناء تظاهرات عام 2018، أكّد جيش الاحتلال أن استخدام النيران الحية كان مقصوراً على القناصين الخاضعين لتدريبات خاصة، وذلك عبر تغريدةٍ ووثيقة جرى حذفهما من الإنترنت لاحقاً. إذ قالت التغريدة: "لم يحدث أي شيء خارج نطاق السيطرة، كان كل شيءٍ دقيقاً ومحسوباً، ونعلم موقع سقوط كل رصاصة".
وفي ظل إصابة هذا العدد الكبير من المدنيين بإصابات مباشرة، وإطلاق جيش الاحتلال لنيرانه بدقةٍ وهو يعلم موقع سقوط كل رصاصة؛ ألا يجب أن نستنتج هنا أن القناصة كانوا يتعمّدون إطلاق النار على المدنيين؟ وألا يعني هذا أنهم انتهكوا القانون الدولي الذي يُلزمهم بالتفرقة بين المقاتلين والمدنيين؟
وقد تحولت "الأضرار الجانبية" على المدنيين إلى مشكلةٍ متكررة، بدايةً من عدم اكتراث الاحتلال بعدد ضحايا هجماته على غزة، ووصولاً إلى التقنيات الفتاكة التي يستخدمها هناك. وربما يتذكر البعض الحادثة التي وقعت في يوليو/تموز عام 2002، عندما أسقطت طائرة القوات الجوية التابعة للاحتلال قنبلةً بوزن طنٍ كامل على مدينة غزة. وتسببت القنبلة في استشهاد القائد العسكري في حماس، صلاح شحادة، و14 من المدنيين، الذين كان غالبيتهم من النساء والأطفال. ولا شك أن استخدام قنبلة كهذه يكشف مدى عدم اهتمام الاحتلال بحصيلة الوفيات هناك.
جيش الاحتلال يستخدم الطائرات المسيّرة والمدفعية لقتل الفلسطينيين بشكل عشوائي
أثناء الحرب على غزة (2008-2009)، اعتمد جيش الاحتلال بشكلٍ مكثف على استخدام الطائرات المسيّرة، التي كانت فتاكةً في مواجهة المدنيين، ودقيقةً نسبياً في الوقت ذاته. وزادت صادرات الطائرات المسيّرة من دولة الاحتلال إلى الدول الأخرى بعدها.
ويقول إيتاي ماك، ناشط حقوق الإنسان الإسرائيلي إنه خلال الحرب على غزة عام 2014، أخبرني الصحفيون الذين تمكنوا من دخول القطاع المحاصَر أنهم فوجئوا بعدد وقائع استخدام الجنود لقذائف المدفعية، التي تُعد تقنيةً أكثر بدائية وأقل دقة، كما يؤدي استخدامها في المناطق المبنية الكثيفة إلى زيادة عدد الضحايا.
ويضيف في موقع MEE البريطاني بعد نهاية الحرب، نشر جيش الاحتلال بيانات تكشف أن الجنود أطلقوا ما لا يقل عن 40 ألف قذيفة مدفعية عيار 155 مم خلال حرب عام 2014، أي ما يعادل 4 أضعاف القذائف المستخدَمة في حرب 2008-2009. ولم يقدم جيش الاحتلال تفسيراً منطقياً لهذه الزيادة. لكنني أعتقد أن هذه الزيادة تبرهن على أن دولة الاحتلال لا يهمها عدد الضحايا من المدنيين في غزة.
وينص روتين دولة الاحتلال في الضفة الغربية على قتل فلسطيني أو اثنين فقط بواسطة الجيش أو شرطة حدود الاحتلال، وذلك كل بضعة أسابيع أو بضعة أيام أحياناً. إذ تخشى دولة الاحتلال اندلاع انتفاضةٍ جديدة؛ لأن الضفة الغربية تختلف عن قطاع غزة. حيث لا يوجد مستوطنون في قطاع غزة منذ عام 2005، بينما تنتشر المستوطنات في كل أرجاء الضفة الغربية المحتلة، ولهذا فإن قوات الاحتلال ملزمةٌ من الحكومة بحماية أمنهم.
علاوةً على ذلك، لا تريد دولة الاحتلال اندلاع انتفاضةٍ جديدة حتى لا تزيد الضغوطات الدولية عليها، وذلك لإلزامها بتهدئة المنطقة عبر تقديم مبادرات سياسية للفلسطينيين. مما سيؤدي لإثارة شقاقٍ سياسي في أوساط مواطني دولة الاحتلال.
استثناء "الروليت الأمريكي"
يقول الكاتب الإسرائيلي إيتاي ماك، إنه يُنسب إلى البولندي، سمحا بلاس، الفضل في ابتكار تقنية الري بالتنقيط المعاصرة، وذلك في منتصف القرن الـ20. ويُمكن القول إن الفلسطينيين في الضفة الغربية حُكم عليهم بالموت بالتنقيط. إذ تعتمد دولة الاحتلال على قواعد اشتباكٍ أكثر صرامة لتجنب المذابح الكبرى داخل هذه المنطقة، مع استخدام أسلحةٍ أقل فتكاً من تلك المستخدمة في غزة. وعادةً ما تقع جرائم القتل في الضفة الغربية على يد جنود من المشاة، بدلاً من الطائرات المقاتلة والمدفعية والقنابل.
ولا تكترث المنافذ الإعلامية العالمية والدول الغربية عندما تقتل دولة الاحتلال الفلسطينيين "قطرةً قطرة". لكن الاستثناء الوحيد يتمثل في "الروليت الأمريكي". حيث يكون الاحتجاج العلني أقوى لسوء حظ دول الاحتلال، إذا تصادف أن يكون أحد الفلسطينيين الشهداء مواطناً أمريكياً في الوقت ذاته، كما كان الحال مع الصحفية شيرين أبو عاقلة.
وقد يبدو أن جثة مواطنٍ أمريكي واحد تساوي آلاف الجثث من الفلسطينيين "العاديين"، وذلك من ناحية معاملة الاحتلال على الأقل. وفي مثل هذه الحالات، تضطر وزارة الخارجية الأمريكية لمعاملة الفلسطيني القتيل كإنسان، وليس مجرد إحصائية غير مهمة. وربما تضطر أحياناً للضغط على حكومة الاحتلال علناً من أجل فتح تحقيق ومحاكمة المسؤولين.
ونتيجةً لهذه الحسابات، من المستبعَد أن تبدأ دولة الاحتلال في استخدام الطائرات المسيرة داخل الضفة الغربية المحتلة، لأن هذه الاستراتيجية قد تؤدي لزيادة الوفيات والجرحى، مما قد يتسبب في اندلاع انتفاضةٍ جديدة. وسيظل هذا الأمر واقعاً ما دامت حكومة الاحتلال لا مصلحة لها في اندلاع انتفاضةٍ جديدة.
لكن من المحتمَل أن تكون للحكومة الجديدة مصلحة في إشعال المنطقة، نظراً لاعتمادها على قاعدة متعصبة من أنصار الفصل العنصري وأيديولوجية الكاهانية الصهيونية الخاصة بمتشددي اليمين المتطرف.
أوجه الشبه بين غزة وكشمير
تُعَدُّ مثل هذه الحسابات مألوفةً بالنسبة للمسلمين في كشمير. إذ قتلت قوات الأمن الهندية وأخفت عشرات الآلاف من المسلمين في كشمير، لكن يبدو أن الدولة مطمئنة لعلمها أن المجتمع الدولي لا يهتم بمحنتهم اهتماماً كبيراً -كما هو الحال في غزة. بل ويُعرب المجتمع الدولي أحياناً عن تعاطفه مع الحكومة الهندية في حربها ضد العناصر "الإرهابية" والانفصالية.
ومن ناحيةٍ أخرى، تحرص الحكومة الهندية على عدم ارتكاب أي مذابح بحق المسلمين في بقية أرجاء الهند، لأن خطوة كهذه من شأنها أن تؤدي لاهتمامٍ دولي كبير بالقضية.
حيث إن المذبحة بحق المسلمين في دلهي عام 2020 شغلت وسائل الإعلام الدولية لفترةٍ طويلة من الوقت نسبياً. ويبدو أن القوميين المتطرفين في الهند يُدركون أنه يُستحسن بهم استخدام "طريقة التنقيط"، بدلاً من تنفيذ المذابح واسعة النطاق التي تُثير انتباه العالم.
وإذا جمعنا جثث الشهداء من فلسطين إلى الهند، ثم وضعناها أمام مداخل البيت الأبيض أو البرلمان الأوروبي، فسوف يضطر من هم بالداخل للالتفات إلى الأمر. لكن شغلهم الشاغل سيظل منصباً على أنفسهم في المقام الأول، أي إن خطوة كهذه لن تدفعهم سوى لمطالبة قادة الاحتلال وزعماء الهند قائلين: "يجب أن توقفوا كل عمليات القتل، لأننا نريد الخروج من مبانينا".