عاد تفجير مرفأ بيروت إلى واجهة الأحداث في لبنان، بعد أن قرر قاضي التحقيق استئناف عمله، لتنقسم آراء القضاة والنخبة الحاكمة في البلاد، فما تفاصيل غياب العدالة وسيادة "قانون الغاب" في البلاد؟
كانت العاصمة اللبنانية قد تعرّضت لواحد من أسوأ الانفجارات غير النووية في التاريخ، يوم 4 أغسطس/آب 2020، عندما اندلع انفجار هائل في مرفأ بيروت، أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة نحو 6 الآف آخرين، ودمر أحياء بأكملها، في كارثة توقع الكثيرون أن تؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي في البلاد، وسط تعالي المطالبات بإجراء تحقيق دولي لكشف المتسببين في الكارثة ومحاسبتهم.
فما الذي حدث فعلاً بعد مرور عامين ونصف العام على وقوع المأساة؟ تتمتع النخبة الحاكمة في لبنان بنفوذ كبير على القضاء، لأن كثيرين من القضاة يدينون للسياسيين بالفضل في تعيينهم في مناصبهم.
في البداية، عيّن وزير العدل القاضي فادي صوان محققاً بعد فترة قصيرة من وقوع الانفجار. ووجه صوان اتهامات إلى ثلاثة وزراء سابقين ورئيس الوزراء الأسبق حسان دياب بالإهمال بشأن الانفجار في ديسمبر/كانون الأول 2020، لكنه واجه بعد ذلك انتكاسة سياسية قوية.
وأبعدته محكمة عن القضية في فبراير/شباط 2021 بعد أن شكا اثنان من الوزراء السابقين وهما علي حسن خليل وغازي زعيتر، وكلاهما من أعضاء حركة أمل التي يرأسها نبيه بري وحلفاء لحزب الله المدعوم من إيران، من تجاوز سلطاته. وتم تعيين القاضي طارق البيطار خلفاً لصوان.
ووصل التحقيق إلى مرحلة من النسيان التام في 2022 عندما تقاعد بعض القضاة قبل البتّ في الشكاوى المرفوعة ضد البيطار والتي أوقفت تحقيقه، وأرجأت السلطات تعيين قضاة جدد، مما أثار القلق من تجميد التحقيق إلى أجل غير مسمى.
عودة تحقيق البيطار في كارثة مرفأ بيروت
بشكل مفاجئ، قرر البيطار استئناف التحقيق، بموجب دراسة قانونية أعدها تتيح له استكمال العمل بملف التحقيق، مستنداً إلى اجتهاد قانوني يجيز له استئناف التحقيقات ويمنحه سلطات واسعة في الملاحقة، دون الوقوف أمام أي قيد.
ومنذ الإثنين 23 يناير/كانون الثاني، بدأت وسائل إعلام لبنانية في نشر تسريبات لدراسة البيطار القانونية المحتوية على ادعاءات بحق متهمين في قضية انفجار المرفأ.
وحسب الدراسة، التي لم تعلق عليها قبل الجهات الرسمية، "حدد قاضي التحقيق مواعيد لاستجواب المُدّعى عليهم الجدد، وأرسل مذكرات التبليغات إلى النيابة العامة التمييزية ليتم طلبهم إلى التحقيق في فبراير/شباط القادم".
وأضافت دراسة البيطار: "يمكن للمحقق العدلي أن يدعي على جميع الأشخاص من دون طلب الإذن من أي إدارة أو وزارة"، كما ذكرت أن "المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أخذت معياراً واحداً متعلقاً بطبيعة الفعل الجرمي لإحالة الدعوى على المجلس العدلي، دون إعطاء أي اعتبار لهوية المرتكبين سواء كانوا من السياسيين أو العسكريين أو القضائيين".
وكان أول قرار للبيطار، بناء على الدراسة، هو إطلاق سراح 5 موقوفين في قضية انفجار مرفأ بيروت، بينما ادعى على 8 آخرين بينهم مدير الأمن العام عباس إبراهيم ورئيس جهاز أمن الدولة طوني صليبا، وفق إعلام محلي.
رفض قرار البيطار
لم يتأخر الرد على تحرّك بيطار من قبل النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي رفض القرارات جملة وتفصيلاً "كون بيطار مكفوفة يده عن الملف".
وجاء في رسالة وجهها عويدات لبيطار: "نؤكد أن يدكم مكفوفة بحكم القانون ولم يصدر لغايته أي قرار بقبول أو رفض ردكم أو نقل أو عدم نقل الدعوى من أمامكم".
في المقابل صرّح بيطار لموقع إعلامي لبناني بالقول: "لا أحد سيوقفني عن استئناف التحقيق بعد توقّف لأكثر من سنة"، مشيراً إلى أنه "تم تعيين جلسات الاستماع للمدعى عليهم تباعاً بدءاً من أول فبراير/شباط المقبل".
جدل قانوني في لبنان
في الوقت الذي يرى خبراء أن بيطار يملك حق استكمال تحقيقه، اعتبر مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي، في حديث للأناضول، أن "عودة بيطار لاستكمال التحقيق خطوة غير قانونية فهي لا تراعي الأصول القانونية في البلاد".
في المقابل، رأى الصحفي المختص بالشؤون القضائية يوسف دياب للأناضول، أن بيطار "استند إلى مواد واضحة بالقانون في دراسته، ومن هنا اعتبرها قانونية".
من جهته، أكد الخبير الدستوري والقانوني عادل يمين للأناضول، أن "لا جواب حاسماً حول قانونية عودة بيطار للتحقيق، لكنها مستغربة لأنها أتت بعد أكثر من سنة من توقفه عن العمل نتيجة طلبات الرد".
وذكر يمين أن "المحقق العدلي (بيطار) عاد ليقول إنه خارج نظام الرد في الوقت الذي أوقف عمله وامتنع عن القيام به لسنة، لذا فالعودة مستغربة"، لافتاً إلى أن "الهيئة العامة لمحكمة التمييز اعتبرت أن قضاة التحقيق العدليين يخضعون لطلبات الرد".
بينما رأى رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر أن "المحقق العدلي (بيطار) تصرف بكل حضارة منذ تقديم أول طلب رد ضده"، وأشار صادر في حديث للأناضول، إلى أن "المحقق العدلي ممكن أن يخضع لطلبات الرد، إلا أن الجدل قائم حول الموضوع بعد ما كرست المحاكم أنه يخضع لها".
وتابع أن بيطار "رأى أن هناك سوء نية لاستعمال الثغرات القانونية وطلب الرد إحدى الثغرات، كما رأى أنها تُستعمل لعرقلة التحقيق".
لمن سيكون القرار الأخير إذاً؟
وسط الجدل القائم، أشار صادر إلى أنه "مقابل دراسة بيطار التي يقول فيها إنه سيسير بالملف، أكدت النيابة العامة التمييزية أنها لن تنفذ قراراته التي تعتبر بحكم العديمة الوجود". وأوضح أن "من يقيّم عمل بيطار هو المجلس العدلي وليس النيابة العامة".
وشدد صادر على أن "قرارات بيطار لا تقبل أي طريق من الطرق بالطعن وفق القانون، ولا يمكن للنيابة العامة القول إن قراراته باطلة إنما هذا دور المجلس العدلي".
لكن النخبة الحاكمة في لبنان دقت مسماراً آخر في نعش الدولة المنهارة، بتحركها نحو دفن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، مما أثار صراعاً في الهيئة القضائية، في محاولة لتجنب المساءلة بأي ثمن، بحسب تقرير لرويترز.
فقد انفجرت التوترات المختمرة منذ أمد بعيد بشأن التحقيق بعد أن وجه بيطار اتهامات لبعض الأشخاص الأكثر نفوذاً في البلاد، متحدياً الضغوط السياسية باستئناف تحقيقه. وبعد أن شملت قائمة المتهمين أصدقاء وحلفاء من أقوى الفصائل في لبنان، بما في ذلك حزب الله، ردت المؤسسة بسرعة، الأربعاء 25 يناير/كانون الثاني، باتهام المدعي العام لبيطار بأنه يغتصب السلطات. بينما وصف آخرون الأمر بأنه "انقلاب" على تحقيق بيطار.
ويترك هذا القليل من الأمل في تحقيق العدالة بأي حال في الانفجار ويثير القلق أيضاً بأن القضية ستسلك الطريق نفسه الذي سلكه عدد لا يحصى من القضايا الأخرى في بلد لطالما كان الإفلات من العقاب هو القاعدة.
ومع ظهور الصدوع العميقة في القضاء، تساهم الأزمة في تفكك الدولة الذي تسارع بفعل أزمة مالية مستمرة منذ ثلاث سنوات وتركتها النخبة الحاكمة لتتفاقم. وقال نبيل بومنصف نائب رئيس تحرير جريدة النهار إن هذا تدمير للقضاء. وأضاف لرويترز أنه يخشى من تفكك البلاد، وأنه لم يبق شيء يسمى دولة، وأن اللبنانيين يواجهون الفوضى وقانون الغاب.
ويعاني لبنان من أزمة تلو الأخرى منذ انهيار نظامه المالي، وهو ما يمثل بداية لأكثر المراحل تسبباً في زعزعة الاستقرار منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990. والعملة التي فقدت أكثر من 97% من قيمتها منذ عام 2019، تسارع انهيارها في الأيام القليلة الماضية، مما أدى إلى إفقار المزيد من اللبنانيين. وسيواجه حوالي 2.3 مليون شخص، أي نحو 42% من السكان، انعدام أمن غذائي حاداً في الربع الأول من هذا العام، وفقاً لدراسة مدعومة من الأمم المتحدة.
وأصبحت المساعدات الخارجية أكثر أهمية من أي وقت مضى في توفير الغذاء للناس ولقوات الأمن في الشوارع. وتساعد الولايات المتحدة وقطر في دفع رواتب الجنود. ولا تحرك النخبة السياسية الحاكمة ساكناً تقريباً لمعالجة الأزمة، إذ تغلّب المصالح الخاصة على الإصلاح.
النخبة الحاكمة تحصن نفسها.. كالعادة
على الجبهة السياسية، أدى الخصام بين الفصائل، الذي يعود تاريخ كثير منه إلى الحرب الأهلية، إلى أزمة حكومية غير مسبوقة مشوبة بالطائفية. ومنصب الرئاسة، الذي لا يتولاه إلا مسيحي ماروني، شاغر منذ شهور. وحذر زعماء مارونيون من أي تحرك لتجاوز طائفتهم، واعترضوا على اجتماعات مجلس وزراء تصريف الأعمال الذي يتزعمه مسلم سني.
وفي ظل هذه الأجواء، يمحص ممثلو ادعاء أوروبيون بعمق أكثر من أي وقت مضى في مزاعم بأن حاكم البنك المركزي رياض سلامة، أحد الركائز المالية لحكام لبنان الذي له علاقات سياسية وطيدة، اختلس مئات الملايين من الدولارات خلال فترة ولايته المستمرة منذ 30 عاماً. وينفي سلامة ارتكاب أي مخالفة.
وواجهت محاولات لقاض لبناني للتحقيق مع سلامة عقبات في لبنان الذي يتمتع فيه السياسيون بنفوذ كبير على القضاء. والعقبات يتردد صداها في المشكلات التي واجهها البيطار الذي كُلف بالتحقيق في الانفجار قبل عامين. فقد أُطيح بسلفه بعد شكاوى ضده من مسؤولين وجه إليهم الاتهامات.
وقال سامي عطا الله، مدير مبادرة سياسات الغد، إن هناك محاولة منهجية من المؤسسة لحماية أعضائها من انفجار المرفأ ومن الانهيار المالي ومن غيرها من الأزمات التي هم مسؤولون عنها في الواقع.
ووقع الانفجار نتيجة وجود مئات الأطنان من المواد الكيميائية المخزنة بشكل غير سليم، وكان الرئيس ورئيس الوزراء حينذاك، من بين مسؤولين آخرين، على علم بهذا. وكل المتهمين ينفون ارتكابهم أي مخالفات.
وقال نزار صاغية من مجموعة (المفكرة القانونية) للحقوق المدنية لرويترز إن هذا يشبه انقلاباً؛ إذ يقرر شخص اتهمه قاض أن يدافع عن نفسه بإبعاد القاضي الذي وجه إليه الاتهام وإطلاق سراح جميع المعتقلين.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة، طالب بعض اللبنانيين بإجراء تحقيق دولي منذ البداية لشكهم في قدرة السلطات المحلية على إخضاع أي شخص للمساءلة بشأن الانفجار. ومثل هذا التحقيق لن يكون الأول من نوعه. فقد تشكلت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005 وأدانت في نهاية المطاف عضواً في حزب الله بالضلوع في مؤامرة لقتل الحريري.
وأدان حزب الله المدعوم من إيران والذي دأب على نفي ضلوعه بأي دور المحكمة باعتبارها أداة لأعدائه. واتهم حزب الله، الذي عارض البيطار، الولايات المتحدة بالتدخل في التحقيق، واتهم بيطار بالتحيز السياسي. بينما تنفي واشنطن التدخل.
وذكر مصدر مطلع لرويترز أن حزب الله يعتقد أن قرار بيطار استئناف التحقيق نابع من اجتماع في الآونة الأخيرة مع قضاة فرنسيين يحققون في الانفجار الذي أسفر عن مقتل فرنسيين اثنين. بينما لم يتسن الحصول على تعليق من بيطار.
وفي عام 2021، بعث مسؤول في حزب الله برسالة إلى بيطار توعد فيها باقتلاعه، وشارك أنصار الجماعة في مسيرة مناهضة لبيطار تسببت في نشوب أعمال عنف دامية على طول خط مواجهة قديم يعود للحرب الأهلية بين أحياء مسيحية وشيعية.
وقال مهند الحاج علي، من مركز كارنيغي للشرق الأوسط، إن عرقلة التحقيق قد تفاقم التوترات الطائفية. وقال إنه على الرغم من أن الانفجار قتل لبنانيين من جميع الطوائف، لكن الضرر الأكبر وقع إلى حد كبير في المناطق ذات الأغلبية المسيحية وإن البطريرك الماروني طالب بالعدالة.
وقال الحاج علي إن "كل المعطيات موجودة" كي تصبح أي اشتباكات في الشوارع أسوأ مما كانت عليه في عام 2021، في ظل فراغ مقعد الرئاسة، واشتداد حدة الخطاب الطائفي، وانهيار العملة، وتولي الناس مهام الأمن بأنفسهم في بعض المناطق. وأضاف أنه إذا نظمت أسر الضحايا ومن يدعمونهم احتجاجاً وأدى ذلك إلى اشتباكات أو إصابات أو اعتقالات، فقد تكون بالتأكيد نقطة انفجار لاضطرابات أوسع.
ماذا يمكن أن يحدث الآن؟
حدد بيطار مواعيد لجلسات الاستجواب الشهر المقبل، واعتبر الصحفي دياب، في حديثه للأناضول، أن "عدم مثول المدعى عليهم للتحقيق قد يؤدي إلى إصدار مذكرة توقيف بحقهم، بعدها يحول بيطار الملف للمجلس العدلي ويعلن إنهاء التحقيق في القضية"، مشيراً إلى أن "هناك تخوفاً من قبل القوى السياسية من صدور القرار الظني في القضية، لما قد يحمله من أمور تضرها".
وكان أول القرارات التي أصدرها بيطار، الإثنين الماضي، إطلاق سراح 5 موقوفين في القضية. وذكرت وسائل إعلام لبنانية خاصة أن "الموقوفين هم أحمد الرجب سوري الجنسية، وسليم شبلي متعهد أشغال، وميشال نحول مدير مشاريع في المرفأ، وشفيق مرعي مدير الجمارك وسامي حسين مدير العمليات السابق بالمرفأ من دون كفالة مع قرار بمنع السفر".
بالنسبة إلى إخلاءات السبيل، ذكر القاضي حاتم ماضي، أن "الجدل كبير حول إخلاءات السبيل"، معتبراً أنها "لن تنفذ، كما لن يتم السير بقرارات بيطار". ومن جهته رأى صادر، أن "طلبات إخلاء السبيل للموقوفين استندت إلى معاهدات دولية أبرمها لبنان تشير إلى أن تعليق البت بقضية المرفأ لأكثر من عام يجعل من الموقوف معتقلاً وليس موقوفاً عادياً، بالتالي يجب إخلاء سبيله فوراً".
بناء على ذلك، أشار صادر إلى أنه "لأسباب إنسانية وكي لا يحصل أي مشكل صحي للموقوفين قرر بيطار السير بالتحقيق".
لم يخف صادر اعتباره أن "التدخلات السياسية تؤدي إلى الانقسامات في القضاء اللبناني"، داعياً إلى "إيجاد طريقة لمعالجة هذا الأمر". ويتوافق هذا مع كلام دياب الذي قال إن "القوى السياسية ممتعضة من إجراءات بيطار".
وأشار دياب إلى أن "السير بالتحقيق ممكن أن يترك آثاراً سلبية في الشارع اللبناني، ويمكن أن تكون هناك ردات فعل غاضبة في حال استكمل بيطار الإجراءات، وبرأيي سيستكملها".