"تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد"، كان واحداً من أكثر تعهدات مصر حساسية لصندوق النقد الدولي للحصول على قرض (الـ3 مليارات دولار)، لإنقاذ البلاد من عثرتها.
صحيفة Financial Times البريطانية عرضت توقعاتها لاستجابة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لهذا الشرط.
وتعهدت الحكومة المصرية بإعادة هيكلة ضخمة لحصص القطاعين الاقتصاديين العام والخاص، إضافة إلى تبني إجراءات لمعالجة أزمة العملة المتفاقمة في البلاد وتفاقم الديون.
الدولة تعهّدت بتقليص دور الشركات الحكومية
وتعتمد الالتزامات التي تعهّدت بها مصر لصندوق النقد الدولي على وثيقة سياسة ملكية الدولة الجديدة التي وضعتها الحكومة العام الماضي. وتتعهّد الوثيقة بأن تخرج الدولة بالكامل من 79 قطاعاً اقتصادياً، وتخرج جزئياً من 45 قطاعاً آخر في غضون 3 سنوات، وزيادة مشاركة القطاع الخاص في الاستثمارات العامة من 30 إلى 65%.
ومن اللافت للنظر أنَّ هذه السياسة التي قد تكون لها آثار بعيدة المدى في الاقتصاد المصري، ظهرت على ما يبدو من مجرد 3 أشهر من المشاورات المغلقة بين عدد محدود من المسؤولين الحكوميين وأعضاء البرلمان وقادة الأعمال في القطاع الخاص.
وأصدر صندوق النقد الدولي في 10 يناير/كانون الثاني 2023، تقريراً يوضّح فيه الالتزامات التي قطعتها الحكومة المصرية على نفسها مقابل الحصول على قرض جديد من الصندوق قيمته نحو 3 مليارات دولار، هو الرابع الذي حصلت عليه مصر منذ عام 2016. وعلى الرغم من إعلان الاتفاق الأولي في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، فقد استغرقت المباحثات لتحديد نطاقه الكامل 10 أشهر.
بحسب صندوق النقد، يتشمل الاتفاق، على "رزمة سياسات شاملة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي"، وإضافة إلى الإصلاحات النقدية المتعلقة بتحرير سعر صرف الجنيه المعتادة من الصندوق، كان اللافت للنظر هو ذهاب الاتفاق الأخير إلى أبعد من ذلك في وضع "الإصلاحات البنيوية الواسعة النطاق"، وتقليص "بصمة الدولة" في الاقتصاد، وتعزيز "الحوكمة والشفافية" في الصدارة.
يُظهر ذلك حرص الصندوق على إصلاحات حقيقية بخصوص إعادة تنشيط القطاع العام وقطاع الأعمال العام الضخمَين، سواء أكان ذلك من خلال إعادة هيكلتهما أم بيع الحصص فيهما إلى مستثمري القطاع الخاص، وبخصوص "تسوية الملعب" تسهيلاً للنمو الذي يقوده القطاع الخاص.
إذا أوفت الحكومة بوعودها، فسيكون تأثير ذلك أكبر من تأثير عملية الخصخصة التي بدأت عام 1991. وفي الواقع، يمكن أن تطلق العنان لأهم تحوُّل في مصر منذ "المراسيم الاشتراكية" التي أممت الاقتصاد بأكمله تقريباً في عام 1961، حسب الصحيفة البريطانية.
الاتفاق نص صراحةً على تقليص تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد
على الرغم من أهمية الإطار العام المعروض أعلاه، فإن المسألة الاستثنائية هي شموله الشركات العسكرية المصرية، حسب تحليل للباحث يزيد صايغ، المتخصص في اقتصاديات الجيش المصري، نشره مركز "كارنيغي" الأمريكي.
والتزمت الحكومة المصرية في "مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية" التي سلّمتها إلى صندوق النقد، وهي ملحقة بالاتفاق، بتوضيح "تعريف الدولة" في وثيقة "سياسة ملكية الدولة" التي نصت صراحةً بأنها "تشمل جميع الشركات المملوكة كلياً أو جزئياً من قبل هيئة متصلة بالدولة، بغض النظر عن الإطار المؤسسي الذي أُنشئت الشركة بموجبه". ولدرء الإبهام أو الالتباس، تعدّد المذكرة الشركات العسكرية تحديداً في عداد شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والهيئات الاقتصادية، والشركات المشتركة والشراكات المشمولة في هذا التعريف.
ثم تلقي المذكرة مزيداً من الضوء على مغزى هذه الالتزامات. فمن جهة أولى، تعد المذكرة بتقليص الإعفاءات الكثيرة التي تضفي الأفضليات والامتيازات على الشركات المملوكة للدولة في منافستها القطاع الخاص في السوق، وهو أمر لطالما أثار امتعاض القطاع الخاص والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد.
ولقد استفادت الشركات العسكرية من إعفاءات فاقت إلى حد بعيدٍ ما تتمتع به شركات وهيئات الدولة الأخرى، ومنها الإعفاء من ضريبة الدخل والضريبة العقارية وغيرهما، وضريبة القيمة المضافة، والرسوم الجمركية، والرسوم الإدارية المتنوعة، وسقوف معدلات تبادل العملة الصعبة، ورسوم النقل، وغيرها. ولكن تعِد المذكرة بِـ"إزاحة كل إعفاءات الشركات المملوكة للدولة وعن الشركات العسكرية كذلك".
والشركات العسكرية ضمن قائمة الشركات والهيئات الحكومية التي يترتب عليها إصدار "تقريرٍ سنوي شامل للنفقات الضريبية، بما في ذلك تفاصيل وتقديرات الإعفاءات والمنح الضريبية المفصّلة، وأن تسلّم حساباتها المالية كل 6 أشهر إلى وزارة المالية، التي ستقوم بدورها بتأمين حرية الحصول على هذه البيانات إلى جانب المعلومات عن كمّ الدعم الذي تتلقّاه النشاطات التجارية وغير التجارية للشركات المملوكة للدولة". وسيترتب على الشركات العسكرية، كذلك، اعتماد عقود التوظيف، المستندة إلى الأداء والأهداف العملياتية والمالية للمساعدة في تقييم الأداء وفي الخضوع للإشراف المركزي.
هل يقبل الجيش بهذا الشرط؟ وماذا عن موقف السيسي؟
مجرَّد قبول الحكومة المصرية بإدراج الشركات العسكرية رسمياً تحت سقف اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، بل إخضاعها للقواعد الضريبية وقواعد الإبلاغ المالي نفسها التي تنطبق على نظيراتها المدنية، أمر يخطف الأنفاس. ولكنه قد لا يتجاوز كونه نسجاً من الخيال، حسب التعبير الوارد في التحليل الذي نشره كارنيغي.
فالدولة لا تزال تتطلع إلى الاحتفاظ ببصمتها الكبيرة في القطاعات التي تتلقى حالياً نصيب الأسد من الاستثمار، وضمن ذلك العقارات والنقل، بل تأمل زيادتها، حسب الصحيفة البريطانية.
واللافت، حسب يزيد الصايغ، أنه لا الرئاسة ولا الحكومة قد قامت بالتمهيد السياسي المُكثّف اللازم لإقناع مختلف الأطراف المحلية بتمرير المشروع الواسع النطاق والبعيد الآثار الذي تمثّله سياسة ملكية الدولة الجديدة.
وهو الرأي الذي تكرره صحيفة Financial Times، حيث تقول إنه لا الحكومة ولا الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد مهدا الطريق علناً لنزع فتيل الصدمة الحتمية في هذا الشأن.
وتقول إنه على الرغم من أنَّ التغييرات المقترحة تعِد بمكاسب حقيقية، فإنها تشكل أيضاً تهديداً للجهات الفاعلة المؤسسية القوية ومجموعات المصالح.
إذ ترى الصحيفة أن هدف السيسي المباشر من هذا التعهد كان إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي؛ على أمل أن يسمح ذلك بالحصول على ائتمان إضافي بقيمة 14 مليار دولار من مصادر دولية أخرى.
وتضيف قائلة: "حقيقة أنَّ السيسي قد وافق على سياسة ملكية الدولة الجديدة رسمياً لا تغير الأمور، ولا تعني بالضرورة أنه يعتزم تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد".
تشديد الصندوق على الإفصاح عن ديون الشركة العسكرية قد يجابَه بمعارضة من الجيش
ويرى تقرير كارنيغي أن مسألة أخرى ستولّد دفعاً عسكرياً معاكساً لدعوات صندوق النقد إلى تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد، هو تشديد الصندوق على ضرورة الإفصاح الصحيح عن الديون والمستحقات، حيث يكشف تقرير الصندوق عن عجزه عن تقدير الاستحقاقات المترتبة على آلاف الصناديق "الخاصة" التي يحتفظ بها الكثير من هيئات الدولة، والتي لا بد من شمولها في الإفصاح عاجلاً أم آجلاً، ولكن الهيئات العسكرية تتمسّك بصناديقها الخاصة، وبسريّتها بشدة بالغة للغاية.
ويلاحظ محمد الهواري، مدير صناديق استثمار دولية، في مقال بصحيفة الشروق المصرية، اهتمام الصندوق بإجراءات الشفافية بشكل بالغ وعلى عدة مستويات.
ويقول إنه بينما هذا البند يكاد يكون شبه متكرر في أغلب برامج الصندوق مع الدول النامية، لكنه لاحظ أن طلبات الصندوق في هذا الشأن أكثر من مثيلاتها في أغلب الدول الأخرى، مما يعكس غياباً أكثر للشفافية في التعاملات الاقتصادية.
سبق أن تحدّث السيسي عن طرح شركات الجيش في البورصة
يُضاف إلى ما سبق أن المقاومة العسكرية هي بالتأكيد السبب الرئيس في التأخير المستمر في تعويم الشركات العسكرية من خلال البورصة المصرية أو بيع أسهمها من خلال صندوق الثروة السيادي المصري، حسب التحليل المنشور في موقع مركز كارنيغي.
فرغم تبني السيسي لذلك علناً، والإعلان منذ ثلاث سنوات عن البدء بتحضير عرض عشر شركات عسكرية في السوق، وتصريحات حكومية رسمية بقرب عرض شركتَي "الوطنية" لمحطات الوقود و"صافي" للمياه المعدنية على رأس القائمة. ولقد قيل الكثير عن اهتمام المستثمرين "الاستراتيجيين" الخليجيين بشراء "الوطنية"، ولكن يظهر أنه يتم تجريد أصولها لصالح شركة "تشيل آوت" الشائعة في كل مكان، والتي تستبدل محطات "الوطنية" بمجمعات بيع الوقود والخدمات والمأكولات وغيرها، ومن شأن ذلك تقليل جاذبية "الوطنية" للمستثمرين الخليجيين.
ولكن بدلاً من تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد، سيتم نقل الأصول لصناديق تابعة للرئيس
ويتوقع التحليل أن الاتفاق مع الصندوق، خاصةً الجانب المتعلق بمسألة تقليص تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد، سيتعرض للتأخير والتخفيف المتكرر، ما قد يجعله طموحاً أكثر منه واقعاً.
فالتصريحات العلنية للرئيس والمراسيم الرسمية على مدى السنوات القليلة الماضية، تكشف عن غرض مختلف جوهرياً؛ وهو رسملة المؤسسات والأصول المملوكة للدولة مثل البنية التحتية عن طريق ضخ الأموال الخاصة، مع تركها في أيدي الدولة، حسب Financial Times.
ويسمح التشريع الجديد لمقدمي الخدمات والمرافق المملوكة للدولة "بتسييل إيراداتها المستقبلية وتداولها للبيع للمستثمرين"، ويسمح للقطاع الخاص بإدارة المشروعات والأشغال العامة التي تمولها الحكومة.
في الوقت نفسه، ينقل الرئيس قائمة متزايدة من أصول الدولة من أيدي الحكومة إلى سيطرة عدد متزايد من الهيئات المنشأة حديثاً التي تخضع له مباشرة. وأحد هذه الصناديق هو صندوق الثروة السيادي، الذي برز باعتباره أداة مفضلة للسيسي لجذب رأس المال الخاص، بدلاً من تعويم الشركات الحكومية بِحرية في البورصة. وبالتالي، فإنَّ تأييده لسياسة ملكية الدولة هو ترتيب يبدو مؤقتاً قد يستخدمه لإخفاء استراتيجيته الفعلية.
أو شركات حليفة مثل راعي النادي الأهلي الجديد
وقد يلجأ الجيش والاستخبارات لكيانات بأسماء شخصيات مقربة منه، تقود شركات خاصة من الناحية القانونية، ولكنها فعلياً تستخدم رأسمال الجيش والاستخبارات لشراء بعض الكيانات الاقتصادية الحكومية والعسكرية ليبدو الأمر أنه بمثابة تقليص دور الجيش المصري بالاقتصاد أو شكل من الخصخصة، كما يطالب الصندوق.
وفي سياق مشابه، اهتمت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بشخصية إبراهيم العرجاني رجل الاعمال الذي ظهر بقوة على الساحة وحصل على توكيل شركة "بي إم دبليو"، في مصر، وأعاد افتتاح مصنعها في وقت تعاني شركات السيارات من أزمة خانقة، كما أصبح العرجاني راعياً للنادي الأهلي أعرق أندية مصر والعالم العربي.
وتزعم تقارير بأن العرجاني الذي ينتمي لواحدة من أكبر قبائل سيناء، وكان قديماً على خلاف مع الجيش، حيث سبق أن اختطف مجموعة من الشرطة عام 2010، انتقاماً لمقتل أخيه، قبل أن يتحالف مع السلطة، ويساهم في محاربة داعش.
وفي عام 2014، نشر موقع "اليوم السابع" المحسوب على الدولة حواراً معه أعلن فيه تأسيس شركة إدارة "مصر سيناء" التي يترأسها كأول استثمار مشترك بين الجيش ورجال الأعمال فى سيناء، كاشفاً أن هناك 3 مليارات جنيه جاهزة لبناء 3 مصانع توفر 30 ألف فرصة عمل.
إليك ما سيحدث على أرض الواقع من وجهة نظر الصحيفة البريطانية
وتقول صحيفة Financial Times البريطانية إن التناقض بين الوعد والواقع سيصير أوضح فيما يتعلق بالحصة الكبيرة من السلع والخدمات العامة التي تقدمها الشركات والوكالات العسكرية. وأبلغت الحكومة المصرية صندوق النقد الدولي أنها ستُخضِع هذه المؤسسات للإطار التنظيمي نفسه الذي تخضع له نظيراتها في القطاع العام المدني.
ومع ذلك، فإنَّ الجيش لا يقف فحسب في قلب توسع متعدد السنوات لا يُظهِر أية علامة على التراجع، بل استمر في الواقع في التوسع بالقطاعات التي من المفترض أن تغادرها الدولة.
وقد يبدو أنَّ كل هذا يضع إطار السياسة المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي موضع شك، لكن الحقيقة هي أنَّ كلا الجانبين يحتاج إلى اتفاقية تبدو جيدة على الرغم من عدم توافر الإرادة ولا القدرة لدى أي منهما لفرضها. وستُفضَح هذه التسربات الكبيرة حتماً؛ وعلى رأسها سيكون عدم إنفاذ الأحكام المتعلقة بالجيش.
وتقول الصحيفة البريطانية "قد لا يضطر الجيش إلى القتال بقوة للحفاظ على حصته الاقتصادية هذه المرة: فلو بإمكان الماضي منحنا دليلاً، فإنَّ الحكومة ستراوغ في التزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي في كل الأحوال. ومع ذلك، ليس من المؤكد ما إذا كان الشركاء الأجانب الآخرون، لا سيما في دول الخليج، سيكونون متسامحين".
وتضيف: "في الوقت الحالي، لن يسمح السيسي بحدوث خلاف خطير مع الجيش؛ على أمل أن تتمكن الحكومة من تحمُّل عبء التعامل مع الجمهور المصري الذي يزداد سخطه، ومناشدة المانحين الأجانب. لكنه لا يستطيع تأجيل مواجهتهم إلى أجل غير مسمى".