تعهد فولوديمير زيلينسكي بشن حملة لتطهير أوكرانيا من الفساد، بعد إقالة مسؤول كبير متهم بتلقي الرشوة وفتح وزارة الدفاع تحقيقاً بشأن أمر مشابه، فماذا يحدث في ساحة الحرب التي يدفع العالم كله ثمناً باهظاً لاستمرارها منذ نحو عام كامل؟
فقد أعلنت كييف، الأحد 22 يناير/كانون الثاني، إقالة نائب وزير تنمية البلديات بشبهة تلقيه الرشوة، كما أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية فتح تحقيق بشأن اتهامات بإبرام عقود بأسعار مبالغ فيها لمنتجات غذائية مخصّصة للعسكريين.
من جانبه، قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إنه لن يتم التغاضي عن الفساد، الذي يمثل مشكلة مزمنة في البلاد، وتعهد باتخاذ قرارات رئيسية بشأن القضاء عليه هذا الأسبوع.
هل أثرت الحرب على الفساد في أوكرانيا؟
في الوقت الذي يقترب فيه الهجوم الروسي على أوكرانيا من نهاية عامه الأول دون مؤشرات على اقتراب تلك الحرب الكارثية من نهايتها، ومع تدفق المساعدات الغربية غير المسبوقة على كييف وفتح الباب أمامها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من الطبيعي أن يأتي الحديث عن استمرار الفساد في أوكرانيا في هذا التوقيت كصدمة للمتابعين لتلك الحرب المدمرة.
والحديث عن الفساد لم يأتِ من جانب روسيا، بل من داخل دوائر الحكومة الأوكرانية نفسها، إذ كتب رئيس الوزراء الأوكراني، دينيس شميهال، عبر تلغرام: "يأمر مجلس وزراء أوكرانيا بإقالة ف. إم. لوزينكيتش من منصب نائب وزير تنمية البلديات والأقاليم والبنية التحتية في أوكرانيا".
هذا الإعلان جاء بعد يوم من القبض على المسؤول للاشتباه في تورطه في الفساد، إذ أفاد المكتب الوطني لمكافحة الفساد، السبت 21 يناير/كانون الثاني، أن فاسيل لوزينكيتش الذي شغل منصبه منذ مايو/أيار 2020، "تلقى 400 ألف دولار لتسهيل إبرام عقود شراء معدات ومولدات بأسعار مبالغ فيها".
الحديث عن المولدات والمعدات يأتي في وقت يعاني فيه أغلب الأوكرانيين من الظلام وبرد الشتاء القارس، بسبب النقص الحاد في الكهرباء في البلاد، نتيجة للهجمات الروسية التي تستهدف منشآت الطاقة في البلاد، بينما يسارع حلفاء كييف الغربيون إلى تعويض النقص في الطاقة، من خلال تدفق المساعدات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات.
وقبل أيام قليلة، كان وزير الداخلية الأوكراني، دينيس موناستيرسكي، من بين القتلى في حادث تحطم مروحية في منطقة بروفاري بأوكرانيا، ولم تعلن كييف بعد عن أسباب وملابسات تحطم المروحية، فيما أشارت بعض التقارير إلى أنها كانت عملية اغتيال نتجت عن وجود "خيانة" داخلية".
وفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية عن فتح تحقيقات بعد نشر تقارير تتحدث عن أساليب مريبة في المشتريات العسكرية، ليصدر زيلينسكي بياناً يتعهد فيه بالقضاء على الفساد في البلاد خلال هذا الأسبوع.
إذ قال زيلينسكي في كلمة مصورة: "سيكون هذا الأسبوع هو الوقت المناسب لاتخاذ قرارات مناسبة. لقد تم إعداد القرارات بالفعل. لا أريد نشرها في الوقت الحالي، لكن كل ذلك سيكون عادلاً".
وأضاف زيلينسكي، الذي انتخب بأغلبية ساحقة في عام 2019 بناء على تعهدات بتغيير الطريقة التي تُدار بها الدولة السوفييتية السابقة، أن حكومته قبلت استقالة نائب وزير بعد تحقيق في مزاعم بأنه تلقى رشوة.
ويثير تعهد زيلينسكي، الذي أصبح أيقونة للديمقراطية الغربية، العديد من التساؤلات، فهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن تفشي الفساد في أوكرانيا، حتى بعد أن بدأ الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
فبعد نحو 3 أشهر من بدء الحرب، التي وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنها الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، رصد تقرير لصحيفة The Times البريطانية عنوانه "الفساد يترك قوات الاحتياط الأوكرانية بلا أسلحة أو إمدادات"، رحلة الفساد في صفوف الجيش الأوكراني والتي يبدو أن الهجوم الروسي قد أصابها بالتباطؤ لفترة قصيرة للغاية قبل أن تعاود سرعتها المعتادة.
الفساد والدعم الغربي غير المسبوق
تحظى أوكرانيا بدعم غير مسبوق من الدول الغربية، حيث إن الحرب الحالية هي في الأساس أزمة جيوسياسية بين روسيا وحلف الناتو، الذي وعد كييف بفتح الباب أمامها للانضمام إلى الحلف العسكري الغربي وهو ما تعتبره موسكو ورئيسها فلاديمير بوتين تهديداً وجودياً لها.
لكن هذا الدعم، العسكري وغير العسكري، يثير معارضة متصاعدة داخل العواصم الغربية التي يعاني مواطنوها من تبعات تلك الحرب المتمثلة في التضخم غير المسبوق منذ عقود والارتفاع الجنوني في الأسعار، وبالتالي فإن الحديث عن استمرار الفساد في أوكرانيا يزيد من قوة المبررات لدى تلك المعارضة.
ففي واشنطن، أعلن الجمهوريون الذين أصبحوا يمتلكون أغلبية بسيطة في مجلس النواب، أنهم يوافقون على استمرار تدفق المساعدات الأمريكية لأوكرانيا دون تدقيق ومراقبة دقيقة لأوجه إنفاق تلك المساعدات، متهمين إدارة بايدن بتقديم "شيك على بياض" لكييف.
وفي بروكسل، ورغم أن الاتحاد الأوروبي وافق في العام الماضي على منح أوكرانيا وضع "المرشح" للانضمام إلى التجمع الأوروبي، إلا أن الأوروبيين وضعوا "القضاء على الفساد" كأحد شروط ومتطلبات انضمام كييف بشكل رسمي إلى ناديهم.
لكن الموقف الغربي من هذه القضية تحديداً يبدو غامضاً وغير مفهوم، فأوكرانيا كانت توصف بأنها واحدة من أكثر دول الكوكب فساداً، لكن مع بداية الهجوم الروسي غاب الحديث عن ذلك الجانب، وتحولت كييف إلى رمز للديمقراطية الغربية، بحسب وصف الناتو والاتحاد الأوروبي، وكأن الفساد قد تبخر فجأة.
وكانت أوكرانيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وصوّتت لصالح الاستقلال عام 1991 وكان من المفترض أن تلتزم الحياد، بحسب دستورها في ذلك الوقت، لكن منذ عام 2004 بدأت حالة الانقسام داخل أوكرانيا تزداد عمقاً بين معسكرين؛ الأول يريد الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والآخر يريد أن يصبح أقرب إلى روسيا.
ومنذ عقود، كانت قضية الفساد المستشري في أوكرانيا إحدى أبرز العقبات في طريق سعي كييف إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ووصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أوكرانيا بأنها واحدة من أكثر الدول "فساداً على الإطلاق"، وكان ذلك عام 2020 خلال محاولة الكونغرس عزل ترامب في المرة الأولى فيما عرف وقتها باسم "فضيحة أوكرانيا".
إذ كان ترامب يريد من نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يفتح تحقيقاً في معاملات تجارية سابقة لنجل جو بايدن (الرئيس الحالي ومنافس ترامب وقتها)، هانتر بايدن، والتي زعم ترامب بأنها معاملات شابها "الفساد". خسر ترامب الانتخابات وفاز بايدن واشتعلت أزمة أوكرانيا حتى انفجرت بالفعل وتحولت إلى حرب لا تزال مستمرة وتهدد العالم بمواجهة نووية بين روسيا والناتو.
كيف يمكن أن يوفي زيلينسكي بتعهده إذاً؟
التفاصيل التي ذكرتها تقارير أوكرانية صادرة عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في البلاد تشير إلى مدى عمق وتجذر الفساد وغياب الحوكمة، فالأمر لا يتوقف عند ملف بعينه أو مستوى ما من المسؤولية.
إذ تلقى نائب وزير تنمية البلديات "رشوة بقيمة 400 ألف دولار لتسهيل عقود شراء مولدات ومعدات أخرى تتعلق بالطاقة بأسعار أعلى كثيراً من أسعارها الحقيقية"، بحسب تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية.
أما فيما يتعلق بوزارة الدفاع، فقد ذكرت تقارير، السبت 21 يناير/كانون الثاني، أن الوزارة وقعت صفقات لتوريد مواد غذائية للقوات الأوكرانية بأسعار "أعلى ضعفين وثلاثة أضعاف" عن الأسعار الحالية للمواد الغذائية الرئيسية. إذ يبلغ سعر البيضة الواحدة في منافذ البيع للجمهور نحو 0.19 دولار، لكن وزارة الدفاع تعاقدت على شرائها بسعر 0.46 دولار، كما تعاقدت الوزارة على شراء البطاطس بأكثر من ضعف سعرها في الأسواق، بحسب موقع ZN.UA.
كيف جاء رد وزارة الدفاع؟ نفت تلك التقارير وقالت إنها "تشتري المنتجات الغذائية للقوات بأسعارها العادلة"، وأكدت الوزارة أنها قررت فتح تحقيق في الأمر. التحقيق الذي قالت الوزارة إنها فتحته يبحث عن "كيفية وصول تلك المعلومات إلى وسائل الإعلام"، واصفة التقارير بأنها "تضر بمصالح وزارة الدفاع في فترة حساسة".
لكن زيلينسكي خرج بتعهده المصور بعد ساعات قليلة ليؤكد وجود الفساد بالفعل ويقول إنه سيقضي عليه خلال أسبوع، بحسب تعبيره. والسؤال هنا: هل هذه هي المرة الأولى، منذ اندلاع الحرب وبدء تدفق المليارات الغربية على البلاد، التي يدرك فيها الرئيس الأوكراني أن الفساد المستشري في بلاده لا يزال قائماً؟
الإجابة كلا، إذ كان زيلينسكي نفسه قد أقال المدعية العامة، إيرينا فينيديكتوفا، ورئيس الأمن العام، إيفان باكانوف، خلال يوليو/تموز الماضي، ووقتها دعت واشنطن إلى اختيار شخص يتمتع بالمصداقية لمنصب المدعي العام خلفاً للمقالة، التي كانت صديقة مقربة من الرئيس الأوكراني.
ووقتها اعتبر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن مكافحة الفساد تعد أمراً أساسياً مع تحضّر البلاد للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وقال: "يجب مكافحة الفساد حتى في الوقت الذي تدافع فيه أوكرانيا عن نفسها ضد العدوانية الروسية. الحرب الروسية ضد أوكرانيا تشكل تهديداً خارجياً، والفساد يشكل تهديداً داخلياً".
الخلاصة هنا أن الفساد في أوكرانيا أزمة مزمنة ولم يؤثر فيها تعرض البلاد للهجوم الروسي، والذي يقترب من نهاية عامه الأول، فكيف يمكن أن يقضي عليه الرئيس فولوديمير زيلينسكي خلال أسبوع؟ هذا هو السؤال الذي يضاف إلى علامات الاستفهام الكثيرة التي تغلف تلك الحرب الكارثية التي يعاني منها العالم أجمع دون طائل.