وصول محققين أوروبيين إلى بيروت لأخذ شهادات من معنيين بالبنوك في إطار التحقيقات الجارية بشأن ثروة وأنشطة حاكم مصرف لبنان المركزي، فهل رياض سلامة ظالم أم مظلوم؟
وتنبع أهمية هذه القضية تحديداً في كون القطاع المصرفي بقلب أزمة لبنان المالية، التي اندلعت منذ أواخر عام 2019، حين حالت البنوك إلى حد كبير بين العملاء وودائعهم الدولارية، وأوقفت التحويلات إلى الخارج منذ ذلك الحين، مع تنامي شح الدولار.
كما تسبب الانهيار المالي في تداعي قيمة العملة المحلية، وأجبر البلاد على إعلان عدم قدرتها على سداد ديون سيادية، ودفع نصف السكان على الأقل إلى الفقر. ولا تزال الأزمة مستمرة ويدفع ثمنها أغلب اللبنانيين.
متى بدأت التحقيقات بشأن رياض سلامة؟
البداية فيما يتعلق بالاتهامات، التي تطارد رياض سلامة، الذي يتولى منصب حاكم مصرف لبنان المركزي منذ أكثر من 30 عاماً، جاءت من سويسرا، حين بدأت التحقيقات فيما إذا كان سلامة وشقيقه الأصغر رجا قد حصلا بشكل غير قانوني على أكثر من 300 مليون دولار من البنك المركزي اللبناني بين عامي 2002 و2015.
ويفحص مكتب المدَّعي العام السويسري شبكةً من الحسابات المصرفية من سويسرا إلى بنما، ويقول إن سلامة وشقيقه ربما استخدما هذه الشبكة لإيواء "الاختلاس المُحتَمَل" لأموال المصرف المركزي و"القيام بغسل الأموال".
ويقول المُدَّعون السويسريون، الذين يعتمدون في تحقيقهم على شكوى قدَّمتها منظمة "المحاسبة الآن"، وهي منظمةٌ تأسَّسَت عام 2020 من قِبَلِ نشطاءٍ حقوقيين لبنانيين وسويسريين، إن الوثائق تُظهِر أن سلامة استأجَرَ شركة Forry Associates، وهي شركة وساطة مملوكة لشقيقه رجا، للتعامل مع مبيعات المصرف المركزي من السندات الحكومية، وذلك من عام 2002 إلى 2015. وقام المصرف المركزي بتحويل ما لا يقل عن 330 مليون دولار من العمولات إلى الحساب السويسري للشركة، فكيف رد سلامة على هذه الاتهامات؟
لكن ذلك التحقيق السويسري في الفساد وغسل الأموال كان ضربة البداية، فمنذ ذلك الحين، بدأت دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وليختنشتاين تحقيقاتها الخاصة، فيما إذا كانت عشرات الملايين من الدولارات يُقال إنها مختلسة من مصرف لبنان قد تم غسلها في أوروبا.
وفي مارس/آذار 2022، أعلنت منظمة التعاون في مجال العدالة الجنائية التابعة للاتحاد الأوروبي عن تجميد نحو 120 مليون يورو (130 مليون دولار) من الأصول اللبنانية في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وموناكو وبلجيكا. وتم تجميد الأصول في قضية قال فيها ممثلو الادعاء في ميونيخ إن رياض سلامة متهم فيها.
كما تلقى لبنان عدة طلبات تعاون من هيئات قضائية أوروبية، وفي يناير/كانون الثاني الجاري، وصل فريق من محققين أوروبيين من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ لاستجواب شهود والحصول على أدلة إضافية.
يشير وصول المحققين الأوروبيين إلى إحراز تقدم في واحد من عدة تحقيقات بشأن سلامة الذي تخضع فترة رئاسته للبنك المركزي على مدى 3 عقود لمزيد من التدقيق منذ انهيار النظام المالي في لبنان، بحسب تقرير لرويترز.
ماذا يفعل فريق المحققين الأوروبيين في لبنان؟
كان فريق من المحققين الأوروبيين قد وصل إلى العاصمة اللبنانية هذا الأسبوع، واستمعوا الإثنين 16 يناير/كانون الثاني إلى عدد من الشهود، وقال مصدر قضائي لبناني لوكالة الأنباء الفرنسية إن "محققين من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ استمعوا الإثنين الى سعد العنداري، وهو نائب سابق لحاكم مصرف لبنان بصفة شاهد، بحضور القاضيين عماد قبلان وميرنا كلاس اللذين توليا طرح الأسئلة".
ولم يحضر خليل قاصاف، العضو السابق في هيئة الرقابة على المصارف، والذي كان مقرراً الاستماع إليه الإثنين، بعد تقديمه عذراً طبياً، وفق المصدر القضائي.
وكان مصدر قضائي لبناني قد قال الشهر الماضي لـ"فرانس برس" إن زيارة المحققين الأوروبيين هدفها استكمال تحقيقات عالقة في قضايا مالية مرتبطة بسلامة، كما أكد مصدر قريب من الملف في فرنسا لـ"فرانس برس" المعلومة ذاتها.
كما استمع المحققون الأوروبيون الثلاثاء، 17 يناير/كانون الثاني إلى شاهدين آخرين، هما النائب السابق لحاكم المصرف المركزي، أحمد جشي، ورئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك الموارد، مروان خير الدين، وهو وزير سابق.
واستغرق المحققون، لأكثر من 8 ساعات، لجاشي وخير الدين، إلى ما وصفه المصدر القضائي اللبناني، الذي تحدث شريطة عدم كشف هويته، نظراً لأنه غير مصرَّح له بالحديث إلى وسائل الإعلام، بأنها معلومات تتعلق بجوهر التحقيقات الجارية بشأن رياض سلامة وشقيقه رجا.
كانت وحدة التعاون القضائي الأوروبية "يوروجاست" قد أعلنت، يوم 28 مارس/ آذار 2022، أن فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ جمدت 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر التحقيق الذي استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه بتهم تبييض أموال و"اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021″.
ويحقق القضاء المالي الفرنسي، منذ يوليو/تموز 2021، في ثروة رياض سلامة، وفي بداية ديسمبر/كانون الأول 2022، تم توجيه اتهامات لامرأة أوكرانية مقربة من حاكم مصرف لبنان المركزي، من بينها غسل الأموال والاحتيال الضريبي.
أما في لبنان، فيواجه سلامة قضايا عديدة، بينها تحقيق محلي بشأن ثروته بناء على التحقيق السويسري، إلا أن أيا من تلك التحقيقات لم تصل إلى أي نتيجة.
ورغم الشكاوى والاستدعاءات والتحقيقات ومنع السفر الصادر بحقه في لبنان، لا يزال سلامة في منصبه الذي يشغله منذ عام 1993، ما جعله أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم. ومن المفترض أن تنتهي ولايته في أيار/مايو 2023.
ظالم أم مظلوم؟ وماذا يقول رياض سلامة؟
ينكر رياض سلامة منذ البداية وحتى الآن جميع الاتهامات الموجهة إليه سواء بغسيل الأموال أو الفساد أو غيرها، كما يرفض الانتقادات الحادة لسياسات النقدية باعتبار أنها تسببت في تراكم الديون على لبنان، وأدت إلى بدء الانهيار الاقتصادي في 2019 وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها. ودافع مراراً عن نفسه قائلاً إن المصرف المركزي "موّل الدولة، ولكنه لم يصرف الأموال، محملاً المسؤولين السياسيين مسؤولية الانهيار.
ويشكك منتقدون فيما إذا كان القضاء اللبناني، الذي يعتمد تعيين قضاته إلى حد كبير على الدعم السياسي، سيحقق بجدية في شأن شخصية تحظى بمكانة سلامة، بالنظر إلى الدعم السياسي الكبير الذي يتمتع به.
ولا ينكر القضاء اللبناني الصعوبات. وقال أكبر قاض لبناني في تصريحات عامة في نوفمبر/تشرين الثاني إن التدخل السياسي في العمل القضائي أدى إلى وضع فوضوي يتطلب "ثورة في المقاربات" لحله.
وواجه جان طنوس، القاضي المعين لتولي التحقيق المبدئي، عقبات من بينها، بحسب تقارير، تدخل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي لمنعه من الحصول على بيانات من البنوك. ونفى ميقاتي هذه التقارير.
وأفادت رويترز بأن غسان عويدات، مدعي عام التمييز منع طنوس من حضور اجتماع في باريس العام الماضي مع المدعين الأوروبيين الذين يحققون في أمر سلامة.
كان عويدات قد أمر في يونيو/حزيران 2022 قاضي تحقيقات باتهام سلامة رسمياً بارتكاب جرائم، من بينها غسل الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير والتهرب الضريبي. لكن القاضي رفض وسعى إلى تنحيته عن القضية قبل أن يُستبعد منها بسبب طلب سلامة رده. ولم يشهد التحقيق أي تقدم منذ ذلك الحين.
وأسفر تحقيق منفصل أجرته النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، غادة عون، عن اتهام سلامة في مارس/آذار العام الماضي بالإثراء غير المشروع في قضية تتعلق بشراء شقق في باريس وتأجيرها كان بعضها عن طريق البنك المركزي. لكن سلامة الاتهامات ويقول إن المحاكمة لها دوافع سياسية. ورغم إحالة القضية إلى قاضي تحقيق، إلا أن سلامة تجاهل حضور أي جلسات.
واستمر سلامة في ممارسة ضغوط مكثفة خلال التحقيقات مستغلا دعم شخصيات بارزة مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
إذ كان سلامة بمثابة حجر الزاوية في نظام مالي خدم مصالح القوى الرئيسية في لبنان بعد الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990. ويقول العديد من المراقبين إن هذه الجماعات تخشى أن يكون لسقوطه تداعيات عليها.
وتنتهي آخر فترة لتوليه المنصب، ومدتها 6 سنوات، في يوليو/تموز. لكن بينما دعا الرئيس السابق، ميشال عون، إلى تغيير سلامة، لم تقترح أقوى الجماعات اللبنانية أي بديل له حتى الآن.
وربما تعرقل الأزمة السياسية التي تركت لبنان بلا رئيس وحكومة كاملة الصلاحيات أي محاولة لتغييره. ورغم قول سلامة إنه سيغادر المنصب في يوليو/تموز، يقول بعض المحللين إنه يمكن تمديد فترته مرة أخرى.