"إلى أين يصل سعر الدولار مقابل الجنيه المصري؟ يبدو هذا هو السؤال الرئيسي في الأوساط التجارية والاقتصادية في مصر اليوم، وفشلت قضايا ساخنة طرحت إعلامياً في إبعاد الانتباه عن هذا السؤال مثل الجدل الذي تفجر بسبب انتقادات إعلامي شهير للشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي ذي الشعبية الطاغية في البلاد.
ونهاية الأسبوع الماضي، ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري الرسمي، بشكل لافت، بعد أن أصدر بنكا الأهلي ومصر، أكبر مصرفين في البلاد، شهادات ادخار بفائدة تصل إلى 25%، وهي فائدة قياسية في تاريخ مصر، في توجه رآه محللون يسعى لإبعاد المدخرين على تحويل أموالهم للدولار والذهب، خوفاً من تآكل قيمة مدخراتهم مع تراجع الجنيه خاصة في السوق الموازية، كما توقع البعض أنها قد تكون خطوة في اتجاه تخفيض كبير للجنيه والتحول لسعر صرف مرن كما اشترط صندوق النقد الدولي.
وأدى رفع سعر الدولار مقابل الجنيه في البنوك، بعد خطوة شهادات فوائد الـ25%، إلى تعزيز التكهنات بأن الحكومة تحاول تقليل الفجوة بين السعر في السوق الموازية والسعر الرسمي، وما قد يعني ذلك من تعويم حقيقي للعملة المصرية الذي يعاني من أزمة منذ اندلاع الحرب الأوكرانية بسبب تزايد فاتورة استيراد الطاقة والحبوب وهروب الأموال الساخنة في الوقت الذي يعاني اقتصاد البلاد من التوسع بالقروض بالعملات الأجنبية خلال السنوات الماضية، ويمثل خدمة هذا الدين العبء الأساسي على احتياطي البلاد من العملات الأجنبية.
الجنيه المصري ينخفض إلى مستوى قياسي أمام الدولار
وانخفض الجنيه المصري إلى مستوى قياسي، يوم الأربعاء الماضي، حيث تتعامل السلطات مع أسوأ أزمة للصرف الأجنبي في البلاد منذ نصف عقد، حسب وصف وكالة Bloomberg الأمريكية.
وخسر الجنيه، الأربعاء، نحو 6.34٪ من قيمته، وفقاً لأرقام البنك المركزي، في أكبر تحرك له في يوم واحد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، عندما سُمح له بالتراجع الحاد في آخر مرة مع الإعلان عن حزمة تمويل جديدة مع صندوق النقد الدولي. وفقد الجنيه نحو 42.4٪ خلال العام الماضي، ومع التراجع الأخير يكون قد فقد نحو 70% من قيمته من بدء التخفيض الأول إثر اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وانخفض الجنيه بمعدل أقل، يوم الخميس (نهاية أسبوع العمل)، حيث أغلق الجنيه عند 27.11 للدولار، بحسب البنك المركزي، بعد تذبذب أكثر من المعتاد. وكان تجار السوق السوداء في الشارع يعرضون 30.5 جنيه للدولار، حسب وكالة Reuters.
وشهدت التعاملات في السوق الموازية، خلال عطلة الأسبوع، التي امتدت لثلاثة أيام بسبب عيد الميلاد بالتقويم القبطي، هدوءاً وترقباً لتحركات البنك المركزي، وهل يحرر سعر العملة ويوفر الدولار للمتعاملين، خاصة مع إعلانه السابق نيته إنهاء العمل بنظام الاعتمادات المستندية الذي يمثل واحداً من أكبر العوائق أمام الاستيراد.
وخلال عطلة الأسبوع هذه تراوح سعر الدولار مقابل الجنيه المصري بين 30 إلى 32 جنيهاً، بفارق يصل إلى أربعة جنيهات، حيث كان أعلى سعر رسمي 27.60، حسبما قالت مصادر لـ"عربي بوست".
وجاء انخفاض الجنيه في الوقت الذي تكافح فيه أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان لتصفية ما يقرب من 5 مليارات دولار من الواردات المتراكمة التي تراكمت في الموانئ بسبب طلب خطاب اعتماد تم إلغاؤه الآن. وقد تم وضع هذه القاعدة بسبب شح العملة الأجنبية.
السندات المصرية تحقق مكاسب بالأسواق الدولية أملاً في تحرير سعر الصرف
كانت مرونة العملة مكوناً رئيسياً في حزمة صندوق النقد الدولي المالية المقرر تقديمها على مدى 46 شهراً، والتي بلغت 3 مليارات دولار.
وقادت السندات الدولارية المصرية المكاسب بين نظراء السندات السيادية في الأسواق الناشئة، يوم الأربعاء الماضي، بعد تراجع الجنيه، ما عزز التوقعات بأن السلطات ستمتثل لمتطلبات صندوق النقد الدولي. وارتفعت الأوراق النقدية المستحقة في عام 2061 بما يصل إلى 2.5 سنت إلى 65 سنتاً من أصل قيمتها الاسمية البالغة دولاراً واحداً، وهو أعلى مستوى منذ أغسطس/آب الماضي، وفقاً لبيانات التسعير الإرشادية التي جمعتها بلومبيرغ.
"من المحتمل أن تقرأ الأسواق هذا على أنه إشارة محتملة إلى أن مصر، بعد العديد من البدايات الخطأ، مستعدة أخيراً للالتزام بنظام سعر صرف مرن"، حسب ما نقلت Bloomberg عن باتريك كوران، كبير الاقتصاديين في شركة Tellimer Ltd، وهي شركة متخصصة في أبحاث الأسواق الناشئة.
هل هو تعويم جديد أم محاولة جزئية لملاحقة السوق الموازية؟
ولكن اللافت أن البلاد لم تشهد في بداية أسبوع العمل وحتى مثول هذا التقرير للنشر، تخفيضاً كبير للجنيه أو أي إعلان بشأن توفيره للمستوردين، وهم عامل الضغط الرئيسي على عملة البلاد.
ولم يعرف هل يسعى البنك المركزي المصري لتحرير حقيقي واقعي لسعر الجنيه، أم أن هدفه مجرد ملاحقة الأسواق الموازية وتقليل الفجوة معها التي تجذب حائزي الدولار.
وقال كريس تورنر من آي إن جي: "هذا سعر صرف يتم إدارته بشكل مكثف، والتراجع يعتبر خطوة مسيطر عليها من قبل السلطات المحلية، حسبما نقلت عنه وكالة رويترز.
وقالت مونيكا مالك كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري: "هذا بالتأكيد تخفيض آخر لقيمة العملة. إنه ينبع من الاختلاف الكبير بين سعر السوق الرسمي والموازي، ما زاد من شح ونقص سيولة العملات الأجنبية"، حسب ما نقلت عنها Bloomberg.
سمحت مصر لعملتها بالضعف مرتين في عام 2022 ، وحصلت في النهاية على قرض بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، بفضل تعهد في أكتوبر باعتماد سياسة سعر صرف مرنة.
قبل عام، تم تداول الجنيه في نطاق ضيق أقل من 16 لكل دولار. بعد أن سمح البنك المركزي للجنيه بالانخفاض الحاد في مارس/آذار وأكتوبر/تشرين الثاني الماضيين، سرعان ما استأنف التداول ضمن نطاق، متحركاً نحو 0.01 جنيه للدولار فقط في اليوم.
وقال ألين سانديب، مدير الأبحاث في شركة النعيم القابضة في القاهرة، إن أحدث موجة انخفاض في قيمة العملة تمهد الطريق لارتفاع التضخم إلى حوالي 23٪-25٪ وزيادة تكاليف الاقتراض الحكومي. قال سانديب إنه يتوقع أيضاً "رؤية أفضل فيما يتعلق بسيولة العملات الأجنبية في المستقبل".
استثمارات الخليج تنتظر استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري عند القيمة العادلة
وأصدر صندوق النقد الدولي، الذي قدم نحو 10% فقط من حزمة المساعدات المقررة لمصر، بياناً لافتاً نهاية العام الماضي، قال إنه سيراقب تحركات العملة المصرية أمام الدولار، ويتأكد أنها تتم وفقاً لسوق صرف مرن.
كما يعتقد أن كثيراً من دول الخليج وصناديقها السيادية تنتظر تعويماً حقيقياً يؤدي إلى استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري عند القيمة العادلة، حتى يتسنى لها إدخال أموال لشراء أصول مصرية كما هو مقرر، لأنها لن تدخل لشراء الأصول بجنيه مقوم بأعلى من قيمته، ما يفتح الباب لهبوط لاحق للعملة المصرية يعني خسارتها جزءاً من استثماراتها.
وينطبق الأمر على مستثمري الأموال الساخنة، الذين لا يتوقع منهم أن يتقدموا للتعامل مع الأوراق المالية المصرية مادام الجنيه مقوماً بأعلى من قيمته.
وتعهد حلفاء مصر الخليجيون بتقديم أكثر من 20 مليار دولار في شكل ودائع واستثمارات، لمساعدة دولة يرون أنها حيوية لأمن المنطقة واستقرارها، وأشار قرار صندوق النقد بتقديم المساعدة لمصر إلى الدول الخليج بالاسم باعتبار دورها محورياً في حل الأزمة.
وقالت مونيكا مالك: "على الرغم من هذا التخفيض الأخير لقيمة العملة، لا يزال هناك فرق مهم مع السوق الموازية، ويؤثر ذلك على مسألة دعم دول مجلس التعاون الخليجي". "لا نتوقع أن نرى تدفقاً أوسع لرأس المال في هذه المرحلة، مع استمرار المخاوف بشأن ضيق سيولة العملات الأجنبية، وقدرة العاملين بالخارج على تحويل أموالهم إلى البلاد عبر القنوات الرسمية، في ظل فروق الأسعار الحالية بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازية.
وتمثل تحويلات العاملين في الخارج واحدة من أكبر مصادر العملة الأجنبية لمصر، حيث يوجد نحو 10 ملايين مغترب مصري، يحولون أكثر من 30 مليار دولار للبلاد في الأوقات الطبيعية، وهو مصدر للعملة الأكثر مراوغة، لأنه في ضوء الفارق الكبير بين السوق الرسمية والموازية لا يتوقع أن يحوِّل كثير من المصريين أموالهم عبر المصارف، ويلجأون للقنوات العائلية أو غير الرسمية.
وقال محللون إنه لكي يؤتي خفض قيمة العملة بثماره، فإن الحكومة ستحتاج إلى التأكد من أن لديها سيولة كافية بالعملة الأجنبية لتلبية الطلب بشكل فعال، والقضاء على سوق الصرف الموازي.
ويبدو أن الحكومة المصرية أمام معضلة "البيضة أم الفرخة أولاً"، فهي تحتاج أموال صندوق النقد ودول الخليج لتجنب انهيار الجنيه عند التعويم وإنهاء قيود التصدير، بينما ينتظر مسؤولو صندوق النقد ودول الخليج التعويم لإدخال القروض والاستثمارات المرتقبة.
ما هو السعر العادل للجنيه المصري أمام الدولار؟
ويثير كل ما سبق تساؤلاً حول القيمة الحقيقية للجنيه أمام الدولار، خاصة أنه جرى تداول الأخير بسعر وصل لـ38 جنيهاً في بعض الأوقات خلال الأسابيع الماضية (حالات نادرة).
وقبل أشهر عندما كان السعر الرسمي للجنيه المصري يدور حول 19 جنيهاً للدولار توقعت مؤسسات أن السعر العادل للجنيه المصري، الذي يتحقق عنده الاستقرار هو 23 جنيهاً للدولار، وخفض البنك المركزي السعر بالفعل إلى 24، ولكن سرعان ما تخطى السعر في السوق الموازية 30 جنيهاً للدولار واقترب من الـ40، وتغيرت التقييمات تماماً لما يعرف بالسعر العادل للجنيه.
والآن في الأسواق المالية الدولية، صعد تجار المشتقات رهاناتهم على أن سعر الدولار مقابل الجنيه المصري سيصل إلى 32 دولاراً مقابل الدولار في الأشهر الـ12 المقبلة، حسب Bloomberg، وهو سعر قريب من السعر المتداول في السوق الموازية المحلية.
وتوقع تقرير صادر عن بنك "HSBC Global Research" البريطاني، أن يجد الجنيه المصري أرضية عند مستوى يتراوح بين 30 و35 مقابل الدولار على المدى القصير، مشيراً إلى أن أسعار الفائدة قد ترتفع مع توقع ارتفاع التضخم إلى ما بعد ذلك عند 25% في الربع الأول من عام 2023.
ولكن البنك قال إنه حتى ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري إلى ما يزيد عن 30، والذي يرفع مكاسب العملة الأمريكية إلى أكثر من 100%، قد لا يضغط على فاتورة الاستيراد المصرية المرتفعة بشكل كافٍ، أو يؤدي إلى انتعاش قوي بما فيه الكفاية في تدفقات التحويلات المالية بشكل فوري، لكن ضغوط الحساب الجاري ستتراجع، حسب التقرير الذي أوردته قناة العربية السعودية.
وقال البنك البريطاني، إن صادرات السلع والخدمات المصرية زادت بنسبة 20% على أساس سنوي في الربع الثالث من العام الماضي، لكن تراجع التحويلات منع الحساب الجاري من تحقيق مكاسب أكبر.
ويعتقد "HSBC" أن تدفقات المغتربين لم تكن بالضرورة ضائعة، لكنها تأخرت بسبب عدم اليقين بشأن نظام الصرف، لافتاً إلى أنها ستنتعش بمجرد استقرار توقعات الجنيه.
ويبدو أنه لكي يجتذب البنك المركزي المصري تحويلات العاملين في الخارج تحديداً، ويبعدها عن السوق السوداء، فإنه يحتاج إلى أن يقدم إغراءات أكبر من هذه السوق.
هل يصل البنك المركزي بـ"سعر الدولار مقابل الجنيه المصري" لمستويات السوق السوداء؟
وسبق أن قام البنك المركزي المصري بخطوة مشابهة في عام 2016 بعد التعويم الأول، حيث استبق السوق السوداء ورفع السعر الرسمي للجنيه المصري مقابل الدولار، من نحو 9 جنيهات إلى 18 جنيهاً (أعلى من السعر السائد في السوق الموازية آنذاك) أي الضعف، ما جعل الناس تقبل على تغيير عملاتها عبر القنوات الرسمية.
وقد يحتاج ذلك لخطوة صعبة من الحكومة المصرية، وهي إعلان سعر رسمي يحدد قيمة الجنيه مقابل الدولار مماثل لمتوسط سعر السوق الموازية، والسماح للحائزين على الدولار باستبداله بالعملة المصرية في المصارف وشركات الصرافة دون فرض قيود، أو حتى تسجيل هوياتهم لطمأنتهم.
ولكن اتخاذ قرار من البنك المركزي المصري بإعادة تخفيض للعملة الوطنية، وإيصال سعر الدولار مقابل الجنيه المصري إلى معدل من السوق السوداء مثل 32 أو 35 جنيهاً، ستكون له تأثيرات جانبية كبيرة.
فبالإضافة للصدمة النفسية الكبيرة، فإن اختراق السعر الرسمي حاجز الـ30 سيكون مقلقاً للمواطنين، وبمثابة هزيمة للدولة، حيث اعتاد المصريون اعتبار قيمة الجنيه مؤشراً لقوة الاقتصاد ونجاح الإدارة الاقتصادية.
كما أن هناك مخاوف من أن يؤدي لهرولة إضافية إلى الدولار، تفاقم ضعف الجنيه، خاصة في وجود متغير الديون الخارجية الذي يضغط على العملة الوطنية، الأمر الذي قد يجعل الدولار قد يكسر حاجز الـ40 جنيهاً وهو حاجز نفسي خطير.
إليك تأثيره المتوقع على التضخم
والمؤكد أن وصول سعر الدولار مقابل الجنيه المصري رسمياً إلى ما فوق الثلاثين سيؤدي إلى تفاقم موجة التضخم القاسية الحالية.
فرغم أن جزءاً كبيراً من واردات مصر، بما فيها سلع أساسية مثل الزيوت، وأعلاف الدواجن، مقومة بسعر يصل إلى 32 جنيهاً للدولار أو أكثر، ولكن مازالت هناك سلع أساسية مقومة بالسعر الرسمي لأن الدولة توفرها للمستوردين مثل الدواء والقمح.
كما سيؤدي هذا التغيير إلى زيادة تكاليف دعم الوقود على الحكومة، وقد يؤدي إلى توسيع الموجة التضخمية لتشمل الخدمات، مثل إيجارات المساكن والأجور، والتي مازالت أقل تأثراً بارتفاع الأسعار.
والأهم حتى إنه إذا تم تخفيض الجنيه بهذا المعدل، فهناك تساؤلات حول ما إذا كان كافياً لتخفيض ذي مغزى في الواردات، خاصة إذا قامت الدولة بإزالة قيود الاستيراد.
ورغم كل المحاذير المتعلقة بإعادة تخفيض الجنيه ووصوله لمستويات السوق الموازية، فإنه يبدو خياراً لا مفر منه.
لأن استمرار الوضع الحالي يعني أن تحويلات العاملين بالخارج سوف تستمر بالابتعاد عن المسارات الرسمية، كما أن هذا يمنع أو يؤخر تدفق الاستثمارات الخليجية التي يفترض أنها تلعب دوراً أساسياً في الخروج من الأزمة الحالية.