قيظ الصحراء، وصقيع الغابات، وأمواج البحر، وعجلات الطائرات لا تُثني من عَقدوا العزم على الهجرة من أوطانهم سعياً وراء تحقيق حلم العيش في أوروبا، لكن الثمن قد يكون باهظاً، فكيف فقد 50 ألف شخص حياتهم ذاتها؟!
فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة مؤخراً، توفي نحو 50 ألف شخص على طرق الهجرة في جميع أنحاء العالم منذ 2014، وحدثت معظم الوفيات في طرق الهجرة المؤدية إلى أوروبا.
وبالإضافة إلى الأحوال الجوية القاهرة، وسوء المعاملة التي يتعرض لها المهاجرون من قِبل عصابات الاتجار بالبشر، هناك سبب آخر للوفاة على طرق الهجرة، ويتمثل في السفر خلسة، حيث يتم ذلك بوسيلة نقل تسمح للمهاجرين بالتخفي عن الأنظار، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
مخاطر الهجرة غير النظامية
رغم أن مخاطر الهجرة غير النظامية كثيرة، لدرجة يصعب حصرها، فإن ذلك لا يمنع البعض ممّن تقطّعت بهم سبل العيش في أوطانهم، من المخاطرة و"ركوب الصعب" كما يقول المثل العربي.
فمخاطر الهجرة غير النظامية قد تتمثل في الوقوع في براثن عصابات الاتجار بالجنس أو التعرض للاستغلال والابتزاز المادي، إضافة إلى أنه خلال رحلات الهجرة السرية يمكن أن يواجه الناس أسوأ أنواع الانتهاكات على أيدي الشبكات الإجرامية ومهربي البشر.
وقد تكون رحلات الهجرة غير النظامية أو غير الشرعية محفوفة بالمخاطر بسبب الطقس على سبيل المثال، إذ أوردت تقارير كثيرة حدوث وفيات في صفوف المهاجرين، بسبب حرارة الشمس في الصحراء، أو البرد الشديد في الغابات، أو غرقهم في البحر، وتتصدر هذه الأخبار عناوين الصحف كل أسبوع.
لكنّ المهاجرين لا يعدمون وسائل وحيلاً يبتدعونها لتحقيق حلم الهجرة خلسة، أو أي وسيلة تمكنهم من الوصول إلى وجهتهم، التي عقدوا العزم على الوصول إليها، متجاهلين المخاطر التي تترتب على هذه الطرق.
فهناك من يلجأون إلى الاختباء في أماكن خطرة في المركبات والسفن والقطارات، أو حتى في مخابئ عجلات الطائرات، وهي من بين أخطر المغامرات التي يمكن أن يقدم عليها المهاجر.
وهذه الرحلات لا تنظمها فقط عصابات تهريب البشر، بل في أحيان كثيرة يختارها المهاجرون طواعيةً، اعتقاداً منهم أن اختيار التخفي سيكون أهون وأكثر احتمالاً للنجاح، بينما الواقع غير ذلك، إذ أثبتت التجارب أن ذلك يكون في الأغلب طريقاً مختصراً نحو حتفهم.
وفي كثير من طرقات الهجرة السرية، ينظم المهاجرون أفراداً وجماعات رحلات طويلة سيراً على الأقدام عبر التضاريس الوعرة، تتطلب في غالب الأحيان عبور مناطق معينة بسرية مشددة، لتجنب اكتشافهم من قبل سلطات الحدود.
ويعتبر أحد أبرز الأمثلة على هذه الطريقة نفق قناة بحر المانش، الذي يربط بين فرنسا والمملكة المتحدة، فالنفق مصمم بالأساس لحركة مرور القطارات، لكن داخله أصيب العديد من الأشخاص خلال محاولة عبورهم نحو الضفة الأخرى من النفق. وفي معظم الحالات يكون ثمن تلك الرحلات الموت، ما دفع السلطات على جانبي النفق إلى تشديد الإجراءات الأمنية.
قصص بعض المهاجرين أغرب من الخيال
رغم أن من ينجحون في الوصول إلى بعض الدول الأوروبية في نهاية رحلة الأهوال التي يخوضونها يتعرضون لمعاملة غير إنسانية في أغلب الأحيان، فإن السعي نحو الهجرة لا يتوقف.
إذ ازداد الجدل مؤخراً بشأن المعاملة غير الإنسانية التي تطبقها بريطانيا على المهاجرين، مع تكشُّف الظروف البشعة التي يُحتجزون فيها ضمن مراكز اللجوء قبل ترحيلهم إلى رواندا. ومنذ أن طرحت الحكومة البريطانية استراتيجيتها المثيرة للجدل بشأن ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء إلى إحدى الدول الإفريقية، حتى يتم البت النهائي في أوضاعهم، تتعرض لندن لانتقادات عنيفة من منظمات حقوق الإنسان، بشأن المعاملة غير الإنسانية التي يواجهها المهاجرون في مراكز اللجوء البريطانية.
ويحاول رئيس الوزراء، ريشي سوناك، أن يتفادى عاصفة الانتقادات بشأن هذه القضية، التي تزداد حدتها يوماً بعد يوم، رغم أنه أحد أبناء المهاجرين، ومتزوج بابنة ملياردير هندي. فسوناك، البالغ من العمر 42 عاماً، من مواليد عام 1980 في مدينة ساوثهامبتون، وترجع أصول عائلته إلى الهند؛ حيث هاجر أجداده من ولاية البنجاب الهندية إلى شمال إفريقيا في بداية الأمر، ثم هاجر والداه إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي، وكان والده يعمل طبيباً بينما كانت والدته تمتلك وتدير صيدلية.
وبالعودة إلى الطرق التي قد يلجأ إليها الساعون للهجرة، نجد أنه في أحيان كثيرة يتم العثور على المهاجرين مختبئين في شاحنات ومركبات، أحياناً بمعرفة السائق وترتيب منه، لمساعدتهم على إكمال مرحلة من مراحل رحلتهم.
لكن هذه الرحلات تنطوي على مخاطر كبيرة، فقد كانت هناك حالات وفيات في صفوف المهاجرين في حوادث تسبب فيها سائق السيارة، في غالب الأحيان أثناء محاولتهم الهروب من السلطات. كما تم العثور في العديد من الحالات على جثث مهاجرين لقوا حتفهم بسبب الاختناق في الشاحنات، على الأرجح لأنها تكون محكمة الإغلاق.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، لقي 39 مهاجراً من فيتنام حتفهم اختناقاً داخل شاحنة كانت متوقفة خارج لندن بالمملكة المتحدة، كما حدثت وقائع مشابهة في النمسا وأوروبا الشرقية.
ولا يُعتبر الشخص الذي يدخل بلداً على حدود برية، ويقدم وثائق مزورة أو جوازات سفر مزورة مهاجراً سرياً، رغم أن هذا النوع من الهجرة مخالف للقانون أيضاً.
لكن يمكن اعتبار استخدام الطائرات لعبور الحدود بطريقة غير قانونية هو الشكل الأكثر إثارة للدهشة من أشكال الهجرة السرية. ففي ظل ظروف التفتيش الدقيق التي تشهدها مطارات العالم، من المستحيل على أي شخص غير مسجل على متن رحلة دخول الطائرة.
ومع ذلك، هناك من المهاجرين مَن تمكّن من الاختباء في أجزاء من الطائرات، في محاولتهم الوصول إلى بلد آخر، على سبيل المثال، اختبأ مهاجرون في مخبأ عجلات الطائرة.
عبر هذه الطريقة في الهجرة، يواجه المهاجرون الموت بشكل شبه محتم، سواء عند إقلاع الطائرة أو هبوطها. كما أن درجة الحرارة المنخفضة عند تحليق الطائرة في الجو تؤدي إلى انخفاض حرارة الجسم، ونقص الأوكسجين، ما سينتج عنه الموت المحقق.
وحتى لو نجا المهاجر من هذه المخاطر، فمن غير المرجح أن يظل المهاجر واعياً بعد وصول الطائرة للارتفاع الذي ستطير به، ما يؤدي إلى فقدانه الوعي.
وفي هذا الإطار، سجلت وكالة الطيران الفيدرالية، ومقرها الولايات المتحدة، أكثر من 100 حالة سفر خلسة على متن طائرات على مستوى العالم منذ عام 1947، موضحة أنه قد نجا أقل من ربعهم، وعانوا بعد ذلك في الغالب من إعاقات، مدى الحياة، بعد الرحلة الخطيرة.
الاختباء في السفن
ومن الطرق الأخرى التي يلجأ إليها الساعون إلى الهجرة السرية الاختباء في جزء مخفي داخل سفينة ما، وفي واقع الأمر تبدو الرحلة على متن السفينة أكثر أمناً، لوجود العديد من القوانين الدولية البحرية التي تحمي حياة الأشخاص في البحر، لكن ليس هناك ما يضمن التزام طاقم السفينة بهذه المعايير، في حال اكتشاف أمر المتسلل.
وفي الأسبوع الماضي، أنقذ خفر السواحل الإسباني ثلاثة مهاجرين بعد سفرهم من نيجيريا على متن سفينة شحن سلع، توارى الثلاثة عن الأنظار في مساحة صغيرة لمدة 11 يوماً على متنها.
لكن خلال هذا النوع من الرحلات، يمكن أن يتم إلقاء المهاجرين في البحر دون أن يعرف أحد أو يشهد شخص على الأمر.
يعتبر بعض الأكاديميين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين أن كل رحلة للمهاجرين غير القانونيين تحتوي على عنصر السرية في طبيعتها، وأن عنصري السرية والخداع حاضران في أنماط الهجرة غير القانونية، ووفقاً لدراسة أجريت في جامعة أكسفورد، فإن تاريخ هذه الممارسات يعود إلى أكثر من 100 عام ولا يزال مستمراً.
وقد تم توثيق الهجرة السرية ودراستها من قبل الاتحاد الأوروبي بشكل منهجي منذ عام 1993 على الأقل، أي بعد فترة قصيرة من انهيار الاتحاد السوفييتي.
ومن الطرق البرية الأخرى جَيبا سبتة ومليلية في شمال إفريقيا، حيث يخيم المهاجرون بالقرب من السياج في انتظار اللحظة الأنسب لاقتحام الحدود بشكل جماعي. وفي يونيو/حزيران 2022، لقي 23 مهاجراً على الأقل حتفهم خلال إحدى محاولات الاقتحام تلك، وهي المحاولة التي باتت تُعرف بـ"مأساة مليلية".
وكان تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية قد ألقى الضوء على بعض تفاصيل مأساة المهاجرين في بريطانيا، وكان عنوانه: "مهاجرون شبان يصفون الجوع والمرض والصدمة في مراكز اللجوء البريطانية".
ومن هؤلاء محمد، من كردستان العراق، الذي أخبر الصحيفة بأنه كان يتغذى على القليل جداً، وغالباً ما كان يعاني من الجوع، وأن كثيراً من الناس كانوا "قذرين"، لأنه لم يكن من الممكن أن يستحموا بما يكفي، وأنه مُنِعَ من الاتصال بأسرته في العراق لإعلامهم بأنه نجا من رحلة محفوفة بالمخاطر، عبر القناة الإنجليزية. ولأنه قاصر حُجِبَ الاسم الأخير لمحمد؛ لحماية خصوصيته.
الجانب الآخر في معادلة الهجرة أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تواجه مأزقاً حاداً يتمثل في التضخم وارتفاع تكلفة المعيشة، دون أن ينجح رفع سعر الفائدة في كبح جماحه، والحل الآن هو استقدام الكفاءات من الخارج، رغم رفض فتح البلاد أمام المهاجرين من جانب الجمهوريين.
وتناولت مجلة Foreign Affairs هذه المعضلة في تقرير بعنوان "الولايات المتحدة تحتاج المزيد من الهجرة لهزيمة التضخم"، ألقى الضوء على تفاصيل التحديات الصعبة التي تواجه الاقتصاد الأمريكي حالياً، وكيف أن استجلاب الكفاءات من الخارج قد يكون الحل الوحيد حالياً.