كشفت ملفات حكومية تم اختراقها مؤخراً عن وجود اتفاقية تحالف إعلامي بين روسيا والصين، يهدف إلى التصدي أيديولوجياً للغرب على المسرح العالمي، فما تفاصيل الاتفاق؟ وكيف يؤثر على صراع القوى الكبرى؟
فمنذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط الثاني 2022، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، تفاجأ الخبراء بالتقارب اللافت في التغطية الإعلامية الروسية والصينية فيما يتعلق بالحرب.
وفي حين أنَّ بعض التقارب كان على الأرجح مجرد صدفة، حدث حين ساعدت القصص الإخبارية في تحقيق أهداف كلتا الحكومتين، تُظهِر وثائق عُثِرَ عليها في مجموعة ثمينة من رسائل البريد الإلكتروني المُختَرَقة لـ"شركة البث التلفزيوني والإذاعي لعموم روسيا" أنَّ الصين وروسيا تعهَّدتا بالتكاتف في المحتوي الإعلامي من خلال إبرام اتفاقات تعاون على المستوى الوزاري، بحسب تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
اختراق ملفات حكومية روسية
تعرَّض نظام البريد الإلكتروني لشركة البث التلفزيوني والإذاعي لعموم روسيا للاختراق في وقتٍ سابق من هذا العام عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا، واستهدف المخترقون أكثر من 50 شركة وحكومة ووكالة روسية. ونشرت مؤسسة "Distributed Denial of Secrets" المعنية بالشفافية أكثر من 13 تيرابايت من الوثائق التي استُهدِفَت في عمليات الاختراق على موقعها.
وتوضح اتفاقية ثنائية جرى التوقيع عليها في يوليو/تموز 2021 جلياً أنَّ التعاون في التغطية والسرديات الإخبارية هو هدف كبير لكلتا الحكوميين. ففي قمة افتراضية عُقِدَت الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول 2022، ناقشت شخصيات حكومية روسية وصينية بارزة عشرات المنتجات الإخبارية والمشروعات التعاونية، بما في ذلك تبادل المحتوى الإخباري، واستراتيجيات التداول الرقمي، والمساهمة في إنتاج البرامج التلفزيونية.
تعهَّد الجانبان في هذا الاتفاق بـ"تعزيز التعاون أكثر في مجال تبادل المعلومات، واستراتيجيات الإعلام، والتعاون في إنتاج البرامج التلفزيونية. كانت المساعي بقيادة وزارة التنمية الرقمية والاتصالات والإعلام الروسية وإدارة الإذاعة والتلفزيون الوطنية الصينية.
وتعهَّد الجانبان في اتفاقية الدعاية بـ"تعزيز التعاون في مجال تبادل المعلومات، وتعزيز التغطية الدقيقة والشاملة والموضوعية لمعظم أحداث العالم". وأعدّا كذلك خططاً للتعاون بشأن وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وهو فضاء استغلته كلتا الدولتين لزرع المعلومات المضللة، وتعهَّدتا بتعزيز "التعاون متبادل المنفعة في قضايا مثل التكامل وتطبيق التقنيات الجديدة وتنظيم الصناعة".
قال ديفيد باندورسكي، مدير مشروع الإعلام الصيني، وهي منظمة مستقلة تبحث في الإعلام الناطق باللغة الصينية: "هذه وثيقة تعاون كبرى بشأن الإعلام بين البلدين. وتسمح الوثيقة لنا برؤية العملية القائمة خلف الكواليس بشأن كيفية إعداد التعاون ومناقشته بين هاتين الوزارتين بالتحديد".
كان موقع Meduza الإعلامي المستقل الناطق باللغة الروسية قد أفاد في عام 2020 بوجود هذه الاتفاقيات، والتي أدَّت إلى انتشار الأخبار الداعمة لبكين في وسائل الإعلام الروسية. لكنَّ هذه هي المرة الأولى التي يُنشَر فيها نص اتفاق كهذا.
يشمل المُوقِّعون على اتفاق 2021 وسائل إعلامية كبيرة وكذلك شركات إعلامية على الإنترنت وشركات في القطاع الخاص. ومن بين أولئك المُوقِّعين عملاق الاتصال الصيني "Huawei"، والتي تملك خدمة بث، وشركة Migu Videos، وهي شركة ألعاب تحت إشراف شركة China Mobile التي تديرها الدولة في الصين، وخدمة SPB TV، وهي خدمة بث يقع مقرها في سويسرا ويملكها مواطن روسي.
وتُدرِج الاتفاقية 64 مشروعاً إعلامياً مشتركاً إمَّا انطلق أو كان في مرحلة التطوير. بعض هذه المشروعات ترويحي، وهناك مشروعات أخرى أكثر أهمية. فتعهَّدت وكالتا الأنباء الرسميتان بتبادل التقارير، ووافقت وسائل الإعلام الأخرى التابعة للدولة على نشر إعلانات تُروِّج للدولة الأخرى.
ماذا يعني ذلك لاستراتيجية بايدن؟
منذ تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه، كان أحد أهداف السياسة الخارجية لإدارته يتمثل في السعي لعدم تحول العلاقات الروسية الصينية إلى تحالف استراتيجي بين موسكو وبكين، في ظل العلاقة القوية بين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ.
لكن هذه الملفات التي تم الكشف عنها تبرز أن هدف بايدن الاستراتيجي كان محكوماً عليه بالفشل منذ البداية. ففي 4 فبراير/شباط 2022، وعلى هامش أولمبياد بكين الشتوية في الصين، التقى بوتين وشي جين بينغ، وأصدرا بياناً مشتركاً عن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة، والحديث هنا عن العلاقات الدولية بشكل عام وليس فقط العلاقات الثنائية بين موسكو وبكين.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي قصة ذلك البيان وما يعنيه للمسرح السياسي العالمي، في تحليل عنوانه "تفاصيل بيان بوتين-شي المشترك عن "الحقبة الجديدة". ومن أكثر ملامح هذا البيان المشترك المؤلف من 5000 كلمة لفتاً للانتباه الوصف الدقيق للعلاقة بينهما. إذ وصف البيان العلاقة بين روسيا والصين بأنها شراكة استراتيجية شديدة القوة والشمول بدرجة، على حد تعبير بوتين سابقاً، تجعل منها "علاقة لا يمكن تشبيهها بأي شيء في العالم".
فبعد فترة قصيرة من بداية الحرب، تحدثت تقارير روسية عن وجود برنامج أسلحة بيولوجية تموله الولايات المتحدة في أوكرانيا، مُتَّهِماً المختبرات الأوكرانية باختبار فيروسات كورونا الخفافيش في محاولة لإطلاق "الانتشار السريع لمُسبِّبات الأمراض الأكثر فتكاً".
وعلى الرغم من أن واشنطن تتهم روسيا باتباع أساليب المعلومات المضللة، إلا أنه في غضون أيام، التقط المسؤولون ووسائل الإعلام الصينية التقارير الروسية وراحوا يُضخِّمون ويُوسِّعون الحديث عن المعامل البيولوجية.
ونشرت صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم، Global Times، قصتين حظيتا بانتشار سريع، الأولى اعتمدت جزئياً في مصادرها على وكالة أنباء Sputnik الروسية، وتُظهِر الثانية تصريحاً مقتبساً عن الرئيس بوتين: "ماذا تُخبِّئ الولايات المتحدة في المعامل البيولوجية المُكتَشَفة في أوكرانيا؟".
قالت كاتيا درينهاوزن، وهي محللة لدى معهد ميركاتور للدراسات الصينية في برلين، لموقع إنترسبت: "قفزت الصين على نظرية مؤامرة المختبرات البيولوجية". وأمضى المسؤولون ووسائل الإعلام الصينيون الشهور السابقة في الدفع نحو فكرة أنَّ الجائحة قد تكون نشأت في حادثة وقعت بأحد المعامل خارج الصين.
لكن التعاون الإعلامي بين موسكو وبكين يمتد لسنوات طويلة، إذ تشير التقارير الإخبارية الصينية والروسية إلى أنَّ البلدين يعقدان لقاءات تعاون إعلامي سنوية منذ عام 2008. ويبدو أنَّ الشراكة تستهدف إلى حدٍ كبير الجماهير المحلية.
لكنَّ كلاً من الصين وروسيا قد وسَّعتا بشكل كبير الحضور الإعلامي بالخارج خلال العقد الماضي، وتُسمِّي الاتفاقية وسائل الإعلام ذات الحضور الدولي الكبير، بما في ذلك محطتا BRICS TV وRT (روسيا اليوم) ووكالة Sputnik (سبوتنيك) وكل هذه مؤسسات تقع مقراتها في موسكو، ووسائل الإعلام الصينية التي تديرها الدولة مثل صحيفة China Daily وصحيفة Global Times وشبكة CGTN.
شراكة إعلامية بين روسيا والصين
وقالت درينهاوزن لموقع إنترسبت: "الطموح عالميّ بالتأكيد"، وأضافت أنَّه على الرغم من الخلافات اللافتة في سياساتهما الخارجية، يتقاسم البلدان قضية مشتركة. وقالت: "هما رفيقا سلاح فيما يتعلَّق بالتصدي الأيديولوجي للولايات المتحدة باعتبارها العدو المشترك".
تقول المصادر إنَّ هذه الاتفاقيات تُبرَم في جزء منها من أجل الاستعراض، وإنَّ الصين لها اليد العليا في الشراكة. فقال مصدر روسي مطلع على اللقاءات: "يسيطر الصينيون على كل المشروعات الكبيرة. ولم يجدوا حتى الآن حلاً لبعض المشكلات الأساسية مثل بث قنواتنا على قنوات الكابل الصيني".
وبالفعل، تبدو بعض المنتجات التي نُوقِشَت محل اهتمام للصين بالأساس. إذ وافقت وكالة تاس الروسية على إجراء مقابلات مع القادة الصينيين شي جين بينغ ولي كه تشيانغ وعلى تنظيم فعاليات تحيي الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني. وقال باندورسكي: "الأمر الذي يبدو أنَّ ما يفعله الصينيون هنا هو وضع بعض من منتجات الدعاية الخارجية على قائمة أمنيات عملاقة، على أمل أن تساعدها روسيا في أن تروي قصتها".
وأفاد موقع Meduza سابقاً بأنَّ وسائل الإعلام الرسمية الروسية كانت تنشر أكثر من 100 مقال شهرياً مصدرها مجموعة China Media Group، وهو تكتل مملوك للدولة في الصين ورد ذكر تغطيته عدة مرات في الاتفاق.
قالت ماريا ربنيكوفا، مديرة مركز دراسات المعلومات العالمية بجامعة ولاية جورجيا، إنَّ تغطية وسائل الإعلام الرسمية الروسية هي في العموم أقل رقابة وأكثر تطوراً من نظيرتها الصينية.
بعد شهر من توقيع اتفاقية 2021، كتب صحفي من مجموعة China Media Group لعنوان البريد الإلكتروني العام لشركة البث التلفزيوني والإذاعي لعموم روسيا، باللغة الإنجليزية في واحدة من الوثائق المُختَرَقة، من أجل الترويج للشركة: "بإمكاننا إجراء مقابلات أو تقارير عبر المراسلين وفقاً لاحتياجاتكم. ويمكننا في الوقت نفسه تحويل محتواكم طبقاً لذلك ونشره على نطاق واسع في الصين".
وتُظهِر رسائل البريد الإلكتروني المخترقة أنَّ بعض الصحفيين العاملين لصالح الإعلام الرسمي الروسي ساعدوا في تعظيم الروايات الصينية. ففي مارس/آذار 2021، أرسل ألكسندر باليتسكيي، مدير مكتب بكين في محطة RTR، وهي الخدمة الدولية لشركة البث التلفزيوني والإذاعي لعموم روسيا، وثيقة بخصوص كيفية مقاطعة الناس في الصين العلامات التجارية الأجنبية التي اتخذت مواقف بشأن العمالة القسرية في إقليم شينجيانغ. وجاء في النص: "وقفت الشركات العالمية في نفس الجانب مع الساسة الغربيين، مُتَّهِمةً الصين بارتكاب مذابح جماعية بحق الإيغور".
وتحدد الوثيقة أيضاً خططاً لتضمين اقتباس من مقابلة سابقة مع ماكس بلومنتال، محرر موقع Grayzone، والذي أنكر الفظائع الروسية في أوكرانيا ودافع عن القمع الذي تمارسه الدولة الصينية في شينجيانغ، ولم يجد اقتباسه طريقه إلى النسخة النهائية من الأخبار المتاحة على موقع Vesti.ru الريادي التابع لشركة البث التلفزيوني والإذاعي لعموم روسيا.
لكن المكاسب لروسيا جاءت بعد حرب أوكرانيا، حين ردَّدت وسائل الإعلام الصينية وجهة نظر الحكومة الروسية بشأن الحرب. قالت ربنيكوفا: "لم تذكر التغطية في كثير من الأحيان حتى إنَّ روسيا هي الطرف الذي يشن الهجمات". وأضافت أنَّ وسائل الإعلام الصينية "تبنَّت شعارات مباشرةً من الخطاب الروسي".
تنتهي رسائل البريد الإلكتروني المُختَرَقة في ربيع 2022. لكنَّ الحكومة الروسية طرحت على مدار الأشهر القليلة الماضية نظرية المؤامرة الخاصة بالمختبرات البيولوجية على مجلس الأمن الدولي، وطلبت منه إنشاء لجنة للتحقيق، وعززت الصحافة الصينية مسعاها.
لربما كان ذلك فقط لأنَّ المختبرات البيولوجية هي القصة التي ساعدت أهداف الصين، لكن الاتفاقية لا ترسم خططاً تفصيلية للعمليات المعلوماتية المعقدة. فقالت ربنيكوفا إنَّ هذه الوثائق "تُوقَّع لتعزيز الشراكة علناً، لكنَّ التفاصيل الفعلية لم يتم التوصل إليها بعد". قد تكون الصياغة الغامضة متعمدة، لأنَّها تجعل من الأصعب بمكان تتبُّع المشروعات ومحاسبة أي أحد".