العداء بين المجر وأوكرانيا يبدو حالة استثنائية في الوضع الأوروبي، حيث تبدو بودابست العضو بحلف الناتو والاتحاد الأوروبي أقرب لروسيا منها لكييف، بطريقة جعلت رئيس الوزراء المجري هدفاً لانتقادات أوكرانية وأوروبية حادة تتهمه بالولاء لبوتين أو ابتزاز الاتحاد الأوروبي، ولكن يبدو أن عوامل تاريخية وراء هذا الموقف، وليس مجرد الرغبة المجرية في الحفاظ على الغاز الروسي الرخيص.
وبسبب التوترات المستمرة بين المجر وأوكرانيا، عندما رفعت بودابست حق النقض (الفيتو) على حزمة مساعدات أوروبية مزمعة بقيمة 18 مليار يورو (أكثر من 19 مليار دولار أمريكي) لأوكرانيا الشهر الماضي، رأى الدبلوماسيون والخبراء أنها مجرد فترة راحة مؤقتة في علاقة مشحونة بين المجر وأوكرانيا.
أخيراً رفع أوربان الفيتو عن تقديم مساعدة أوروبية لكييف
الانقسامات العميقة بين المجر وأوكرانيا يمكن أن تضر بقدرة الاتحاد الأوروبي على مساعدة أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي هذا العام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
وقبل عشرة أشهر، شجب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا واستقبل اللاجئين من جارتها. لكن منذ ذلك الحين لم يفعل الكثير لتغيير سمعته بأنه صديق فلاديمير بوتين ويمثل تهديداً لوحدة الاتحاد الأوروبي الذي يدعم كييف.
وساهم رئيس الوزراء المجري الذي يصفه نقاده الغربيون بالشعبوي، في تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا، وعارض نقل أسلحة ومساعدات عسكرية أخرى إلى أوكرانيا.
وأصبح أوربان كبش فداء أوروبياً يحمل مسؤولية أي تقصير تجاه أوكرانيا.
فعلى سبيل المثال يتهم بأنه عرقل محادثات كييف بشأن الاقتراب من الناتو، في حين أن المعروف أن أكبر المعترضين دوماً على انضمام كييف للناتو والاتحاد الأوروبي هما فرنسا وألمانيا، وحتى عندما أعلن الاتحاد الأوروبي جعل كييف مرشحة للانضمام، قلل المسؤولون والإعلام الفرنسي من القرار واعتبروه رمزياً.
إليك العقوبات ضد روسيا التي عرقلتها المجر
وعلى الرغم من أن المجر قد وافقت على معظم عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، فإنها استخدمت حق النقض ضد العقوبات المخططة ضد البطريرك كيريل رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والذي يتهمه الغرب بتأييد الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
كما تفاوض أوربان على إعفاءات شاملة لبلاده مثل مقاطعة النفط الروسي، إضافة إلى إعرابه مراراً عن انتقاده القاسي للعقوبات المفروضة على روسيا.
في الواقع، تشن الحكومة في بودابست حالياً حملة في المجر تتهم الاتحاد الأوروبي بتدمير اقتصاد البلاد من خلال عقوباته المناهضة لروسيا.
لعدة أشهر، كانت هناك تكهنات حول ما إذا كانت المجر ستستخدم حق النقض ضد قرض الكتلة المزمع منحه لأوكرانيا بقيمة 18 مليار يورو (19 مليار دولار). حتى النهاية، كان العديد من السياسيين الأوروبيين يأملون أن أوربان كان يخادع.
ولكن في السادس من ديسمبر/كانون الأول، نفذ أوربان بالفعل تهديده وأوقف الصفقة المالية في بروكسل. بعد ذلك بوقت قصير، انتقل إلى Twitter لينكر أن المجر استخدمت حق النقض: "هذه أخبار كاذبة.. لا فيتو، لا ابتزاز"، إلى أن رفع الفيتو المجري بشكل نهائي مؤخراً، مدشناً هدنة جديدة بين المجر وأوكرانيا.
أسباب العداء بين المجر وأوكرانيا، ولماذا يفضل أوربان روسيا؟
وتعتبر علاقات المجر الوثيقة مع روسيا أكثر أهمية لأوربان من أي علاقة جيدة مع أوكرانيا. والسبب في ذلك بسيط: تعتمد المجر على إمدادات الطاقة الروسية.
بعبارة أخرى، كل بيان معادٍ لأوكرانيا من بودابست هو أيضاً إعلاناً غير مباشر بالولاء لموسكو، حسب ما ورد في تقرير لموقع دويتش فيله (DW) الألماني.
وقال الخبير في الشأن الروسي في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، أندراس راش: "لطالما كانت العلاقات الأوكرانية في تفكير المجر تابعة لعلاقاتها مع روسيا. وهذا العام، تفاوضت بشأنها مع الاتحاد الأوروبي؛ فقد كانت المجر مستعدة للتخلي عن مساعدة أوكرانيا إذا لم تتفق مع الاتحاد الأوروبي".
إنه يبتز الاتحاد الأوروبي بهذا الملف
ويقول النقاد إنَّ المجر استخدمت المساعدات الأوكرانية كأداة للمساومة على حزم تمويل من الاتحاد الأوروبي. وأصدرت بروكسل مواعيد نهائية مؤجلة لإثبات أنها التزمت بإصلاحات سيادة القانون اللازمة للبدء في التعافي من تبعات الوباء وصناديق التماسك بمليارات اليورو. لكن تخشى الدول أعضاء الاتحاد الأخرى أنه عندما يحين موعد مناقشة هذه القرارات النهائية، فإنَّ أية قضية تتطلب اتفاقاً بالإجماع -مثل المزيد من المساعدة لأوكرانيا- قد تصير مرة أخرى رهينة المجر.
وقال دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي مطلع على المحادثات: "الخلاف الأساسي مع المجر لم يتغير وسيظهر مرة أخرى في الربيع. حتى الآن، كان الاتحاد الأوروبي على استعداد لتحمل هذا العمل غير المكتمل. والبديل هو العزلة الكاملة للمجر".
في الشهر الماضي، قال رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان: "إنَّ تحقيق أوكرانيا مستقلة وذات سيادة يصب في المصلحة الوطنية للمجر، غير أنه استدرك قائلاً: "لكن لسنا مهتمين بفصل الاقتصادات الأوروبية والروسية مرة انفصالاً نهائياً؛ لذلك نحاول إنقاذ كل ما في وسعنا من التعاون الاقتصادي الروسي المجري".
موسكو ليست سبب الخلاف الوحيد، ولكن هناك مشكلة الأقلية المجرية بأوكرانيا أيضاً
وجدت المجر نفسها في وضع غير مستقر مع بداية غزو أوكرانيا في فبراير/شباط. وهي من بين أكثر الدول اعتماداً في الاتحاد الأوروبي على النفط والغاز الروسيين، وقد تورطت في نزاعات طويلة مع أوكرانيا، لا سيما بشأن حقوق الأقليات العرقية المجرية.
وسبق أن قال أوربان إن المجر مهتمة بوجود "دولة ذات سيادة بين روسيا وأوروبا الوسطى، نسميها الآن ببساطة أوكرانيا".
وبعد وقت قصير، تم تصويره في مباراة شارك فيها فريق كرة القدم المجري وهو يرتدي وشاحاً عليه صورة "المجر الكبرى" – المنطقة التي كانت تسيطر عليها المجر ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي شملت أجزاء من أوكرانيا الحالية، حسب ما ورد في تقرير لموقع دويتش فيله (DW) الألماني.
المفارقة أن رئيس وزراء المجر كان ذات يوم مؤيداً قوياً لدمج أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
في قمته في بوخارست في أبريل/نيسان 2008، قرر الناتو عدم قبول أوكرانيا وجورجيا في التحالف العسكري.
بعد بضعة أشهر، إثر اندلاع الحرب الروسية ضد جورجيا، قال أوربان إن هذا كان قراراً سيئاً. في ذلك الوقت، كان لا يزال عضواً في المعارضة.
لكن أوربان غنى لحناً مختلفاً تماماً بمجرد أن أصبح رئيساً للوزراء في عام 2010. كان هناك شعور كبير بالضيق في المجر تجاه أوكرانيا بسبب الأقلية المجرية التي تعيش في منطقة ترانسكارباثيا بغرب أوكرانيا.
عندما أصبح أوربان رئيساً للوزراء في عام 2010، كان هناك ما يقل قليلاً عن 200 ألف من الهنغاريين، ولكن المجريين الذين يعيشون هناك؛ اليوم، انخفض هذا الرقم إلى 130 ألفاً.
كانت بودابست، على سبيل المثال، غير راضية عن قانون اللغة الأوكرانية المخطط له، والذي كان يهدف في المقام الأول إلى الحد من تأثير اللغة الروسية في أوكرانيا. ولكن شعرت حكومة أوربان أنها تستهدف أيضاً الأقلية المجرية في البلاد.
وكان وضع الأقليات المجرية التي تعيش في الدول المجاورة للمجر مصدر قلق مستمر للحكومات في بودابست في حقبة ما بعد الشيوعية، حيث خسرت البلاد مساحة كبيرة من أراضيها بعد الحرب العالمية الأولى.
وبعد عام 2010، أخذ أوربان الأمور في مسألة الأقليات المجرية بدول الجوار إلى الأمام بعدة خطوات.
بعد أسابيع قليلة من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ألقى أوربان خطاباً دعا فيه إلى الحكم الذاتي والحقوق الجماعية والحق في الجنسية المزدوجة للأقلية المجرية في أوكرانيا.
الكلمات التي استخدمها تركت الباب مفتوحاً أمام الاتهامات بتشجيعه لهم بالانفصال.
واستخدمت المجر في عدد من المناسبات منذ عام 2017 -وآخرها في أوائل فبراير/شباط 2022- حق النقض ضد تعاون الناتو مع أوكرانيا بسبب سياسة أوكرانيا بشأن الأقليات.
في سبتمبر/أيلول 2018، تسببت قضية الجنسية المزدوجة في حدوث خلاف دبلوماسي كبير بين البلدين. في ذلك الوقت، أظهر مقطع فيديو تم تسريبه مواطنين أوكرانيين في القنصلية المجرية في بيرهوف (بيريجاسز) منحوا الجنسية المجرية سراً، وهو أمر مخالف للقانون في أوكرانيا.
منذ ذلك الحين، كانت العلاقات الدبلوماسية بين المجر وأوكرانيا متجمدة. ومن غير المرجح أن تكون زيارة الرئيس المجري كاتالين نوفاك، المؤيد المخلص لأوربان، إلى كييف، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، قد غيَّرت هذا الوضع.
ويقول الموقع الألماني: "بكلماته المتناقضة حول الحكم الذاتي للأقلية المجرية في أوكرانيا أو سيادة ذلك البلد، يستهدف أوربان قبل كل شيء الناخبين اليمينيين المتطرفين في المجر الذين ما زالوا يحلمون بـ "المجر الكبرى" وحدودها قبل عام 1918.
كما يعتقد سياسيو الاتحاد الأوروبي أن أوربان يبتز الكتلة الأوروبية بهذا الملف.
رغم انضمامها للعقوبات الأوروبية، المجر مصرَّة على الحفاظ على روابطها مع روسيا
ومع ذلك، بعد تأمين استثناءات في بعض الجوانب؛ مثل حظر استيراد الطاقة، صوتت بودابست لصالح جميع حزم عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو. وفي الأسابيع الأخيرة، جمّدت 870 مليون يورو (930 مليون دولار أمريكي) من الأصول الروسية، وفقاً لبيانات الاتحاد الأوروبي التي نقلتها صحيفة Népszava.
لكن على الجانب الآخر، تُظهِر تحركات أخرى أنَّ المجر تعتزم الحفاظ على حوار مفتوح مع روسيا.
وهددت باستخدام حق النقض ضد العقوبات في يونيو/حزيران ما لم يُعفَ زعماء رمزيون؛ مثل بطريرك موسكو الأرثوذكسي المؤيد للحرب كيريل، من العقوبات. وهدّدت المجر الشهر الماضي، بإلغاء حزمة عقوبات الاتحاد الأوروبي التاسعة؛ حتى تفوز بإعفاءات لوزراء الطاقة والصحة والرياضة في روسيا.
وقال أحد كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي: "أوربان عرض علانية طرق هروب لمسؤولي الكرملين".
وبينما طردت دول أخرى عشرات الدبلوماسيين الروس بسبب مزاعم بالتجسس، تستضيف المجر سفارة تضم ضعف طاقم بعثات موسكو في وارسو وبراغ وبراتيسلافا مجتمعة، وفقاً لإحصاء لمدير معهد الأبحاث Political Capital في بودابست، بيتر كريكو.
وقال كريكو: "المجر تعمل على تدمير مصداقيتها باعتبارها عضواً بالناتو".
على الصعيد المحلي، لا يقع أوربان تحت ضغط من مواطنيه لتغيير مساره، لأنَّ العديد من المجريين يضمرون عدم ثقة عميقة بالأوكرانيين جيرانهم الشرقيين. فقد أثر حظر كييف تعليم لغات الأقليات- والذي يستهدف بالأساس الناطقين بالروسية- على أكثر من 100 مَدرسة للعرقية المجرية في غرب أوكرانيا.
من جانبها، أعاقت بودابست طموحات أوكرانيا في الاقتراب أكثر من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وطالبت باستعادة حقوق الأقليات هذه. وفي اجتماع لوزراء خارجية الناتو في نوفمبر/تشرين الثاني، عارضت المجر دعوة الأوكراني دميترو كوليبا لحضور جلسات رسمية.
وقال دبلوماسي الاتحاد الأوروبي: "العلاقات الأوكرانية المجرية في أدنى مستوى لها. والعلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمجر سيئة أيضاً، وتميل بودابست صوب الروس، الذين يرحبون بها بحرارة ويرسلون لها الغاز".
أوربان توقع انتصار روسيا
وتوقع أوربان منذ فترة طويلة انتصاراً روسيّاً، قائلاً في يوليو/تموز، إنَّ "الأوكرانيين لن ينتصروا أبداً في حرب ضد روسيا".
وتابع الدبلوماسي: "المجر توقعت أن تسير الحرب مثل ضم شبه جزيرة القرم في 2014. أرادوا الانتظار حتى تمر بسلاسة. لكن الأمور تغيرت. ورغم أنَّ أوربان، الفخور بنموذجه للعلاقات مع روسيا، يلتقي عادة ببوتين كل عام، فإنَّ هناك قليلاً من الدلائل على تحسن العلاقات بين رئيس الوزراء والرئيس الأوكراني".
بدوره، قال محلل السياسة الخارجية في بروكسل، بوتوند فيليدي: "الثقة المتبادلة بين المجر وأوكرانيا عند مستوى منخفض للغاية".
واشتبك الاثنان قبل الانتخابات المجرية في أبريل/نيسان الماضي، عندما أدى طلب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن تنحاز بودابست إلى أحد الجانبين بشأن الغزو الروسي، إلى توبيخ غاضب من أوربان. ودعا زيلينسكي، أوربان إلى أوكرانيا في مكالمة هاتفية في يونيو/حزيران. لكن الاثنين لم يلتقيا بعد، إذ قال أوربان إنَّ زيارة كييف "ليست على جدول أعماله".
وأضاف دبلوماسي الاتحاد الأوروبي: "المجر ليست مستعدة للانفصال الكامل عن روسيا، والذي يسعى إليه الآخرون الآن".