"عندما تترنح الصين يكثر الطامعون في وراثتها"، إذ يبدو أن هناك العديد من الدول التي تسعى للاستفادة من مشكلات بكين لوراثة دورها الاقتصادي، حيث تشتد المنافسة على لقب بديل الصين في مجال الصناعة بين العديد من البلدان الآسيوية تحديداً.
وكانت الصين مصنع العالم على مدى العقود الأربعة الماضية، حتى صارت رحلة صعودها إلى هذه المكانة علامة بارزة على عصر العولمة وسلاسل التوريد المتكاملة بين أرجاء العالم، إلا أن جائحة كورونا وتوابعها والتوتر مع الولايات المتحدة أديا إلى زلزلة هذه المكانة خلال السنتين الماضيتين، حسبما ورد في تقرير لموقع Insider الأمريكي.
بداية نهاية دور الصين المركزي كانت على يد ترامب
وبدأ التصدع في مكانة الصين عام 2018، بعد أن شنَّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حربَه التجارية على العملاق الآسيوي، كما فرض عقوبات صارمة على عملاق التكنولوجيا الصيني "هواوي"، فسارع المستثمرون إلى مراجعة المخاطر الجيوسياسية التي قد تصيبهم جراء اعتمادهم على الصين وحضورهم القوي فيها.
على أثر ذلك، بادر بعض المستثمرين إلى نقل أجزاء من خطوط منشآتهم التصنيعية خارج الصين، لكن جائحة كورونا وقيود الصين الصارمة في مواجهتها دفعت الشركات دفعاً إلى التنبه لأهمية عدم الاعتماد على دولة واحدة لتلبية احتياجات التصنيع.
ثم جاءت سياسة صفر كوفيد لتزيد بكين بلة
وربما لم تكن التوترات الجيوسياسية هي السبب منفردةً في لجوء الشركات العالمية إلى هذا القدر من إعادة تنظيم سلاسل التوريد، لكن الأكيد أن جائحة كورونا والقيود المرتبطة بها قدَّمت المحفز والدافع الحثيث إلى ذلك، حسبما قال أشوتوش شارما، مدير الأبحاث في شركة Forrester لأبحاث السوق في حديث مع موقع Insider الأمريكي هذا الشهر.
واجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم ضغوط كبيرة منذ أوائل عام 2020، حينما فرضت الصين حظراً شاملاً لأول مرة على المسافرين إلى الخارج، وفرضت منظومة معقدة من الاختبارات والمتطلبات البيروقراطية بخصوص الرحلات الدولية، وهو الأمر الذي أحبط المسافرين وأبقى الصين معزولة عن العالم، رغم رفعها للقيود الصريحة في وقت لاحق.
كان مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال يتوقع في الأصل تجاوز الصين لأمريكا في عام 2028 كأكبر اقتصاد في العالم، لكنه عدل توقعه إلى عام 2030 العام الماضي. يعتقد المركز الآن أن نقطة العبور لن تحدث حتى عام 2036، حسبما تقرير لـ"بلومبيرغ".
وأدى تحول الصين المفاجئ عن سياسة"صفر كوفيد" إلى قلب توقعات الاقتصاديين والمستثمرين رأساً على عقب، ما أدى إلى تعقيد التقديرات حول كيفية تأثير الوضع الجديد على نمو الاقتصاد الصيني.
ولكن لا تزال آثار الحرب التجارية قائمة وتمثل الخطر الأكبر على الاقتصاد الصيني، فالرئيس الأمريكي، جو بايدن، لم يوقف التعريفات الجمركية المرتفعة التي فرضها ترامب على الصين، بل إنه فرض في أكتوبر/تشرين الأول ضوابط تصدير على شحن معدات معينة إلى المصانع الصينية المشتغلة بإنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة.
في غضون ذلك، بدأت الشركات متعددة الجنسيات تبحث عن سبل نفاذ لها خلال هذه الشبكة المعقدة من التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وزاد تطلعها -الآن أكثر من أي وقت مضى- إلى التحوط من المخاطر الطارئة على أعمالها.
وفيما يلي 5 دول بدأت سلاسل التوريد تنتقل إليها لتتنافس على لقب بديل الصين الصناعي
الهند: عمالة وفيرة ومتحدثة بالإنجليزية، ولكن لديها مشكلة كبرى
تسعى الهند إلى إزاحة الصين من مكانتها في قطاع التصنيع المتقدم المعتمد على التكنولوجيا المتطورة في المنتجات والعمليات، وتأمل في استمالة شركة آبل الأمريكية المصنِّعة لأجهزة "آيفون" وشركات الرقائق الإلكترونية إلى نقل مصانعها إليها، والاعتماد على أراضيها الشاسعة وسكانها الشباب، خاصة أنها دولة متقدمة في البرمجيات واللغة الإنجليزية منتشرة في أوساط الطبقات المتعلمة.
وأشارت إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة بتقريرِها الصادر في يوليو/تموز، إلى أن الهند في سبيلها إلى تجاوز الصين لتصبح أكبر دولة العالم من حيث عدد السكان عام 2023.
نقلت شركة آبل بالفعل بعض خطوط إنتاجها لهواتف آيفون إلى ولايتي "تاميل نادو" و"كارناتاكا" الهنديتين، وتستكشف حالياً نقل خطوط إنتاج أجهزة آيباد إلى الهند. وتوقع خبراء بنك JPMorgan للخدمات المالية في بيان صادر بشهر سبتمبر/أيلول، أن تنقل آبل 5% من خطوط إنتاجها لهواتف "آيفون 14" إلى الهند بحلول نهاية عام 2022، وأن يُصنع 1 من كل 4 أجهزة آيفون في الهند بحلول عام 2025.
وقالت جولي جيردمان، الرئيس التنفيذي لشركة Everstream المتخصصة في إدارة مخاطر سلاسل التوريد، لموقع Insider، إن "الهند لديها عمالة وافرة، وتاريخ طويل في التصنيع، فضلاً عن الدعم الموجه من الحكومة لتعزيز الصناعة والصادرات. ولذلك فإن شركات كثيرة تتحرى عن إمكان تحول الهند إلى بديل عملي للصين في التصنيع".
عمل رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى بلاده منذ توليه المنصب عام 2014، فتمكن من زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستوى غير مسبوق بلغ 83.6 مليار دولار في السنة المالية الماضية، وفقاً لبيانات حكومية.
ومع ذلك، فإن مساعي الحكومة الهندية لأن تكون بديل الصين، لا تزال تعترضها عقبات جمة، فهي وإن تمكنت من تعزيز جاذبية البلاد للاستثمارات الأجنبية، فإن البلاد عاجزة عن التحول إلى بديل للصين في الأعمال التجارية، ويرجع ذلك لعدة أسباب، منها البيروقراطية وتعدد أصحاب المصالح الذين يُطيلون إجراءات صنع القرار.
فيتنام: تبدو كالصين الصغيرة بحكمها الشيوعي الصارم
تشهد فيتنام إصلاحاً اقتصادياً متسارعاً منذ عام 1986، وقد حقق لها بالفعل عوائد كبيرة في ظل قيادة الحزب الشيوعي الحاكم الذي يبدو شبيهاًً بنظيره الصيني، الأمر الذي يجعل فيتنام تبدو ليس مجرد بديل الصين في مجال الصناعة بل أقرب لأن تكون "صين صغيرة".
وقال البنك الدولي في منشور صادر بشهر نوفمبر/تشرين الثاني إن إصلاحات فيتنام أسفرت عن نتائج ملحوظة، فقد دفعت البلاد من حالٍ كانت فيها "ضمن أفقر دول العالم، إلى دولة ذات اقتصاد متوسط الدخل خلال جيل واحد".
تشير بيانات وزارة التخطيط والاستثمار الفيتنامية إلى أن البلاد اجتذبت عام 2021 تعهدات بالاستثمار الأجنبي المباشر زادت قيمتها على 31.15 مليار دولار، أي بزيادة أكثر من 9% عن نظيرتها في العام السابق. وقد ذهب نحو 60% من الاستثمارات إلى قطاع التصنيع والتجهيز.
وأبرز قطاعات التصنيع في فيتنام هي قطاع تصنيع الملابس والأحذية والإلكترونيات والأجهزة الكهربائية.
وقد نقلت شركة آبل بعض خطوط إنتاج هواتف آيفون إلى فيتنام، وتخطط لنقل بعض إنتاج أجهزة "ماك بوك" إليها أيضاً.
وتتضمن قائمة الشركات التي نقلت بعض خطوط إنتاجها من الصين إلى فيتنام شركات عالمية كبرى، منها: شركة "نايكي"، وشركة "أديداس"، وشركة "سامسونغ"، ويبدو أن فيتنام تريد أن تكون بديل الصين في مجالي صناعة الأحذية والملابس وصناعة الإلكترونيات.
تايلاند: حتى الشركات الصينية تنتقل إليها
الاقتصاد التايلاندي ثاني أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا. وما زالت البلاد تعمل على الارتقاء بسلسلة القيمة في مجالات التصنيع لديها، لا سيما بعد أن أصبحت مركز إنتاج لقطع غيار السيارات والمركبات والإلكترونيات. وقد بدأت شركات كبرى مثل "سوني" و"شارب" في إنشاء مراكز تصنيع لها هناك.
وزاد الاستثمار الأجنبي المباشر في تايلاند 3 أضعاف بين عام 2020 وعام 2021.
وأعلنت شركة "سوني" اليابانية عام 2019 أنها ستغلق مصنع هواتفها الذكية في بكين لخفض التكاليف، وتنقل بعض خطوط إنتاجها إلى تايلاند. وقالت شركة "شارب" في العام نفسه إنها تعمل على نقل بعض خطوط إنتاج طابعاتها إلى تايلاند بسبب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
ولا يقتصر الانتقال على الشركات الدولية متعددة الجنسيات، فحتى الشركات الصينية بدأ بعضها ينقل أجزاء من سلاسل التوريد إلى تايلاند. وذكرت صحيفة South China Morning Post في يوليو/تموز أن شركات منتجة للألواح الشمسية، مثل شركة "جينكو سولار" JinkoSolar التي يقع مقرها في شنغهاي، نقلت إنتاجها إلى تايلاند للاستفادة من انخفاض التكاليف وتجنب والتوترات الجيوسياسية.
وأعلن مجلس الاستثمار التايلاندي في فبراير/شباط الماضي، أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالبلاد قد زادت 3 أضعاف، لتصل إلى 455.3 مليار بات تايلاندي، أي نحو 13.1 مليون دولار، بين عامي 2020 و2021.
بنغلاديش: أجر العامل يمثل خُمس نظيره الصيني
بنغلاديش مستفيدة بالفعل من تحول سلاسل التوريد عن الصين، لكنها تريد الآن زيادة حصتها لتصبح بديل الصين في صناعة الملابس تحديداً.
كانت بنغلاديش ماضيةً في سبيل صعودها بقطاع تصنيع الملابس حتى قبل أن تتسبب جائحة كورونا في شلِّ هذا القطاع بالصين. والسبب الرئيسي في ذلك هو انخفاض تكاليف العمالة لديها عن الصين.
قال مصطفى أودين، صاحب شركة Denim Expert لتصنيع الملابس في بنغلاديش، إن متوسط الراتب الشهري للعامل في بنغلاديش هو 120 دولاراً، أي أقل من خُمس متوسط الراتب الشهري لعامل المصنع في جنوب الصين، والذي يبلغ نحو 670 دولاراً، "كما أن ارتفاع تكاليف مواد الإنتاج يدفع شركات الملابس عن وجهات بديلة، مثل بنغلاديش، التي تنخفض فيها تكاليف الإنتاج عن غيرها".
على الرغم من حادثة "انهيار مبنى سافار" الشهيرة التي وقعت عام 2013 وأسفرت عن مقتل 1132 شخصاً في المبنى الذي كان يضم مصانع ملابس ونسيج عديدة، وما ألحقته من أضرار بسمعة إجراءات أمان العمل في بنغلاديش، فإن صناعة الملابس الجاهزة لا تزال ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد، وتمثل قرابة 85% من شحناتها، أي أكثر من 42 مليار دولار من صادرات البلاد في عام 2021. وهي ثاني أكبر مصدِّر للملابس الجاهزة في العالم، بعد الصين.
وتعمل بنغلاديش الآن على اجتذاب الاستثمارات في قطاعات أخرى، مثل المستحضرات الصيدلانية وتقنيات المعالجة للمنتجات الزراعية.
ماليزيا: بديل الصين في الصناعات الإلكترونية
قالت هيئة تنمية الاستثمار الماليزية في يوليو/تموز 2020 إنها نجحت في بلوغ بعض مساعيها لاجتذاب الشركات المتحولة عن الصين خلال السنوات الماضية، فقد تمكنت من استقطاب نحو 32 مشروعاً من الصين إلى ماليزيا، وإن لم تقدم الهيئة تفاصيل عن المشروعات والشركات التي انتقلت.
يُذكر أن الاستثمارات في القطاع التكنولوجي بماليزيا كانت تزداد حتى قبل جائحة كورونا، استفادةً من انخفاض تكاليف العمالة والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وشهدت البلاد صفقات استثمار كبرى خلال السنوات الماضية، منها استثمار أجرته شركة Micron الأمريكية العملاقة للرقائق الإلكترونية، وتبلغ قيمته 1.5 مليار رينغت ماليزي، أي 229 مليون دولار أمريكي، ويمتد على مدار 5 سنوات، بدايةً من عام 2018.
وقالت بيانات حكومية رسمية إن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة إلى ماليزيا بلغت أعلى مستوى لها في خمس سنوات بنحو 48.1 مليار دولار خلال عام 2021، وجاءت قطاعات تصنيع الإلكترونيات والمركبات في صدارة المساهمين في الاستثمارات.
ويبدو أن ماليزيا تركز على أن تكون بديل الصين في مجال الصناعات الإلكترونية تحديداً
و نظراً لقوة اقتصاد الصين وضخامته وكفاءته، فمن المرجح أنه ليس هناك دولة تستطيع وحدها نيل لقب بديل الصين الصناعي، ولكن الأرجح أن الدول السالفة الذكر سوف تتشارك في وراثة مكانة الصين كل في مجال بعينه أو أكثر، وقد تنضم إليها دول مثل إندونيسيا وتركيا، والمغرب.
في المقابل، فإن الصين قد تفقد مركزها كساحة لاستقبال الاستثمارات القادمة من الشركات الصناعية العالمية الكبرى ليزداد اعتمادها على استثمارات شركاتها المحلية التي باتت سمعتها تتحسن وإنتاجها أعلى جودة، وقد تتحول هي نفسها لمصدر للاستثمارات والتكنولوجيا بدلاً من كونها مستقبلاً لها.