فصل الشتاء هو آخر فرصة لإيقاف الحرب في أوكرانيا قبل أن تتحول إلى صراع ممتد يحصد ملايين الأرواح، فالانتصار العسكري أصبح شبه مستحيل، فهل يتجنب الغرب أخطاء الماضي ويتفاوض مع روسيا؟
هذا السيناريو ليس فقط ملخص ما يراه المحللون والمراقبون في الغرب والشرق، بل صرح به أحد قادة البنتاغون مؤخراً، وجاء تعرض قاعدة عسكرية في العمق الروسي لهجوم جديد، الإثنين 26 ديسمبر/كانون الأول، وإعلان موسكو عن تشديد دفاعاتها الجوية وتغيير مواقعها، ليلقيا بمزيد من التشاؤم بشأن مصير الحرب في أوكرانيا.
كان الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، قد دخل شهره الحادي عشر دون مؤشرات على قرب التوصل لاتفاق سلام ينهي الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
بوتين يتهم الغرب برفض التفاوض
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد قال، في مقابلة بثها التلفزيون الرسمي الأحد 25 ديسمبر/كانون الأول، إن بلاده مستعدة للتفاوض مع كل أطراف الصراع الأوكراني لكن كييف وداعميها الغربيين رفضوا المشاركة في محادثات.
وأضاف بوتين: "نحن مستعدون للتفاوض مع كل الأطراف المعنية بشأن حلول مقبولة، لكن الأمر يعود لهم، لسنا من يرفض التفاوض لكن هم من يرفضونه".
واستفاض الرئيس الروسي في شرح موقف بلاده من الصراع المشتعل حالياً، قائلاً إن موسكو تتحرك "في الاتجاه الصحيح" بأوكرانيا؛ نظراً إلى أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يحاول تقسيم روسيا.
وتابع بوتين قائلاً: "أعتقد أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح، ندافع عن مصالحنا الوطنية ومصالح مواطنينا وشعبنا. وليس لدينا خيار آخر غير حماية مواطنينا". ولدى سؤاله عما إذا كان الصراع الجيوسياسي مع الغرب يقترب من مستويات خطرة، قال بوتين: "لا أعتقد أنه خطر للغاية".
وأضاف بوتين أن الغرب بدأ الصراع بأوكرانيا في 2014 عندما أطاح بالرئيس الموالي لروسيا في احتجاجات عُرفت باسم ثورة الميدان. وبعدها بفترة وجيزة ضمت روسيا القرم من أوكرانيا وبدأت قوات انفصالية مدعومة من موسكو القتال ضد القوات المسلحة الأوكرانية في شرق البلاد.
وقال بوتين: "في الحقيقة الأمر الجوهري هنا هو أن السياسة التي يتبعها خصومنا السياسيون تهدف إلى تدمير روسيا.. روسيا التاريخية". ويصور بوتين تحركات بلاده في أوكرانيا على أنها "عملية عسكرية خاصة"، وأنها كانت لحظة فارقة قررت فيها موسكو أخيراً التصدي لتكتل غربي يقول إنه يسعى لتدمير روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في 1991.
حديث بوتين يستحضر جذور الأزمة الأوكرانية، التي هي بالأساس أزمة جيوسياسية تفجرت منذ نحو عقدين من الزمان، فكييف تريد أن تصبح جزءاً من المعسكر الغربي وتنضم إلى حلف الناتو، بينما ترى موسكو في ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي، كما أن واشنطن كانت قد قدمت وعداً للكرملين قبل ثلاثة عقود، بأن حلف الناتو لن يتوسع شرقاً في أوروبا وهو ما لم يحدث بالطبع، إذ تمدد الحلف الغربي شرقاً بأكثر من 965 كم.
الدستور الأوكراني نفسه، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا عام 1991، كان ينص على أن "أوكرانيا دولة محايدة"، لكن تم تغيير تلك الصفة في الدستور عام 2019 لفتح الباب أمام كييف للاندماج أكثر مع المعسكر الغربي والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
فالرئيس الأوكراني الحالي، فولوديمير زيلينسكي، يرفض فكرة "الحياد" ويرى أن الضمان الوحيد لأمن أوكرانيا وسلامة أراضيها في مواجهة ما يراها "الأطماع الروسية" يكمن في الانضمام لحلف الناتو، حتى تتمتع بلاده بمظلة الحماية الغربية. لكن اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا خلط الأوراق بالنسبة للرئيس الذي كان لا علاقة له بالسياسة قبل أعوام قليلة.
إذ كان زيلينسكي يعمل ممثلاً كوميدياً وبدأت علاقته بالسياسة من باب الفن منذ عام 2015، عندما بدأ في تقديم أعمال تنتقد الأوضاع السياسية في أوكرانيا، وبصفة خاصةٍ الفساد المستشري في البلاد، إذ تصنف أوكرانيا كواحدة من أكثر بلاد العالم فساداً.
وقدّم زيلينسكي مسلسلاً كوميدياً بعنوان "خادم الشعب"، لعب فيه دور مدرس تاريخ في مدرسة ثانوية يتمتع بشخصية جريئة وينتقد الفساد في أوكرانيا ويسخر من السياسيين وطبقة رجال الأعمال. حقق المسلسل شعبية هائلة، فحوّله زيلينسكي، برعاية أحد كبار رجال الأعمال الأوكرانيين، إلى حزب سياسي يحمل الاسم نفسه "خادم الشعب"، وترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2019 ليفوز بها بأغلبية كبيرة.
سيناريو انتصار أوكرانيا عسكرياً غير وارد
لا تلوح في الأفق حتى الآن أي بادرة أمل على قرب نهاية الحرب، إذ يقول الكرملين إنه سيقاتل حتى تتحقق جميع أهدافه، بينما تقول كييف إنه لن يهدأ لها بال حتى ينسحب آخر جندي روسي من أراضيها، وضمن ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014.
وقال ميخائيلو بودولياك مستشار زيلينسكي، رداً على تصريحات الرئيس الروسي الأخيرة، إن بوتين يحتاج إلى العودة لأرض الواقع والاعتراف بأن روسيا هي التي لم ترغب في أي مفاوضات. وتابع قائلاً في تغريدة على تويتر: "روسيا وبشكل منفرد هاجمت أوكرانيا وتقتل مواطنيها… روسيا لا تريد المفاوضات بل تحاول التنصل من المسؤولية".
بينما يقول زيلينسكي إن موسكو تهدف إلى جعل الأيام القليلة المتبقية من 2022 مظلمة وعصيبة. وقال في خطاب مسائي مصور: "فقدت روسيا كل ما في وسعها هذا العام… أعلم أن الظلام لن يمنعنا من إنزال هزائم جديدة بالمحتلين. ولكن علينا أن نكون مستعدين لأي سيناريو".
وقالت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية، في تحديث عبر فيسبوك: "الخطر لا يزال قائماً فيما يتعلق بقيام العدو بشن ضربات جوية وصاروخية على مرافق البنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء الأراضي الأوكرانية".
وأضافت أن القوات الروسية قصفت عشرات البلدات والمواقع على امتداد خط المواجهة؛ مما تسبب في سقوط ضحايا من المدنيين في منطقة خيرسون الجنوبية. وتنفي موسكو استهداف المدنيين.
لكن انتصار أوكرانيا على روسيا عسكرياً يبدو سيناريو شبه مستحيل، وكان رئيس الأركان الأمريكي، الجنرال مارك ميلي، قد أكد هذه الحقيقة بتصريحات له في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بقوله إن انتهاء الحرب في أوكرانيا بتحقيق انتصار عسكري "أمر شبه مستحيل".
وأكد ميلي أن أوكرانيا تعتبر الآن في موقف قوة، مضيفاً أن "فصل الشتاء الحالي قد يكون اللحظة المناسبة للدخول في محادثات سلام مع روسيا"، وشبّه رئيس الأركان الأمريكي الموقف الحالي بالموقف خلال الحرب العالمية الأولى عندما رفض أطرافها التفاوض فأدى الصراع إلى مقتل الملايين، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية عنوانه "لا أحد سينتصر في حرب ممتدة بأوكرانيا، ولابد أن يتجنب الغرب أخطاء الحرب العالمية الأولى".
وحذّر رئيس الأركان الأمريكي من أن "الفشل في استغلال الظروف المناسبة حالياً للتفاوض وإنهاء الحرب لن يؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة الإنسانية"، وهو ما يمثل تناقضاً مع موقف كييف وواشنطن ولندن وباقي الدول الغربية حالياً.
ما مخاطر إطالة أمد الحرب في أوكرانيا؟
تصريحات القائد الأمريكي، التي اعتبرت بمثابة مؤشر على أن هناك ما يجري خلف الكواليس للتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب، ناقضتها بشدةٍ التطورات الأخيرة، حيث قام زيلينسكي بزيارة خاطفة لواشنطن حصل خلالها على وعد من جو بايدن بتزويد أوكرانيا بمنظومات صواريخ باتريوت المتطورة، بينما زار بوتين روسيا البيضاء وسط مؤشرات على التحضير "لفتح جبهة جديدة" في الحرب.
وعلى الرغم من أن واشنطن سعت إلى النأي بنفسها عندما استهدفت كييف العمق الروسي وهاجمت قاعدتين عسكريتين بطائرات مسيرة، فإن قاعدة إنجلز الجوية بمدينة ساراتوف الروسية تعرضت لهجوم جديد، الإثنين 26 ديسمبر/كانون الأول، مما يشير إلى أن التصعيد أصبح سيد الموقف.
ومن الصعب بطبيعة الحال تصور أن استمرار أوكرانيا في مهاجمة العمق الروسي يتم دون تنسيق مع واشنطن، وهو ما يرفع من حدة المخاوف من أن تتحول الحرب إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والغرب، رغم إصرار واشنطن على أنها لا تسعى إلى تلك المواجهة وتصريح بوتين بأن "خطر المواجهة المباشرة مع الغرب ليس مرتفعاً".
ونقلت وكالة أنباء إنترفاكس الروسية عن وزارة الدفاع قولها، الإثنين، إن القوات الروسية تعمل "على مدار الساعة" في مواقع جديدة للتصدي للهجمات الصاروخية والجوية التي تشنها أوكرانيا.
ونقلت وكالة الأنباء، عن بيان للوزارة، أن أطقم أنظمة إس-300 "تتخذ مواقع جديدة" لأنظمة صواريخ أرض-جو بعيدة المدى الروسية، وأضاف البيان أن "وحدات الدفاع الجوي للمنطقة العسكرية الغربية تواصل العمل بمناطق المواقع الجديدة في مهام قتالية على مدار الساعة".
وذكرت "إنترفاكس" نقلاً عن قائد عسكري، أن بطارية إس-300 في قادرة على تتبع هدف على مسافة تصل إلى 204 كيلومترات وعلى ارتفاع يصل إلى 30 كيلومتراً، وهو ما يشير إلى استعداد موسكو لمواجهة مزيد من الهجمات بالمسيرات وربما الصواريخ من أوكرانيا.
ويعتبر هذا تطوراً لافتاّ، إذ كانت روسيا تحذّر من أنها ستعتبر أي هجوم على أراضيها تصعيداً يفتح الباب أمام "ضرب أهداف جديدة"، في إشارة إلى توسيع نطاق الحرب، لكن يبدو أن الاستعدادات تجري، من الجانبين، لاستمرار الحرب المشتعلة حالياً بشروطها الضمنية، أي عدم تحولها إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والغرب خارج الأراضي الأوكرانية.
لكن ماذا لو تسبب صاروخ أمريكي الصنع أطلقته القوات الأوكرانية وأفلت من الدفاعات الجوية الروسية، في إحداث دمار هائل وإسقاط أعداد كبيرة من القتلى الروس؟ هل سيظل الرد الروسي مقتصراً على الأراضي الأوكرانية؟ لا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال بطبيعة الحال، لكن ما حدث خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية يحمل إجابة مرعبة، أو بمعنى أدق "نووية".