كان الشاب التونسي وديع الجلاصي واحداً من ملايين اندفعوا للشوارع لحظة اندلاع الشرارة الأولى لثورة تونس 2011، لكن متابعي الحدث الكبير وقتها مازالوا يتذكرونه.
كان وديع يحمل قفصاً ملفوفاً بالعلم التونسي بداخله طائر سجين، وحين أصبح رحيل الديكتاتور مؤكداً فتح باب القفص، وأطلق الطائر إلى فضاء لا نهائي من الحرية.
هكذا تصور وديع الجلاصي بلاده الخضراء تخرج من سنوات الأسر والفساد إلى سماء واعدة بالأحلام.
في خريف 2022 ذهب مراسل وكالة رويترز إلى منزل الجلاصي في منتزه النحلي قرب تونس العاصمة، وهي منطقة جبلية ترصعها أشجار الصنوبر، ويصل إليها طريق غير معبَّد ومكتظ بمبانٍ فوضوية متلاصقة وأخرى متداعية.
سأله الصحفي: بعد 12 عاماً من لقطة إطلاق سراح الطائر، ما الذي جرى لتونس، وشعبها، ونخبتها، وثورتها؟
وأجاب الجلاصي بحسم: "أشعر بالاختناق أكثر في بلدي، لا يوجد مستقبل واضح لي أو لعائلتي وأصدقائي من الحي. لا أشعر بالحرية ولا أستطيع الكتابة بحرية على وسائل التواصل الاجتماعي، إنه أمر مقلق للغاية".
في شتاء بعيد اندلعت ثورة الياسمين، وهذا الشتاء عادت الطيور لأقفاصها.
بعد مقاطعة معظم الأحزاب، وانشغال المواطنين بالأزمة الاقتصادية الطاحنة، ذهب 9% من الناخبين المسجلين ليشاركوا في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة.
النسبة كانت مفاجأة لمنظمي الانتخابات، وعلى رأسهم مسؤولو لجنة الانتخابات.
وطالب ائتلاف جبهة الخلاص الوطني المعارض في تونس الرئيس قيس سعيد بالاستقالة من منصبه، قائلاً إنه "فقد شرعيته" بعد الانتخابات البرلمانية، وهذه المشاركة الهزيلة.
وطالبت حركة النهضة الرئيس بالتنحي، "لأن مقاطعة أكثر من 90% من المواطنين للانتخابات التشريعية تعني سحب الثقة من سعيد".
واعتبر زعيم الجبهة نجيب الشابي أن "ما حدث اليوم زلزال، ومن هذه اللحظة نعتبر سعيد رئيساً غير شرعي، ونطالبه بالاستقالة بعد هذا الفشل الذريع".
حتى "حراك 25 يوليو"، الداعم لقيس سعيّد، دعا إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.
هل انتهت فعلاً "شرعية" الرئيس، أم أنه ما زال في بداية مشوار التغيير كما يراه، أو الانقلاب كما يراه معارضوه؟
هذا التقرير يستعرض ملامح المشروع السياسي للرئيس، وخطته للانقلاب على مؤسسات الدولة بالاستيلاء على صلاحياتها، وتداعيات الأزمة الاقتصادية على المواطن، وآفاق استمرار النظام في ظل مقاطعة الأغلبية العظمى للانتخابات التشريعية.
هو السياسي الوحيد في تونس
كيف تخلص سعيّد من شركاء القرار والرقابة وجمع كل السلطات المدنية والعسكرية والاقتصادية في شخصه
يتذكر وديع الجلاصي جيداً اليوم الذي استيقظت فيه تونس: يوم أضرم بائع الخضر محمد البوعزيزي النار في نفسه، في احتجاج أشعل فتيل انتفاضات الربيع العربي، وجلب الديمقراطية إلى تونس.
وفي مثل ذلك اليوم بعد مرور 12 عاماً كان التونسيون مدعوين لاختيار نوابهم، حسب القانون الجديد للانتخابات، وكان التصويت الضعيف في هذه الانتخابات أكبر إشارة إلى ما وصلت إليه العلاقة بين المواطن والقيادة السياسية.
سجّل التونسيون رقماً قياسياً في إظهار السلبية بمشاركة لم تبلغ 9%، في الانتخابات التشريعية نهاية 2022، وهي غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة في العام 2011.
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتبرت نسبة الإقبال "متواضعة ولكن ليست مخجلة"، وعزتها إلى نظام التصويت الجديد وعدم وجود دعاية انتخابية مدفوعة.
معظم الأحزاب السياسية قاطعت الانتخابات، واعتبرتها تكليلاً لسعي الرئيس قيس سعيد نحو تأسيس ديكتاتورية جديدة، في بلد تخلص من الديكتاتورية في عام 2011.
الرئيس الذي يرى أن الانتخابات التشريعية فرصة تاريخية للتغيير، ولقطع الطريق على من نصبوا أنفسهم أوصياء على تونس، لم يفسر عزوف مواطنيه عن التصويت، وهي إشارة سياسية بالغة الأهمية كما تشرح السطور التالية.