في صباح يوم الأربعاء 7 ديسمبر/كانون الأول 2022، استفاقت ألمانيا على أنباء لم تألفها منذ سنوات بعيدة، حيث أعلنت السلطات الألمانية إطاحتها بمجموعة يمينية متطرفة خططت لاقتحام مبنى البرلمان الألماني، الرايخستاغ، والاستيلاء على السلطة؛ حيث شنت السلطات حملات مداهمات واسعة واعتقلت عشرات الأشخاص، كما جرى تفتيش 150 عقاراً ومقراً في 11 ولاية في وقت متزامن.
وبحسب السلطات ينتمي المشتبه بهم إلى منظمة متطرفة تأسست في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وتشير إليها بعض المصادر باسم "الاتحاد الوطني"، ولها دائرة داخلية ضيقة (حكومة ظل) تُعرف باسم "المجلس".
في المجموع؛ يواجه 54 رجلاً وامرأة اتهامات بأنهم جزء من مؤامرة الانقلاب في ألمانيا، ويرتبط التنظيم أيديولوجياً بحركة رايخسبورغ "مواطني الرايخ" Reich Citizens" (بالألمانية: Reichsbürger)، والتي ترجع لعام 1985، وتُقدر عضويتها بأكثر من 20 ألف عضو لا يعترفون بدولة ألمانيا، مدعين أن "الرايخ" (الإمبراطورية الألمانية) لا تزال قائمة داخل حدود عام 1937.
وفقاً للمدعي الاتحادي الألماني؛ فقد خطط التنظيم بواسطة "جناح عسكري" لتنفيذ انقلاب في ألمانيا يشمل جميع مستويات الحكومة، وتشكيل حكومة عسكرية انتقالية كي تتفاوض على نظام جديد مع القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
لذلك؛ كان الأعضاء النشطون في الجيش الألماني وضباط الشرطة هم الهدف الرئيسي لتجنيد المنظمة، بالإضافة لذلك؛ اتصل أحد المتهمين بممثلين روس في ألمانيا لمناقشة هذه المسألة، لكن يبدو أن الروس رفضوا مقترحاته، وفقاً لمذكرة المدعي العام بشأن البعد الخارجي الذي أشار إليه أيضا أن متهمين اثنين اعتقلا خارج البلاد في كل من النمسا وإيطاليا.
اليمين المتطرف في ألمانيا ينتقل من "نظريات المؤامرة" إلى التنظيم
منذ عدة سنوات، حذرت تقارير استخباراتية ألمانية من تنامي حجم مجموعة يمينية متطرفة تدعى "مواطني الرايخ"، حيث خططت مجموعة منهم لتأسيس جيش خاص. وفي عام 2016 بدأت هيئة حماية الدستور الألمانية (المخابرات الداخلية) بتتبع المنتمين إلى ما يسمى بـ"حركة موطني الرايخ"، بعد واقعة قتل شخص ينتمي إلى هذه الحركة لضابط ألماني تابع لوحدة شرطية خاصة، وذلك في 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 2016.
وهذه الحركة تتبنى أيديولوجية يمينية، ولا يعترف أتباعها بالجمهورية الألمانية الحديثة، التي تأسست بعد انهيار النازية "الرايخ الثالث" (وتعني الإمبراطورية الألمانية الثالثة) عقب الحرب العالمية الثانية سنة 1945.
ويقول موقع أسباب في تحليل حول حادثة تخطيط اليمين المتطرف الألماني للانقلاب، إنه من المعلومات التي قدمها مكتب المدعي العام حول نوايا المعتقلين، بأن هذا يعتبر أمراً غير مسبوق في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب العالمية، وعلى الرغم من كون الصورة التي ظهرت هي لمجموعة شديدة الأوهام ومنفصلة عن الواقع، ولكنها شكلت تهديداً حقيقياً وعنيفاً للنظام في ألمانيا؛ في ظل حجم الأنشطة المخطط لها ونطاقها والتجنيد الناجح لأعضاء سابقين في الجيش وقوات إنفاذ القانون.
من الناحية العسكرية؛ اتُهم المظلي السابق في الجيش الألماني "روديغر فون ب" (Rüdiger von P)، البالغ من العمر 69 عاماً، بقيادة الجناح المسلح للمنظمة، الذي يضم أيضاً ضباطاً حاليين وسابقين، بينهم جندي في نخبة القوات الخاصة الألمانية والتي كانت ثكناتها في بلدة كالو جنوبي ألمانيا من بين المواقع التي تمت مداهمتها، كما خططت الجماعة لاستخدام الموارد العسكرية مثل ثكنات الجيش في ولايات هيسن وبافاريا وبادن فورتمبيرغ بجنوب ألمانيا للتأكد من ملاءمتها لإيواء قوات الميليشيات بعد انقلاب ناجح.
بالإضافة إلى صلاتها العسكرية، يبدو أن الجماعة لديها أيضاً صلات في دوائر السياسة؛ فمن بين 18 سياسياً وإعلامياً تظهر أسماؤهم في تحقيقات الادعاء العام، توجد في قائمة الأعضاء المحتملين القاضية في برلين "بيرجيت مالساك وينكمان" (58 عاماً)، وهي عضو سابق في البوندستاغ (البرلمان) عن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف، وترجح تقارير إعلامية أنها وزير العدل المفترضة في حكومة الانقلاب.
شخصيات لافتة خططت للانقلاب في ألمانيا
اللافت هو اعتقال الأرستقراطي الأمير هنري الثالث عشر (Heinrich XIII) (الأمير رويس من جريز) (71 عاماً)، والذي فيما يبدو يرأس حكومة الظل، وكان من المخطط أن يكون رئيس الدولة، ووفقاً للمدعين العامين؛ يجب أن يؤخذ رجل مثل "هنري الثالث عشر" على محمل الجد؛ فبصفته عضواً في عائلة أرستقراطية، (حكم آل رويس أجزاءً مما يُعرف اليوم بتورنجيا، وسط ألمانيا، حتى ثورتها في عام 1918)، يلبي تطلعات شرائح من حركة "رايخسبورغ" الذين يريدون استعادة الحكم الملكي في ألمانيا، ويعتقدون أن الإطاحة بالقيصر "فيلهلم الثاني" في نهاية الحرب العالمية الأولى كانت غير شرعية.
كان من الصعب بالنسبة لنشطاء "رايخسبورغ" العثور على أعضاء من البيوت الأرستقراطية الألمانية مستعدين ليكونوا بمثابة رموز لرغبتهم في استعادة دستور الرايخ الثاني، لذلك؛ فإن قيادة شخص مثل "هنري الثالث عشر" أمر بالغ الأهمية لتحقيق أهدافهم، حيث ساهم "هنري الثالث عشر" أيضاً في تمويل المجموعة وتوفير مساحة في قلعته في ولاية تورينجيا لتخزين الأسلحة والذخيرة، وللمفارقة؛ فإن هذه هي الولاية التي فاز فيها النازيون بالسلطة محلياً للمرة الأولى منذ أكثر من 90 عاماً.
بالإضافة لذلك؛ ألقي القبض على شريك "هنري"، المواطن الروسي "فيتاليا ب" (39 عاماً)، والمتهم بمساعدة المجموعة في إقامة اتصال مع روسيا، من خلال محاولات للتحدث إلى ممثلين روس في ألمانيا، في إشارة محتملة إلى أن المجموعة كانت تأمل في الحصول على دعم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة أن وكالة الاستخبارات الألمانية تؤكد أن التعاطف مع روسيا ملحوظ بقوة داخل حركة "مواطني الرايخ – رايخسبورغ"، التي كانت تحت مراقبة دقيقة من قبل مكافحة التجسس منذ عام 2016.
عملية كبيرة تضاف إلى رصيد الحكومة الألمانية
وبحسب موقع "أسباب"، يشير حجم العملية التي تم تنفيذها، بالإضافة إلى المعلومات الشاملة التي تم تقديمها للجمهور، إلى رصد الأجهزة الأمنية لتحركات اليمين المتطرف بصورة ناجعة، وتأتي العملية كجزء من سياسة وزيرة الداخلية نانسي فيزر التي تتبنى محاربة التطرف السياسي، خاصة من اليمين؛ حيث اقترحت في بداية فترة عملها إجراءات تشمل فصل موظفي الإدارة العامة المرتبطين باليمين المتطرف.
ومن المتوقع استخدام هذه الحملة لتحسين صورة الوزيرة التي قد تترشح لرئاسة وزراء ولاية هيس العام المقبل، كما أنها ستحسن صورة الائتلاف الحكومي (الديمقراطي الاشتراكي – الخضر – الديمقراطي الحر) المتراجعة، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة "دويتشلاند تريند" مؤخراً، أعرب فيه 30٪ فقط عن رأي إيجابي حول الحكومة، بينما كان 68٪ سلبياً.
في النهاية، من الواضح أن فرص التنظيم في تحقيق أهدافه المعلنة وهمية تماماً، ومع هذا؛ فإن هذا التطور هو أحدث مؤشر على أن تهديد اليمين المتطرف لأسس ألمانيا السياسية هو أمر بات محل اعتبار، وأن منظري المؤامرة الألمان قد بدأوا في التنظيم، كما يشير حجم الاستجابة غير المسبوقة للشرطة إلى جدية الأبعاد التي بدأ هذا الخطر يتخذها، فقد تكون الحركة صغيرة وسيئة التنظيم حتى الآن، لكن التمويل الكبير والصلات بالقوات المسلحة والعلاقات المحتملة مع روسيا هي تطورات تمنح قوة جذب إضافية لدوائر اليمين المتطرف، ليس فقط في ألمانيا، ولكن في أوروبا بصورة عامة.
يسلط هذا المشهد مجدداً الضوء على وجود أعضاء اليمين المتطرف الواسع وطويل الأمد في أجهزة الحكومة الفيدرالية والولايات الألمانية، ومن المرجح أن نشهد تصاعد الإجراءات التي تستهدف إقصاء اليمين المتطرف من أجهزة الحكومة والجيش والشرطة، تحت ما أسماه وزير العدل بوشمان "Wehrhafte Demokratie" (ديمقراطية قادرة على الدفاع عن نفسها)، وهو ما يمكن أن ينتج عنه سياسات أمنية أوسع، تقوّض بعض تقاليد الديمقراطية الألمانية الراسخة.
ولا يمكن فصل هذا المخطط عن الاتجاه المتنامي خلال السنوات الأخيرة من تزايد التطرف السياسي اليميني في ألمانيا، كان هذا واضحاً في جرائم العنف (3900 جريمة في عام 2021)، ومحاولات الاغتيال ذات الدوافع السياسية (تم تسجيل 14 محاولة في عام 2021، 5 منها كانت ناجحة).
كما ساهم المتطرفون اليمينيون، بمن فيهم "مواطنو الرايخ"، في توسيع الاحتجاجات ضد تدابير مكافحة جائحة COVID، والتي تضمنت حادثة اقتحام مبنى الرايخستاغ (مقر البرلمان)، وتقدر وزارة الداخلية أن هناك حوالي 13 ألف متطرف يميني على استعداد لارتكاب أعمال عنف في ألمانيا، بينهم حوالي 1500 لديهم تصاريح لحمل السلاح، لذلك؛ فإن من المتوقع أن يظل العنف السياسي حاضراً في المستقبل القريب في ألمانيا، وربما بوتيرة أكثر تسارعاً.