تمتلك الهند أغلب المقومات البشرية واللوجستية التي تجعل أمريكا تستهدف تحويلها إلى بديل عن الصين كمصنع للعالم، لكن هناك أسباب تقف عقبة كؤود أمام هذه "الأمنية" الغربية، فما هي؟
تناولت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تفاصيل تلك الأسباب في تقرير عنوانه "لماذا لا تستطيع الهند أن تحل محل الصين؟"، رصد كيف أن الهند ربما تكون على أعتاب طفرةٍ تاريخية، بشرط أن تتمكن من زيادة استثماراتها الخاصة وجذب عدد كبير من الشركات العالمية العاملة في الصين حالياً.
لكن هل ستنجح نيودلهي في استغلال تلك الفرصة؟ إجابة هذا السؤال قد لا تكون واضحة في الوقت الحالي، إذ أجرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تقييماً واقعياً لآفاق الهند المستقبلية في عام 2021، وأشارت خلاله إلى أن الافتراضات الشائعة حول طفرتها الاقتصادية ليست دقيقة.
فالواقع يشير إلى أن الصعود الاقتصادي للبلاد تعثّر بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم تعطّل تماماً بعد عام 2018. وجادلنا بأن سبب التباطؤ يكمن في أعماق إطار الهند الاقتصادي الذي يركز على الاعتماد الذاتي، فضلاً عن عيوب عملية صنع السياسات، التي وصفناها بـ"الأخطاء البرمجية".
هل الهند الأرض الموعودة للشركات العالمية؟
بعد عامٍ واحد من ذلك التقييم، لا تزال البيئة الاقتصادية للهند على حالها بدرجة كبيرة رغم الدعاية الإعلامية الوفيرة. ونتيجةً لذلك، ما زال الواقع يؤكد أن الهند تحتاج لتغييرات جذرية في سياساتها حتى تتمكن من إنعاش الاستثمار المحلي، ناهيك عن إقناع عدد كبير من الشركات العالمية بنقل خطوط إنتاجها إلى هناك. ويكمن الدرس المستفاد لصناع السياسة هنا في إثبات عدم وجود أي حتميات أو تسلسل واضح للأسباب، سواء في ما يتعلق بانهيار الصين أو صعود الهند.
تبدو الهند وكأنها أرض الميعاد للشركات العالمية من بعض الزوايا، إذ تتمتع بالعديد من المزايا الهيكلية، فضلاً عن أوجه القصور التي تعانيها الدول المنافسة المحتملة، علاوةً على تقديم الحكومة لحوافز استثمار كبيرة.
أما عن المزايا الهيكلية، فتمتلك الهند أراضي أكبر من مساحة ألمانيا بتسعة أضعاف، مع تعداد سكان سيتجاوز الصين قريباً. لهذا فإن الهند من الدول القليلة التي تُعتبر ضخمة بما يكفي لاستضافة الكثير من الصناعات الكبيرة، وبدء الإنتاج من أجل الأسواق العالمية أولاً ثم السوق المحلية المزدهرة لاحقاً.
علاوةً على اعتبار الهند من الديمقراطيات القوية التي تتمتع بتقاليدها القانونية القديمة، مع قوة عاملة شابة وموهوبة وتتحدث الإنجليزية، كما حققت الهند بعض الإنجازات الكبيرة التي تُضاف إلى رصيدها، مثل بنيتها التحتية المادية التي تحسنت كثيراً في السنوات الأخيرة، بينما تفوقت بنيتها التحتية الرقمية على الولايات المتحدة من بعض الزوايا.
لكن بعيداً عن المزايا السابقة، ننتقل الآن إلى مسألة البدائل: فأين ستذهب الشركات العالمية إذا لم تتجه إلى الهند؟ ربما كانت بعض دول جنوب شرق آسيا الأخرى تُعَد من المرشحين الجذابين قبل بضع سنوات، لكن الوضع تغير اليوم. ويمكن القول إن "الأزمات المتعددة" التي ضربت جنوب شرق آسيا، على حد وصف المؤرخ آدم توز، جعلت الهند تبرز كواحةٍ للاستقرار.
أما النقطة الأكثر أهمية فتكمُن في مقارنة الهند بالصين، التي تُعَدُّ المنافس الاقتصادي الأكثر وضوحاً للهند؛ حيث شهد نظام الرئيس شي جين بينغ العديد من التحديات خلال العام الماضي، ومنها تباطؤ النمو الاقتصادي والانخفاض الوشيك في عدد السكان. وزادت الأوضاع سوءاً بسبب إغلاقات كوفيد-19 القاسية التي نفذها الحزب الشيوعي الصيني، فضلاً عن التدخل المتصاعد في أعمال القطاع الخاص؛ أي إن اتجاه الصين للاستبداد في الداخل والتعديات في الخارج قد أدى لإضفاء جاذبية أكبر على الهند الديمقراطية.
وأخيراً، اتخذت الهند بعض الخطوات التي يُفترض أن تزيد جاذبيتها للشركات العالمية -على الورق؛ حيث أصدرت الحكومة خطة "الحوافز المرتبطة بالإنتاج" في مطلع عام 2021، وذلك من أجل توفير المحفزات الاقتصادية لشركات التصنيع الأجنبية والمحلية التي "تصنع في الهند". وحققت تلك المبادرة القليل من النجاحات البارزة بالفعل.
ما الاختلافات بين وعود حكومة الهند والواقع العملي؟
لو كانت الهند هي الأرض الموعودة فعلاً، لوجدنا الشركات الدولية مصطفة من أجل نقل إنتاجها إلى شبه القارة الهندية، بينما تعزز الشركات المحلية استثماراتها للاستفادة من تلك الطفرة. ومع ذلك، لا توجد الكثير من الأدلة على حدوث أي من الأمرين. ويمكن القول إن الاقتصاد لا يزال يعاني على العديد من المستويات لاسترداد وضعه ما قبل الجائحة.
إذ إن الناتج المحلي الإجمالي للهند شهد نمواً سريعاً بدرجةٍ استثنائية خلال العامين الماضيين، وأعلى من أي دولة كبيرة أخرى، لكن ذلك النمو السريع يظل مجرد وهم إحصائي؛ حيث ينسى المحللون عادةً أن الهند عانت من أسوأ انكماش في الإنتاج مقارنةً بالدول النامية الكبرى خلال العام الأول من الجائحة؛ إذ ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للهند بنسبة 7.6% فقط منذ عام 2019، مقارنةً بنسبة 13.1% في الصين و4.6% في الولايات المتحدة بطيئة النمو.
وبناءً عليه، استقر معدل النمو السنوي الهندي خلال السنوات الثلاث الماضية عند حوالي 2.5% فقط، أي أقل بكثير من معدل النمو السنوي الذي تستهدفه الحكومة ويقدر بـ7% سنوياً. علاوةً على أن أداء القطاع الصناعي أصبح أضعف.
ولا تبشر المؤشرات المستقبلية بالخير أيضاً، إذ تراجعت الإعلانات عن المشروعات الجديدة بعد انتعاشة وجيزة في أعقاب الجائحة، ولا يزال المعدل الحالي أقل بكثير من المعدلات التي حققتها الطفرة في السنوات الأولى من القرن الجاري.
أما الأمر الصادم فهو عدم وجود الكثير من الأدلة على أن الشركات الأجنبية تنقل خطوط إنتاجها إلى الهند، فرغم كل الحديث الدائر حول كون الهند وجهةً مختارة للاستثمار، يبدو أن إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة شهد حالة ركود في العقد الماضي، ولم تتجاوز تلك الاستثمارات نسبة الـ2% من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً. وهناك العديد من التجارب التي فشلت في الهند لشركات مثل جوجل، ووول مارت، وفودافون، وجنرال موتورز.
فلماذا تُحجِم الشركات العالمية عن نقل عمليات إنتاجها من الصين إلى الهند؟ لأن المخاطر لا تزال مرتفعة للغاية، وهو السبب نفسه الذي يُثني الشركات المحلية عن الاستثمار.
ما مخاطر الاستثمار في الهند؟
ينطوي الاستثمار في الهند على خطرين مهمين وسط قائمةٍ طويلة من المخاطر. وأولها انعدام ثقة الشركات في أن السياسات المتبعة بشأن الاستثمار لن تتغير لاحقاً، وتجعل استثماراتها غير مربحة. وحتى إذا ظل الإطار السياسي جذاباً على الورق، فلا تثق الشركات في أن القواعد ستُطبق بحياد دون أن تميل لخدمة مصالح "الأبطال القوميين" -وهي الشركات الهندية الضخمة التي تفضلها الحكومة.
وأدت تلك المشكلات إلى تداعيات جادة بالفعل على الشركات الأجنبية العاملة في البلاد. بينما ازدهرت مجموعة "الأبطال القوميين" بشكلٍ كبير في تلك الأثناء؛ إذ سجلت سوق الأوراق المالية في الهند زيادةً في رأس المال بمقدار 160 مليار دولار منذ بداية 2022 وحتى شهر أغسطس/آب، لكن 80% من تلك الزيادة كانت من نصيب تكتل ضخم واحد هو مجموعة أداني، التي أصبح مؤسسها ثالث أغنى رجلٍ في العالم فجأة.
ولا تستطيع الشركات الأجنبية تقليل مخاطرها بالدخول في شراكات مع التكتلات المحلية الكبرى. إذ تُمثل الشراكة مع الأبطال القوميين مشروعاً محفوفاً بالمخاطر، لأن تلك التكتلات تحاول الهيمنة على الأسواق المربحة نفسها مثل سوق التجارة الإلكترونية، بينما لا ترغب الشركات المحلية الأخرى في دخول القطاعات التي تهيمن عليها تكتلات تحظى بمزايا تنظيمية مكثفة من الحكومة.
وبعيداً عن المخاطر المرتفعة، توجد العديد من الأسباب الأخرى التي ستدفع الشركات الدولية للاستمرار في عزوفها عن السوق الهندية. إذ تتمثل إحدى العناصر الرئيسية لخطة "الحوافز المرتبطة بالإنتاج" في زيادة التعريفات الجمركية، التي تستهدف مكونات الإنتاج أجنبية الصنع.
وتهدف الفكرة إلى تشجيع الشركات التي تنتقل إلى الهند على شراء مدخلات الإنتاج من السوق المحلية. لكن هذا النهج سيُعيق غالبية الشركات الكبرى في مختلف القطاعات، لأنها تصنع المنتجات المتقدمة باستخدام مئات -وربما آلاف- القطع عادةً، وتحصل على تلك القطع من مختلف المنتجين المتنافسين حول العالم.
ولن تمثل تعريفات الاستيراد المرتفعة مشكلةً كبيرة لشركات مثل أبل، التي تخطط لبيع منتجاتها في الهند. لكن مثل هذه الشركات ليست كثيرةً أو متنوعة لأن سوق مستهلكي الطبقة المتوسطة في الهند لا تزال صغيرة، ولا يتجاوز حجمها الـ500 مليار دولار من إجمالي السوق العالمية المقدرة بنحو 30 تريليون دولار.
ويصل حجم الطبقة المتوسطة، وفقاً للتعريفات الدولية، إلى 15% فقط من سكان الهند. بينما يميل الأغنياء، أصحاب الحصة الأكبر من الناتج المحلي، إلى ادخار حصةٍ كبيرة من أرباحهم. وتؤدي هذه العوامل إلى تقليل استهلاك الطبقة المتوسطة، مما يعني أن مخاطر العمل التجاري في الهند تفوق العائدات المحتملة بالنسبة لغالبية الشركات.
وأدركت نيودلهي حجم التوترات المتزايدة بين سياساتها الحمائية وبين هدف تعزيز التنافسية الدولية للهند. لهذا تفاوضت الهند مؤخراً على توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع أستراليا والإمارات. لكن تلك المبادرات لا تضاهي اتفاقيات منافسي الهند الآخرين في آسيا.
أوجه العجز الاقتصادي "خطيرة"
تحتاج الانطلاقة الاقتصادية في أي بلد لشرط أساسي يتمثل في موازنة مؤشرات الاقتصاد الكلي بدرجةٍ معقولة. إذ يجب أن ينخفض العجز المالي، وعجز التجارة الخارجية، ومعدلات التضخم. لكن تلك المؤشرات لا تبشر بالخير في الهند اليوم. حيث تجاوزت نسبة التضخم السقف الذي وضعه البنك المركزي عند نسبة 6%، وذلك قبل وقتٍ طويل من تفشي الجائحة. بينما تضاعف حجم عجز الحساب الجاري في الهند ليبلغ نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك في الربع الثالث من 2022. كما تعاني البلاد من أجل زيادة صادراتها، في ما يواصل حجم وارداتها نموه.
ولا شك أن العديد من الدول تعاني مشكلات متعلقة بالاقتصاد الكلي، لكن متوسط الهند في تلك المؤشرات الثلاثة يعتبر أسوأ من جميع الاقتصادات الكبرى الأخرى تقريبا. بينما وصل حجم العجز الحكومي العام في الهند إلى نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي. كما تشكل مدفوعات الفائدة وحدها أكثر من 20% من الميزانية.
أما عائق النمو الأخير فيكمُن في التحولات الهيكلية العميقة، التي قوّضت حركية وتنافسية المشروعات الخاصة؛ حيث تعرض قطاع الاقتصاد غير الرسمي الهندي الضخم لضربات قوية على نحو خاص.
إذ بدأت الضربات بإلغاء استخدام العملات الورقية ذات الفئات الكبيرة في عام 2016، مما مثّل ضربة قاصمة للشركات الأصغر التي تحتفظ برأس مال العمل في هيئة نقود. ثم شهد العام التالي فرض الضرائب الجديدة على السلع والخدمات، قبل أن تتفشى جائحة كوفيد-19 في النهاية. وتراجعت نتيجةً لذلك معدلات توظيف العمالة منخفضة المهارة بدرجةٍ كبيرة، وانخفضت الأجور الحقيقية في الريف؛ مما أجبر سكان الهند الفقراء وأصحاب الدخل المنخفض على تقليل استهلاكهم.
نقاط ضعف سوق العمل المذكورة تشير إلى أن القطاع الرقمي المزدهر في الهند يعتمد على الموظفين ذوي المهارات العالية، لكنهم لا يمثلون سوى جزء صغير من القوة العاملة. وبغض النظر عن مدى نجاح مشروع صعود الهند كقوة رقمية، فالمؤكد أنه لن يحقق ما يكفي من الفوائد الاقتصادية لإحداث التحول الهيكلي الأوسع الذي تحتاجه البلاد.
ما معوقات اختيار الهند بديلاً للصين؟
يمكن القول إن الهند تواجه ثلاث عقبات رئيسية في طريق مساعيها لتصبح "الصين الجديدة"، ألا وهي: ارتفاع مخاطر الاستثمار، وقوة توجه السياسات إلى الداخل، وضخامة اختلالات الاقتصاد الكلي. ويجب تذليل تلك العقبات أمام الشركات العالمية حتى تتمكن من الاستثمار في البلاد، لأن البدائل لا تزال متاحةً أمامها.
إذ تستطيع الشركات العالمية إعادة عملياتها إلى منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا، التي كانت "مصنع العالم" قبل أن تتولى الصين تلك الدفة. كما تستطيع الشركات العالمية إعادة عملياتها إلى الدول المتقدمة أيضاً، التي لعبت ذلك الدور قبل دول جنوب شرق آسيا. أو يمكن للشركات العالمية أن تُبقي عملياتها داخل الصين، وتتحمل مخاطر بكين بدعوى أن البديل الهندي ليس أفضل بكثير.
ومن الممكن أن تتحقق الأحلام الوردية للمحللين في حال كانت السلطات الهندية مستعدةً لتغيير مسارها، وتذليل عقبات النمو والاستثمار. وإذا لم تكن السلطات مستعدةً لذلك، فسوف تواصل الهند تعثرها واعتمادها على الأداء الجيد لبعض قطاعات الاقتصاد، بينما ستفشل البلاد عموماً في استغلال كامل إمكانياتها.