أحدث اعتقال جواسيس روس مؤخراً في النرويج صدمة محلية كبيرة، فلم تكن الأمور منطقية من أي جانب بالنسبة لأحدهم الذي سمى نفسه "خوسيه جياماريا"، لكن هذا اتضح بعد فوات الأوان. فمن جهة، كان الباحث الزائر في جامعة ترومسو، التي تقع في منطقة الدائرة القطبية الشمالية بالنرويج، ظاهرياً يحمل الجنسية البرازيلية لكنه لم يكن يتحدث البرتغالية.
وهناك أيضاً الحقيقة التي تقول إن جياماريا موَّل زيارته من أمواله الخاصة، وهو أمر غير اعتيادي في الأوساط الأكاديمية، بل وخطط لمد الزيارة، مع أنه لم يتحدث قط عن أبحاثه. لكنه كان متعاوناً دائماً، حتى إنه عرض إعادة تصميم الصفحة الرئيسية لموقع مركز دراسات السلام (CPS) الذي كان يعمل فيه.
استمر كل ذلك حتى يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022، عندما وصلت شرطة الأمن النرويجية (PST) بمذكرة لتفتيش مكتبه. وبعد أيام، أعلنت الشرطة عن اعتقال الجاسوس الروسي ميخائيل ميكوشين، الذي كان يسير باسمه المستعار خوسيه جياماريا.
قالت مارسيلا دوجلاس، التي تقود مركز دراسات السلام المتخصص في بحوث الأمن والصراعات، إن هذا الكشف أحدث هزة عنيفة في الحرم الجامعي. وأوضحت لصحيفة The New York Times الأمريكية: "بدأت في رؤية الجواسيس في كل مكان".
جواسيس روسيا يظهرون في كل مكان بأوروبا
تقول الصحيفة الأمريكية إن هذا هو الحال بالنسبة لكل النرويج، بل وغالبية مناطق أوروبا أيضاً. فبينما توحل الحرب في أوكرانيا وتزداد عزلة موسكو، يتزايد حذر الدول الأوروبية من أن يكون الكرملين اليائس يستغل مجتمعاتهم المفتوحة لتعميق محاولاته للتجسس والتخريب والتسلل؛ ربما لإرسال رسالة، أو لاستكشاف المدى الذي يمكنه الوصول إليه إذا احتاج إلى ذلك في حال وقوع صراع أوسع مع الغرب.
كان ميكوشين واحداً من ثلاثة روس ألقي القبض عليهم مؤخراً في أوروبا للاشتباه في أنهم "غير شرعيين"، أي جواسيس زُرعوا في مجتمع محلي لأداء مهام جاسوسية وتجنيد طويلة المدى.
وفي يونيو/حزيران، ألقي القبض على متدرب في المحكمة الجنائية الدولية، وكان يحمل أيضاً الجنسية البرازيلية، وذلك في مدينة لاهاي، ووجهت إليه اتهامات بالتجسس لروسيا. وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، اعتقلت مداهمة شرطية سويدية زوجين روسيين واتُهما بالتجسس.
وظهرت حوادث اشتباه أخرى في أنحاء أوروبا: ففي ألمانيا، عُثر على طائرات مسيّرة فوق مواقع عسكرية حيث كانت القوات الأوكرانية تتلقى تدريبات، ويشتبه المسؤولون الألمان بقوة في أنها من تدبير الاستخبارات الروسية. حتى إن الكابلات الموجودة تحت البحر في فرنسا التي تعرضت للقطع، برغم أن الحادث لم يُنسب إلى نية خبيثة، فقد أثار شكوكاً بين المحللين الأمنيين. كذلك دُق ناقوس الخطر بسبب اختراق شبكات توزيع الوقود في بلجيكا وألمانيا قبل أيام من الغزو الروسي.
موسكو تصيب الغرب بـ"جنون الشك"
تقول الصحيفة الأمريكية: "لا يمكن أن تُنسب جميع الحوادث إلى الكرملين بكل يقين، وفي أماكن كثيرة صار من الصعب التفريق بين اليقظة المتزايدة والمخاوف الحقيقية وبين انتشار جنون الشك". وصفت روسيا سلسلة من الاعتقالات النرويجية التي وقعت مؤخراً ضد أشخاص أكثرهم يحملون الجنسية الروسية، بأنه شكلٌ من أشكال "الهستيريا". غير أن النرويج ربما يكون في جعبتها أسباب تدعو إلى القلق أكثر من الجميع.
بعد أن أوقفت العقوبات الغربية جميع أشكال الوقود الأحفوري القادم من روسيا إلى أوروبا، صارت النرويج الآن أكبر مُوَرِّد للنفط والغاز إلى القارة. وتقع قبالة ساحلها القطبي الشمالي تحت المياه الكابلات التي تعد ذات أهمية حساسة بالنسبة لخدمات الإنترنت في المركز المالي في لندن ونقل صور الأقمار الصناعية من أقصى الشمال؛ حيث تتاخم حدود النرويج الحدود الروسية بامتداد 123 ميلاً، على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي قبالة سواحل الولايات المتحدة.
وذلك الدور الحيوي جعلها تشعر بأنها أكثر عرضة للخطر منذ سبتمبر/أيلول، عندما دمرت انفجارات خطوط أنابيب نورد ستريم التي تربط بين روسيا وألمانيا، والتي بسببها تبادلت موسكو وواشنطن الاتهامات فيما بينهما للتسبب فيها.
قال توم روزيث، البروفيسور لدى كلية الدفاع النرويجية الجامعية (NDUC): "إنها صرخة مدوية للانتباه. الحرب ليست في أوكرانيا وحسب. يمكنها أن تؤثر علينا أيضاً، حتى إذا كان من الصعب أن يُعزى لها ذلك".
روسيا تعتمد على خلايا نائمة من العملاء والنرويج أكبر المتضررين
اكتُشف أمر العديد من الجواسيس الروس التقليديين واعتُقلوا وطُردوا خلال السنوات الأخيرة، ولعل ذلك هو ما جعل روسيا أكثر اعتماداً على الخلايا النائمة من العملاء، ولا سيما مع تعثر الحرب في أوكرانيا. أوضح روزيث أن زيادة هذه الحالات مؤخراً عَكَس حاجة روسيا إلى جواسيسها النائمين من أجل أن يمضوا قدماً.
وأضاف: "في هذه المرحلة الزمنية في أوروبا، وفي ظل الضغط الذي يشهده موقف روسيا، فإنها تريد أن تمدها شبكتها هذه. صحيحٌ أن هذه الأنشطة كانت موجودة من قبل، لكني أعتقد أنها قد تتحمل مخاطر أكبر الآن".
في حالة النرويج، بدأ تزايد القلق بعد رصد طائرة مسيرة ذات طراز عسكري في سبتمبر/أيلول فوق منصة نفط في بحر الشمال. وبعد مدة وجيزة، رُصد مزيد من المسيرات فوق منشآت النفط والغاز، وإحدى محطات الكهرباء. وفي أكتوبر/تشرين الأول، أُغلق مطار بيرغن، الذي يقع بالقرب من أكبر قاعدة بحرية في البلاد، لمدة ساعتين بعد رصد طائرات مسيرة في المنطقة.
بدأ النرويجيون في طرح الأسئلة حول حوادث أخرى وقعت في وقت سابق من هذا العام: تعرُّض كابل تحت المياه لتدمير في شهر يناير/كانون الثاني، وكان ينقل صور أقمار صناعية إلى وكالات فضاء غربية. تضرر خزان مياه بالقرب من عديد من المواقع العسكرية غير البعيدة عن مدينة ترومسو. ماذا لو كانت هذه الحوادث لم تقع من قبيل المصادفة، أو بسبب مثيري الشغب، بل نتيجة عمليات التخريب الروسية؟
قال أولي يوهان سكوجمو، الذي يعمل مفتش شرطة إقليمي، لصحيفة نيويورك تايمز: "الهجمات المماثلة يمكن أن تكون مفيدة، مثلما هو الحال مع مراقبة منصات النفط"، وأوضح سكوجمو أن شرطة الأمن النرويجية (PST) لا تزال تحقق في تضرر خزان المياه. وأضاف: "لا نعلم على وجه اليقين من فعلها. ولكن في الوقت الحالي، إنهم يعرفون أننا نعرف شخصاً قد يكون هو من فعلها".
اعتقالات ومحاكمات بالجملة
استجاب المواطنون النرويجيون بكل إخلاص للتحذيرات التي تنادي بأن يكونوا منتبهين، وأغرقوا الشرطة بالاتصالات التي تفيد برصدهم طائرات مسيرة، أو رؤية أجانب يتصرفون بطريقة تثير الشكوك حسب زعمهم.
ولكن في الوقت الراهن، يشعر بعضهم بالقلق من أن المبالغة في اليقظة قد تمادت للغاية، ولا سيما في مثل هذا المجال الضبابي المتعلق بالاشتباه في عمليات التجسس.
في أحد الأيام القريبة، ما بين الظهيرة والأصيل من ذلك اليوم، وفي الظلام الدامس الممتد على مدى ساعات اليوم في شتاء القطب الشمالي، كانت محكمة ترومسو المحلية الصغيرة تستمع إلى قضيتين ضد مواطنين روس متهمين بإطلاق طائرات مسيرة في الجو.
لم يُتهم أي منهم بالتجسس، فهو شيء يصعب إثباته. وبدلاً من ذلك، اتُّهموا بانتهاك العقوبات الأوروبية التي تحظر على الروس التحليق بطائرات، وهو ما تفسره النرويج في الوقت الراهن بأنه يشمل الأفراد الروس الذين يتحكمون في طائرات مسيرة صغيرة ذات أغراض ترفيهية.
اعتُقل سبعة روس في منتصف أكتوبر/تشرين الأول لإطلاق طائرات مسيرة، وحوكم أربعة منهم. أدين اثنان منهم، وحُكم عليهم بالسجن لـ 90 يوماً أو 120 يوماً.
ومن بين الأشخاص الذين اعتُقلوا، كان هناك أندريه ياكونين، ابن فلاديمير ياكونين، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ وقت طويل، وحوكم في قضية تابعتها البلاد كلها عن كثب.
يعمل ياكونين الابن رجل أعمال، ويعيش في المملكة المتحدة، ويحمل الجنسية البريطانية، وقد نأى بنفسه عن الغزو الروسي.
اعتُقل ياكونين بعد إيقاف اليخت الخاص به عن طريق السلطات النرويجية، التي سألته إن كان يملك طائرة مسيرة. أظهر ياكونين لهم الطائرة المسيرة التي استخدمها لالتقاط صور لنفسه ولطاقمه بينما يمارسون رياضة التزلج والصيد، بجانب المناظر الطبيعية الجليدية للنرويج التي تقع في القطب الشمالي.
يقيم المدعون دعوى ضده للحكم عليه بالسجن لـ 120 يوماً. مزح ياكونين وقال خلال مقابلة أُجريت معه في أعقاب المحاكمة التي عُقدت في 3 ديسمبر/كانون الثاني: "بكل تأكيد لست جاسوساً، برغم أنني أمتلك بالفعل المجموعة الكاملة لأفلام جيمس بوند".
في حديثه مع صحيفة The New York Times، رفض ياكونين التعليق على ما إذا كان اعتقاله ذا دوافع سياسية، لكنه جادل بأنه كان من المستغرب أن يُعتقل هو وثلاثة رجال آخرون في مدة زمنية قصيرة من شهر أكتوبر/تشرين الأول. قال ياكونين: "بوصفي طالب إحصاء، فإن هذا الأمر لا يتناسب مع التوزيع الطبيعي".
قضايا التجسس تدخل النرويج بمنطقة رمادية قانونية
على جانب آخر من القاعة، في محكمة صغيرة بعيداً عن الكاميرات، كان مهندس روسي يكسو الشيب رأسه ويرتدي الجينز ويدعى ألكسي ريزنيشنكو، يدافع عن قضيته وهو يبكي في محاكمة أقل لفتاً للانتباه بكثير. اعتُقل الرجل بعد التقاط صور للأسوار الخارجية لبرج المراقبة في مطار ترومسو وساحة انتظار السيارات الخاصة به.
قال إيفار هيلسينج شروين، مدير المراقبة الجوية الذي نمت لديه الشكوك من ريزنيشنكو وأبلغ الشرطة: "لقد كان شعوراً غريزياً. كان هناك شيء غريب للغاية".
داخل القاعة، دمعت عينا ريزنيشنكو بينما كان يتحدث من خلال مترجم ينقل عن الروسية، وقال إنه يخشى على عائلته، التي كان العائل الوحيد لها. عُثر معه على صور لمروحيات عسكرية ومطار كيركينيس القريب. وقال إن التقاط صور للطائرات والمطارات ليس إلا هواية له منذ أمد بعيد. ولكن في كل الأحوال، لم تكن أي من الصور غير قانونية. وبدلاً من ذلك، أُدين ريزنيشنكو لاستخدام طائرات مسيرة.
يقول المدعون العامون ومحامو الدفاع على السواء إن المحاكمات التي على هذه الشاكلة، أدخلت النرويج منطقة رمادية قانونية، تتحدى قيمها الديمقراطية.
أثارت قضية ميكوشين صراعاً بين المحللين الأمنيين وبين الأكاديميين حول مدى صرامة المراقبة والقيود التي يجب أن تُفرض على الباحثين الأجانب أو التعاون الدولي، وهو ما قد يحمل تأثيراً سلبياً على البحوث المهمة.
في قضايا الطائرات المسيرة، جادل ياكونين ومحامو الدفاع الآخرون بأن معاقبة الروس استناداً إلى جنسيتهم يعد أمراً تمييزياً، ويحتمل أن يؤسس انتهاكاً لحقوق الإنسان.
قال جون كريستيان إلدن، المحامي الرئيسي في فريق الدفاع الخاص بياكونين: "ثمة تساؤل حول ما إذا كان هذا هو القانون، ولكن إذا كانت صياغة القانون تغطي هذا الأمر، فإن القانون مشكلة".
يبدو البلد نفسه في حالة تضارب حول كيفية التعامل مع الموقف. قرر القضاة في قضيتي ياكونين وريزنيشنكو الآن تبرئة ساحة الرجلين. لكن الادعاء يطعن على الحكم. سوف يعود ياكونين إلى قاعة المحكمة في ترومسو خلال شهر يناير/كانون الثاني.
قال ياكونين، في حديثه مع الصحفيين بعد إطلاق سراحه: "لم أخرج من المتاهة بعد". قالت أولا لارسن، محامية ريزنيشنكو، إن الشرطة النرويجية كانت عدوانية على نحو غير اعتيادي في تنفيذ الأوامر. وأوضحت: "السياسة تضطلع بدورٍ في هذا. إنهم يريدون أن يدلوا ببيان يصل إلى الروس".
"الجواسيس قطعاً مهتمون بالقطب الشمالي"
كانت التوترات الأمنية في منطقة القطب الشمالي التي تقع ضمن حدود النرويج، في أشدها حتى قبل غزو أوكرانيا. صحيح أن الحدود الشمالية للبلدين شهدت علاقات ودية بين السكان المحليين على الجانبين، الذين كانوا يبيعون ويشترون بعضهم من بعض، ولكن كان هناك عديد من حالات الاشتباه في أعمال الجاسوسية التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة.
لكن بعض قضايا وحالات الجاسوسية تكاد تبدو كما لو أنها قفزت من عوالم الكوميديا. ففي عام 2019، عُثر على حوت أبيض عن طريق صياد نرويجي في المياه القطبية الشمالية، وأُثيرت تكهنات كثيرة بأنه "حوت جاسوس" هرب من الجيش الروسي. حتى إن وسائل الإعلام النرويجية أطلقت عليه "هافلاديمير"، وهي كلمة تمزج بين كلمة حوت باللغة النرويجية وبين الاسم الأول للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وبرغم ذلك، يصر الأشخاص الذين على شاكلة شروين، مدير المراقبة الجوية، على أن الحذر له ما يبرره دائماً. وبينما كان يتابع الأخبار من برجه، الذي يبعد أميالاً قليلة عن قاعة المحكمة، لم يشعر بأي ذنب للتسبب في محاكمة أحد الأشخاص؛ إذ يقول إن الجواسيس قطعاً مهتمون بالقطب الشمالي. ويضيف: "لا بد أن تكون ساذجاً إذا ظننت غير ذلك".