باريس تعوّل عليها رغم مشاكلها.. هل تستطيع المفاعلات النووية الفرنسية الصمود هذا الشتاء وتجنُّب الانهيار؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/13 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/13 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش
المفاعلات النووية الفرنسية التابعة لشركة (EDF) المملوكة للدولة/ رويترز

تبدو الطاقة النووية، من بعض النواحي، مصممة خصيصاً لهذا اليوم، وهذا العصر، على الأقل للغرب الذي يعاني من أزمة طاقة كبيرة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة أنها مصدر طاقة موثوق لا ينبعث منه الكربون، ويوفر الكهرباء، عندما لا تُلهب الشمسُ الألواح الشمسية، أو لا تهبّ الرياح على شفرات التوربينات الهوائية.  

الأهم من ذلك أنها لا تترك مشغّليها "رهينة لابتزاز الخصوم" الذين يملكون النفط والغاز، حيث خنقت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا؛ رداً على العقوبات الغربية بعد غزو أوكرانيا.

الغرب يتراجع عن التخلي عن الطاقة النووية

تقول مجلة Economist البريطانية، إنه مع تلاشي ذكريات انهيار مفاعل فوكوشيما في اليابان قبل 11 عاماً، تُفكر دول عديدة مثل بريطانيا في الطاقة النووية كجزء مهم من مزيج الطاقة في المستقبل. وحتى في ألمانيا المتشككة في الطاقة النووية، والتي قررت إيقاف مفاعلاتها النووية في أعقاب تلك الكارثة اليابانية، شعرت الحكومة بأنها مضطرة، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إلى تمديد عمر المفاعلات الثلاثة المتبقية، حتى أبريل/نيسان 2023.

وإذا كان هناك بلد واحد يجب أن يتمتع بالفعل بجميع مزايا الطاقة النووية هذه فهي فرنسا. يمثل أسطولها المكون من 56 مفاعلًا حوالي 70% من قدرة توليد الكهرباء الوطنية، وهي أعلى حصة في العالم، وأكثر من ثلاثة أضعاف الرقم في أمريكا. 

وبحسب الإيكونوميست، يسمح ذلك للفرنسيين بإنتاج 4.5 طن فقط من ثاني أكسيد الكربون لكل شخص في عام عادي، أي أقل بكثير من الألمان المدمنين بالغاز (7.9 طن)، أو الأمريكيين المجانين بالسيارات (14.7 طن). 

ومن المفترض أن تنعم فرنسا بالوهج الدافئ لتفاعلات الانشطار الخاضعة للرقابة. بدلاً من ذلك، وبعد عقد من سوء الإدارة والإشارات السياسية المختلطة، تحاول صناعتها النووية يائسة عدم الانهيار من الداخل، حيث إن أكثر من ثلث الأسطول النووي الفرنسي عاطل عن العمل، بسبب مشاكل الصيانة وتآكل الأنابيب والمشاكل الفنية الأخرى. 

ويحذّر الخبراء من انقطاع التيار الكهربائي خلال فترات البرد القارس في وقت لاحق من هذا الشتاء. ولمواكبة الطلب، يتعين على فرنسا استيراد الكهرباء باهظة الثمن. ويتحدث رئيس شركة EDF، عملاق الطاقة المشغلة للمفاعلات الرئيسية، لوك ريمون، عن "أزمة خطيرة" تواجهها المفاعلات، بعدما تمت إعادة تأميم الشركة بالكامل لإنقاذها من الإفلاس. 

هل تستطيع المفاعلات النووية الفرنسية الصمود وتجنب الانهيار؟

تعتمد أوروبا على الصناعة النووية الفرنسية، للتوقف عن كونها عبئاً على نظام الطاقة المحاصر في القارة هذا الشتاء. فيما يعتمد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عليها في النهضة النووية الوطنية. وقد يحدد نجاحها على نطاق أوسع ما إذا كانت الدول المتحولة الجديدة نحو الطاقة النووية في العالم تنظر إلى التجربة الفرنسية على أنها تجربة موضوعية أو قصة تحذيرية.

لفهم المأزق الحالي للمفاعلات النووية الفرنسية، يجدر بنا العودة إلى أزمة النفط في عام 1973، ففي ذلك الوقت كانت معظم محطات الطاقة الفرنسية تعمل بالبترول، ومع ندرة الوقود خلص السياسيون الفرنسيون إلى أنه من أجل أن تكون فرنسا دولة ذات سيادة حقيقية، تحتاج إلى مصدر طاقة يمكنها التحكم فيه. 

وبدت الطاقة النووية حلاً لذلك، وسبق أن قامت فرنسا ببناء قنبلة ذرية وغواصات نووية. وقد سمح النظام السياسي المركزي للبلاد للسلطة التنفيذية القوية بتنفيذ البرنامج النووي الطموح، دون إجراء الكثير من المشاورات مع الجمهور الفرنسي أو ممثليهم المنتخبين. وبين العام 1974 حتى أواخر الثمانينيات، عملت شركة EDF على بناء المفاعلات النووية بوتيرة سريعة تصل إلى ستة مفاعلات في السنة.

ومع ذلك، خلقت التجربة الفرنسية عدداً من المشاكل، فمن الناحية الفنية خلق بناء أكثر من مفاعل بنفس الوقت ضغطاً كبيراً على تجديد المفاعلات وصيانتها الدورية في نفس الوقت تقريباً. ونتيجة لذلك فإن "عامل الحمولة" للمفاعلات الفرنسية، وهو مقياس يحدد ما إذا كان المصنع يعمل بكامل طاقته، يحوم حول نسبة 60% مقارنة بأكثر من 90% في أمريكا. 

في عام 2021، ضاع 5810 أيام من أيام المفاعل بسبب الانقطاعات، منها ما يقرب من 30% كانت غير متوقعة، وفقاً لـ"تقرير حالة الصناعة النووية العالمية". وخلال العام نفسه اكتشفت شركة EDF الفرنسية شروخاً في بعض مفاعلاتها النووية، بسبب التآكل في أنظمة التبريد الأساسية الطارئة، ما دفع الشركة إلى إغلاق 16 منها.

في الوقت نفسه، ومع القليل من المساءلة والرقابة، سرعان ما أصبحت الصناعة النووية كارثيّةً داخل فرنسا، حيث طوّرت شركة Framatome، الشركة التي صنعت مفاعلات نووية لـEDF طموحاتها الخاصة. وتحت إدارة جديدة، واسم جديد هو أريفا، عملت على تطوير مفاعل جديد قبل نحو 20 عاماً، يسمى "مفاعل الماء المضغوط الأوروبي" (EPR) داخل فرنسا، وبيع مفاعلات أخرى إلى الصين وبريطانيا، لكن مفاعل (EPR) كان معقداً للغاية، وخلف كثيراً من المشاكل، والنتيجة هي أنه لم ينتج الكثير من الكهرباء حتى الآن، رغم أن صناعته تجاوزت الميزانية بمليارات الدولارات.

ماكرون يريد بناء مفاعلات جديدة لكنه أمام خيارات صعبة

وأدى تجاوز المشرعين الفرنسيين، والذي ربما أدى إلى تسريع الأمور في البداية، إلى جعل السياسة النووية الفرنسية أكثر عرضة للرياح السياسية. وفي عام 2012، أقنع فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي الاشتراكي، حزب الخضر بدعم حملته الرئاسية الناجحة، مقابل وعد بإغلاق أقدم مفاعلين في البلاد في فيسنهايم، بالقرب من الحدود الألمانية، والحد من الطاقة النووية في البلاد إلى 50% بحلول عام 2025، ما يعني إغلاق ما يصل إلى 20 مفاعلاً. 

وحافظ هولاند على الوعد الأول وليس الثاني، والآن يريد ماكرون إيجاد حل لهذه الدائرة المفرغة. ففي فبراير/شباط 2022، حتى قبل أن يهاجم بوتين أوكرانيا، أعلن الرئيس الفرنسي أن البلاد ستبدأ في بناء مفاعلات نووية جديدة مرة أخرى: 6 مفاعلات على الأقل، وما يصل إلى 14 مفاعلاً إذا سارت الأمور على ما يرام. 

لكن المهمة التالية الأصعب هي أن يقوم رئيس شركة EDF، المختار من قبل ماكرون، بإعادة تشغيل أكبر عدد ممكن من المفاعلات المغلقة، وإعادتها إلى العمل مرة أخرى. وتعهدت EDF بتشغيل معظمها بحلول مطلع عام 2023، وهو ما يبدو طموحاً، لكن يجب أن يتعامل الرئيس التنفيذي الجديد لـedf أيضاً مع فاتورة الانقطاعات المتكررة، وسقف الحكومة على زيادات التعريفة المفروضة لدرء الغضب من ارتفاع أسعار الطاقة، وكلفة التجديد التي ستناهز عشرات المليارات.

الأمر الآخر هو أن فرنسا لم تعد القوة الصناعية التي كانت عليها من قبل، وقد يكون من الصعب عليها توظيف العمال المهرة اللازمين لبناء المفاعلات الجديدة، خاصة أن هناك أكثر من 220.000 يعملون بالفعل في هذا القطاع. ويحذر نيكولاس جولدبيرج، من شركة كولومبوس للاستشارات: "يجب أن نكون متواضعين جداً بشأن قدرتنا على بناء مفاعلات جديدة، سيكون هذا أصعب اختبار على الإطلاق للفرنسيين".

وبحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، تواجه المفاعلات الفرنسية عائقاً آخر يتمثل بإضراب العاملين فيها مؤخراً. وأدت الاضطرابات التي حصلت في 18 مفاعلاً مملوكاً لشركة EDF إلى تأخير إعادة تشغيلها، ما يهدد خطط الحكومة لإعادة تشغيلها جميعاً مطلع العام القادم. وتشهد فرنسا منذ نحو شهرين عدة إضرابات في مصافي التكرير ومستودعات الوقود، بدعوة من النقابات العمالية التي تُطالب بزيادة في الأجور.

تحميل المزيد