يُقال كثيراً إن تعريف الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتتوقع نتيجة مختلفة في كل مرة. ومع ذلك، فإن هذا بالضبط ما يفعله صانعو السياسة في الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب حين يعمدون لفرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على الأنظمة المعادية لهم، وحتى مجرد المخالفة لهم، رغم أن محصلة عقود من فرض العقوبات الأمريكية والغربية جاءت في الأغلب بنتيجة عكسية.
لم تأت سياسة العقوبات بنتائج محمودة في معظم الأحيان. فالعقوبات الواسعة لم تكتف بعجزها عن حمل الزعماء الاستبداديين والعدوانيين على تغيير منهجهم فحسب، بل زادت على ذلك أنها عززت الميول المناهضة للديمقراطية وحفزت انتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وفي الوقت نفسه، فإن وطأة هذه العقوبات يقع معظمها على المواطنين العاديين في هذه البلدان، فهم من يعانون تدهور مستوى المعيشة وزيادة القمع الحكومي، أما النخب الحاكمة التي كان يُرجى إيقاع العقوبات بها وإضعاف سيطرتها، فإنها تزدهر بفضل سيطرتها على الموارد القليلة.
يقول الموقع الأمريكي: "لقد شاهدنا الأمر نفسه مراراً وتكراراً في بلاد تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً في الملامح والظروف، سواء كانت فنزويلا أم إيران أو كوبا أو سوريا أو كوريا الشمالية".
العقوبات الأمريكية على كوريا جعلتها قوة نووية
وتختص كوريا الشمالية بقدرٍ زائد عن غيرها من فشل العقوبات في بلوغ أهدافها، فمنذ أن بدأ هذا البلد في تطوير الأسلحة النووية واختبارها -بعد انسحاب إدارة جورج دبليو بوش عام 2002 من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية الموقعة بين البلدين- تعرضت كوريا الشمالية لموجات متوالية من العقوبات، وزادت العزلة المفروضة عليها.
وتشير المصادر إلى أن البلاد، وإن لم تشهد حالياً مجاعة جماعية على غرار المجاعة التي أودت بحياة مليوني شخص في التسعينيات، فإن سكان البلاد يعانون منذ سنوات نقصاً حاداً في الأمن الغذائي، حتى إن معظم الكوريين الشماليين لا يتناولون إلا وجبة واحدة في اليوم.
تذرَّعت كوريا الشمالية بمكافحة وباء كورونا، ورفضت السماح لوكالات المعونة الدولية، مثل برنامج الغذاء العالمي، بدخول البلاد، وزادت من القيود المفروضة على التواصل مع العالم الخارجي وهروب الناس باللجوء إلى الخارج. ثم عمدت إلى إغلاق المنافذ التي كانت الحدود بين الصين وكوريا الشمالية تمتلئ بها ذات يوم، إذ تقول المصادر إن كوريا الشمالية أقامت 169 برج مراقبة وحاجزين من الأسلاك الشائكة لمنع مواطنيها من الوصول إلى نهر يالو الذي يقود من يتجاوزه في النهاية إلى كوريا الجنوبية.
في غضون ذلك، أجرت كوريا الشمالية عدة عمليات اختبار لإطلاق الصواريخ هذا العام، واستأنفت تشغيل المفاعل النووي في يونغبيون، ما يعني أننا قد نكون بصدد كارثة إشعاعية في طور الإعداد. وتأتي الأموال لكل ذلك من سرقة العملات المشفرة، وغيرها من الجرائم التي ازداد لجوء كوريا الشمالية إليها بعد العقوبات.
إيران طورت برنامجها النووي ونشرت ميليشياتها بالمنطقة رغم العقوبات
أما إيران، فهي مثال بارز آخر على العقوبات التي أفسدت من حيث زعمت الإصلاح. فمع أنه قد يجوز لبعضهم القول إن العقوبات متعددة الأطراف التي سبقت الاتفاق النووي عام 2015 أسهمت في نجاح المفاوضات، فإن الواقع أنها فقدت تأثيرها والغاية منها حين انسحبت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، على الرغم من أن إيران كانت في حالة امتثال كامل.
على خلاف المراد، لم تسارع إيران إلى الخضوع ولا تمكنت الولايات المتحدة من الحصول على اتفاق أكثر إرضاء لشروطها، بل إن النظام الإيراني عمد إلى تطوير برنامجه النووي على نحو جعل إيران الآن قادرة على إنتاج مواد انشطارية كافية لصنع السلاح النووي في غضون أيام، حسب الموقع الأمريكي.
وتواصل إيران مساندة الميليشيات الموالية لها في العراق واليمن، وتساند نظام بشار الأسد القمعي في سوريا، كما تحافظ على علاقاتها الوثيقة بحزب الله اللبناني.
علاوة على ذلك، زادت إيران من تطوير قدراتها الصاروخية وطائراتها المسيرة، على الرغم من القيود التجارية طويلة الأمد التي فرضتها الولايات المتحدة ودول أخرى على وصول الأسلحة والتعامل التجاري مع إيران. ومثلما تمكنت إيران من تزويد الحوثيين في اليمن بالطائرات المسيرة والصواريخ، فإنها تقدم الآن الطائرات المسيَّرة لروسيا التي تستخدمها في العدوان على أوكرانيا.
العقوبات أضعفت المعتدلين وعززت قوة الحرس الثوري
من جهة أخرى، أدت العقوبات الأمريكية والغربية إلى تدهور الوضع السياسي الداخلي في إيران، وأضعفت الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي للتيارات السياسية التي كانت تساند الاتفاق مع الغرب وزاد من تأييد التيارات المتشددة وسلطوية النظام الحاكم، ومع ذلك فإن العقوبات لم تدفع بالنظام الإيراني إلى المضي قدماً في مفاوضات الاتفاق النووي، الذي من شأنه أن يخفف العقوبات على البنوك الإيرانية وصادرات النفط والتصنيع، بل إن المفاوضات في طريقها إلى الاحتضار.
ومع أن الفساد وسوء الإدارة لهما نصيب كبير فيما انحدرت إليه إيران من سوء الحال، حسب الموقع الأمريكي، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب النظر عما كان للعقوبات من آثار شديدة الوطأة في التدهور الاقتصادي لإيران، فقد تفاقم انتشار الفقر بين الشعب الإيراني في ظل انخفاض قيمة العملة وزيادة التضخم وتناقص التجارة والاستثمار. وتشير تقديرات الحكومة إلى أن أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 80 مليون نسمة واقعون عند حد الفقر، وقد اشتدت وتيرة انتشاره منذ فرض العقوبات واسعة النطاق قبل نحو عقد من الزمان.
كتب بيجان خاجيبور، الخبير الاستشاري في شؤون التجارة الإيرانية، في مقال له الأسبوع الماضي، أن "استمرار إضعاف الطبقة الوسطى في إيران سيزيد من التآكل الاقتصادي الذي يتوقع أن تشهده البلاد بسبب افتقارها إلى استثمارات البنية التحتية". وفي الوقت نفسه فإن النظام الإيراني ما زال يحتكر الموارد الشحيحة المتبقية في البلاد.
وفي المقابل، استطاع النظام الإيراني التكيف مع العقوبات ونمت الصناعة المحلية في ظل عزلة البلاد وتراجع تجارتها الخارجية، كما أصبح الحرس الثوري خبيراً في تهريب النفط وغيره من المنتجات، وازدادت سيطرته على البلاد، لدرجة أن البعض يرى أنه لا يريد رفع الحصار الغربي عن إيران.
وعلى المنوال ذاته، فإن البلدان الأخرى التي تعرضت لعقوبات، مثل كوبا وسوريا وفنزويلا، لم تتحسن أحوالها. واضطرت إدارة بايدن خلال المدة الماضية إلى تخفيف الحظر المفروض على الاستثمار الأمريكي في إنتاج النفط الفنزويلي، لتعويض النواقص المترتبة عن خنق صادرات النفط الواردة من دولة منبوذة أخرى، وهي روسيا.
لماذا تصر أمريكا ومن ورائها بقية الغرب على سياسة العقوبات رغم فشلها؟
يجادل مؤيدو العقوبات بأنها وإن لم تؤد إلى تغيير الأنظمة، فإنها تحملها على تعديل سياساتها. لكن الرابط ضعيف بين العقوبات وتعديل الأنظمة لسياساتها، حتى يبدو أن العقوبات أقرب إلى إطالة أمد الديكتاتوريات من الإطاحة بها، حسب وصف Responsible Statecraft.
فلماذا يستمر فرض العقوبات؟ أتستخدمها الحكومات الغربية لادِّعاء الفضيلة الأخلاقية على خصومها؟ أم هي بديل عن الحرب؟ أم أنها تُفرض لاسترضاء الجماهير السياسية في البلدان التي تفرض العقوبات؟ أم كل ذلك؟
الأسباب كثيرة، لكن الظاهر لنا أن النتائج ليست كافية لتسويغ الوسيلة، فهل يعترف السياسيون يوماً بالحقائق ويغيرون هذا المسار؟