"الضربات الأمريكية في الصومال تؤدي لازدياد قوة حركة الشباب الإرهابية في جنوب البلاد"، هذا ما خلص إليه تقرير حقوقي هولندي حول الوفيات والأضرار الكارثية التي لحقت بالمدنيين، بسبب الغارات الجوية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في الصومال.
وكشف التقرير الجديد، الصادر عن منظمة PAX الهولندية غير الربحية، عن مجموعة مروعة من مظاهر المعاناة- بما في ذلك القتل المزعوم للأطفال- وطالب التقرير بوضع حدٍّ لممارسات الاستهداف الحالية التي تستخدمها القوات الأمريكية خارج مناطق الحرب التقليدية.
يركز التقرير، الذي اطلع عليه موقع The Daily Beast الأمريكي، بشكل خاص على جوبالاند، أقصى جنوب الصومال، حيث ورد أن معظم الغارات الجوية الأمريكية حدثت بانتظام منذ أول هجوم أمريكي عام لمكافحة الإرهاب، في الدولة الواقعة في شرق إفريقيا في عام 2007.
وجوبالاند هي الوحيدة بين ولايات الصومال الست التي تحتوي على منطقة تسيطر عليها بالكامل جماعة الشباب الإسلامية المتشددة. وتم التغاضي إلى حد كبير عن تأثير العمليات الأمريكية ضد الجماعة على المدنيين الأبرياء في جوبالاند في التقارير عن الصومال حتى الآن.
الضربات لم تكسر قبضة حركة الشباب، بل عززت قدرتها على التجنيد
ورغم أن سنواتٍ من الضربات الأمريكية قتلت العديد من القادة البارزين في حركة الشباب، لم تكسر تلك الضربات قبضة الجماعة المتشددة على الصومال أو توقف قدرتها على ارتكاب جرائم فظيعة، حسب موقع The Daily Beast.
في الواقع، تشير الشهادات الواردة في تقرير PAX، إلى أن الضربات قد تأتي بنتائج عكسية، حيث تعمل كأداة تجنيد للمسلحين عندما تصبح الضربات الجوية الأمريكية دعاية لهم.
ورغم أن حركة الشباب مكروهة من قبل أولئك الذين يُفرَض عليهم العيش تحت حكم الجماعة، فإن المدنيين الصوماليين الذين قابلتهم المنظمة الهولندية من أجل إعداد تقريرها يتساءلون عما إذا كانت الغارات الجوية الأمريكية تخدم حقاً مصالحهم الأمنية.
الخسائر أكبر بكثير مما تعلنه القوات الأمريكية
وبينما تعترف البيانات الرسمية من القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، بأن عملياتها قتلت خمسة وأصابت 11 مدنياً صومالياً، فإن تقديرات مجموعات المراقبة المستقلة تشير إلى أن الخسائر الحقيقية أعلى بكثير. تقدر منظمة Airwars البريطانية غير الربحية، أن ما بين 78 و154 مدنياً صومالياً لقوا مصرعهم، في غارات تم تأكيدها أو من المحتمل أن تكون نفذتها القوات الأمريكية.
لكن التقرير الجديد، الذي يستند إلى مقابلات مع مدنيين صوماليين تضرروا من الغارات الجوية، ومسؤولين صوماليين، ومنشقين عن حركة الشباب، يشير إلى أن وفيات المدنيين ليست سوى غيض من فيض من الأضرار التي سببتها الضربات الأمريكية. وأُبلِغَ عن النزوح وتدمير الممتلكات وفقدان سبل العيش والصدمات النفسية المستمرة كعواقب غير مقصودة للعمليات. يستند تقرير PAX إلى مزاعم مدنيين صوماليين، لكن المنظمة لم تتمكن من التحقق بشكل مستقل من مزاعمهم، أو التأكد من الضحايا الذين سقطوا جراء الضربات الموصوفة للقوات الأمريكية بشكل قاطع.
معظم الضحايا سقطوا في عهد ترامب ولا يمكن التمييز بين المسلحين والمدنيين
وتجدر الإشارة إلى أن غالبية التقرير تتعلق بالضربات الجوية التي نُفِّذَت خلال إدارة دونالد ترامب.
ويثير التقرير أيضاً أسئلة حول ممارسات الاستهداف والإبلاغ للجيش الأمريكي، والقواعد المعمول بها، التي تسمح بالضربات الجوية في الصومال. تقول أماندا سبيربر، الباحثة والمراسلة التي كتبت تقرير PAX، إن خصوصيات الوضع في جوبالاند، حيث حركة الشباب هي الشكل الوحيد للحكومة، تخلق وضعاً خطيراً بشكل خاص للمدنيين.
وتضيف أنه "بموجب تعريف أفريكوم لـ"المقاتل"، سيكون من الصعب معرفة مَن ليس هدفاً شرعياً، نظراً لأن حركة الشباب قد فرضت نفسها على المجتمع الصومالي، وتدير حكومة ظل ونظام ضرائب في المناطق التي لا تسيطر عليها بشكل صريح".
وبالنظر إلى الدرجة التي أصبحت فيها الجماعة جزءاً لا يتجزأ من المنطقة، فقد انضم العديد من أعضاء حركة الشباب من المستوى الأدنى بدافع الضرورة لكسب لقمة العيش. ولا يزال آخرون يُجبَرون على الدخول من خلال التهديد بالتعذيب. وحتى ذلك الحين، قد يقوم أعضاء المجموعة بأدوار غير قتالية مثل تحصيل الضرائب أو رعاية الماشية المملوكة للجماعة، لكنهم لا يزالون يعيشون في خوف من استهدافهم من قبل الضربات الجوية الأمريكية.
الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وصفها بأنها "رخصة غير مقيدة للقتل"
حاولت التقارير السابقة تسليط الضوء على كيفية منح الولايات المتحدة الإذن بشن غارات جوية لمكافحة الإرهاب، في مناطق تعتبر خارج مناطق الحرب التقليدية. خلال إدارة ترامب، خُفِّفَت القواعد المتعلقة بمن يمكن استهدافه بـ"العمل المباشر"- القوة المميتة- في هذه المناطق، لدرجة أن الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وصفها بأنها "رخصة غير مقيدة للقتل".
وفي أكتوبر/تشرين الأول، ذكرت صحيفة New York Times الأمريكية، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وقَّع على سياسة سرية- يُشار إليها باسم مذكرة السياسة الرئاسية- لاستبدال إرشادات ترامب رسمياً، والتي أُوقِفَت مؤقتاً بسبب القيود المؤقتة المفروضة في يوم تنصيب بايدن. تقول سبيربر: "هذا يتطلب نوعاً من المراجعة، وبالتالي يوضح أنها كانت مشكلةً منذ البداية".
ولكن في حين أن الأساس حول من يمكن استهدافه من خلال الضربات الأمريكية المضادة للإرهاب في أماكن مثل الصومال لا يزال غامضاً، فإن الآثار التي يمكن أن تحدثها الضربات على المدنيين المتضررين لا لبس فيها.
مقتل أُم وطفلها
تضمنت معظم حالات جوبالاند لإصابات المدنيين التي رُوجِعَت من قبل تقرير منظمة PAX إصابة أشخاص بشظايا وحطام من الضربات الصاروخية، ما أدى إلى وفيات وإعاقات. ومن بين القتلى والجرحى ستة أطفال. قال أحد الأشخاص الذين قوبِلوا أثناء إعداد التقرير إن غارة في الساعة 2 صباحاً خارج مستوطنة برهاني أودت بحياة أم وطفل، بينما تحدثت أخرى عن منزل جيرانها الذي سُوِّيَ بالأرض، في غارة جوية أسفرت عن مقتل صبيَّين داخل المبنى.
وتعيش امرأة يُشار إليها في التقرير باسم مستعار، أمبورو، الآن في مخيم للنازحين في عاصمة جوبالاند، كيسمايو، بعد أن تعرض منزلها في قرية بالقرب من برهاني لضربة قبل حوالي خمس سنوات. وقالت إنها سمعت صوت طائرة تحلق فوقها بينما كانت تغسل ملابسها عندما وقع الانفجار. أُصيبَ ابناها- أحدهما يبلغ من العمر عامين فقط، والآخر أصغر منه، ولا يزالان يرضعان- بشظايا تسببت في جروح قاتلة. وأُصيبَت أمبورو أيضاً بجروح، وأصبحت الآن مصابةً بالعمى بشكلٍ دائم في إحدى عينيها.
امرأة أخرى، يشار إليها باسم جميلة، أصيبت في غارة جوية عام 2018 في منطقة هوسينغو في جوبا السفلى. ليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة أو جهة فاعلة أخرى مثل الجيش الكيني هي التي نفذت الهجوم. لا تزال لديها شظية عالقة في ظهرها وفخذيها وذراعيها، وتعاني الآن من مشاكل في الحركة. تعيش جميلة الآن أيضاً في مخيم للنازحين، ابنها البكر، الذي تقول جميلة إنه تغيّر نفسياً بسبب الغارة الجوية، موجود أيضاً في المخيم. من المعروف أن الأشخاص المصابين بأمراض نفسية في الصومال يُقيَّدون بالسلاسل، لتجنب إصابة أنفسهم أو الآخرين، وتقول جميلة إن ابنها مقيد الآن لفترات طويلة.
بالإضافة إلى الأذى الجسدي والنفسي، تزعم منظمة PAX أن الضربات الجوية الأمريكية في جوبالاند تسببت في أضرار أخرى للمدنيين أيضاً. أفاد الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات من أجل التقرير، أنهم فقدوا الماشية والمحاصيل في الانفجارات، التي دمرت سبل عيشهم. ويقول الضحايا إنهم واجهوا أيضاً المصاعب الاقتصادية للفواتير الطبية بعد الضربات، فضلاً عن الاشتباه في كونهم أعضاء في حركة الشباب- حتى عندما يصرون على أنهم ليسوا كذلك- حيث يعتقد الجيران أنه لا بد من استهدافهم لسبب ما. والأسوأ من ذلك، يقول ضحايا الضربات إنهم استُهدفوا بنشاط من قبل جهود تجنيد حركة الشباب في أعقاب الهجمات، حيث تأمل الجماعة في الاستفادة من الاستياء تجاه الولايات المتحدة.
وقال محمد عثمان عبدي لموقع The Daily Beast: "إن أي غارة جوية تقتل أو تصيب أو تتسبب في وقوع إصابات في صفوف المدنيين ستساعد حركة الشباب. بالطبع سوف تستخدم الشباب هذا كأداة دعائية". إنه يعرف جيداً كيف يمكن أن تؤدي عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية في الصومال إلى نتائج كارثية.
في فبراير/شباط 2020، قتلت غارة جوية أمريكية في جيليب ابنة أخته، نورتو كوسو عمر أبو بكر، التي كانت تبلغ من العمر 18 عاماً في ذلك الوقت. وأدى الهجوم إلى إصابة حماته، خديجة محمد جدو، وإصابة اثنتين من بنات أخيه الأخريات، فطومة كوسو عمر وعدي كوسو عمراند.
وبعد تحقيق أجرته منظمة هيومن رايتس ووتش، أقرت أفريكوم بمسؤوليتها عن قتل ابنة أخت عبدي وإصابة أقاربه الآخرين، الذين قال الأمريكيون إنهم "لم يكونوا مرئيين" أثناء هجومٍ على "فرد مستهدف".
والحكومة الصومالية تضغط على الضحايا لكي يصمتوا
وحضر عبدي، الذي يعمل صحفياً في وكالة الأنباء الوطنية الصومالية، مؤتمراً حول رسائل مكافحة الإرهاب في اليوم التالي للغارة الجوية، تحدث فيه إلى مسؤول أفريكوم. يقول عبدي: "أخبرتهم بما حدث، بأنني ضحية تلك الضربة الجوية".
وزعم أن المسؤول أخبره أن أفريكوم تحاول دائماً "تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين".
ولكن بعد نشره عن الغارة الجوية على وسائل التواصل الاجتماعي، قال عبدي إن مسؤولي الحكومة الصومالية اتصلوا به وضغطوا عليه للتكتم.