كانت العفوية الشديدة التي ميزت الفرحة العربية بفوز المغرب على إسبانيا وتأهلها لدور ربع النهائي بمونديال قطر أمراً مثيراً للانتباه، وقبل ذلك الفرحة العربية بفوز المنتخب السعودي والاحتفاء العربي البالغ بتنظيم قطر للمونديال وحرص الجماهير العربية على إظهار دعمها لفلسطين رغم موجات التطبيع الرسمي الواسعة.
فقد اخترقت الفرحة العربية بفوز المغرب أسوار الخلافات السياسية مع الجزائر، وبعد المسافة مع المشرق، واحتفى الكثيرون بفوز منتخب المغرب وكأنه منتخب بلادهم، مثلما احتفى الكثيرون بمونديال قطر، باعتباره مونديال العرب وليس قطرياً فقط.
قد تبدو هذه الفرحة ورفع فريق المغرب لعلم فلسطين، أمراً بديهياً بالنسبة لكثير من العرب، ولكن رغم صعود فكرة التكتلات الإقليمية في العالم، فإن من الصعب تصور أن تتكرر في مكان آخر بالعالم، وأن نرى البرازيليين يحتفلون بفوز الأرجنتين بكأس العالم أو الفرنسيين سيجلسون أسفل برج إيفل يشجعون منتخب ألمانيا أقرب الحلفاء لبلادهم، بنفس الحماس الذي يشجع به العرب من المحيط للخليج منتخب المغرب وقبله منتخبات السعودية، وتونس وقطر.
والأهم في هذه الفرحة هو توقيتها، فهي تأتي في وقت تتعرض فيه المنطقة لأزمات وحروب أهلية وخلافات أفقدت أهلها ثقتها في أنفسهم، وأضعفت الأيديولوجيات الجامعة في المنطقة من توجهات قومية وإسلامية وتأييد لفلسطين؛ حيث باتت هذه الأيديولوجيات الجامعة الأكثر تعرضاً للهجوم الداخلي، والخارجي على السواء.
الفرحة العربية بفوز المغرب عفوية وتسير عكس التيار
الفرحة العربية بفوز المغرب والسعودية وتنظيم قطر للمونديال تأتي في وقت تكاد تمر المنطقة بأسوأ مرحلة في تاريخها، فحتى في عهد الغزوات المغولية والحملات الصليبية لم تكن الأوضاع بالمنطقة بهذا السوء، ويتداخل ذلك مع صعود الدعوات الانعزالية في المنطقة واختفاء الخطاب الرسمي والإعلامي الداعي للتضامن العربي والإسلامي، وصعود غير مسبوق للتطبيع وما يترتب عليه من محاولات الحكومات للتأكيد على فكرة أن المصالح الوطنية (الضيقة) أهم من فلسطين والتضامن العربي.
يعني كل ما سبق أن الفرحة العربية بأداء المغرب وقبلها السعودية وتنظيم قطر للمونديال فرحة فطرية عفوية ليست مصطنعة أو مدفوعة بأجندة سياسية أو أيديولوجية، بل إن الأجندة السياسية السائدة في المنطقة والعالم قد يكون توجهها ضد هذه المشاعر التي خلقت هذه الفرحة.
فهي مشاعر تتحرك تلقائياً دون دفع من خطابة إذاعة صوت العرب المصرية أو كاريزما جمال عبد الناصر أو مواقف الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين النبيلة وبلا حزب مثل البعث يقودها أو مفكر مثل عبد الرحمن الكواكبي يؤسس لها فكرياً.
جذورها تعود لآلاف السنين
ولكن هذه المشاعر العفوية التي تسير عكس التيار نابعة من واقع تاريخي وجغرافي يصعب للأزمات والعولمة والإسلاموفوبيا، وخلافات الأنظمة وموجات التطبيع الرسمية، أن تمحوه.
فمشاعر التضامن العربي تنتظر دوماً اللحظة المناسبة للظهور. ويقول الإسرائيليون عن قلقهم من ذلك "لا نأمن للمشاعر العربية في الأزمات"، وذلك عند محاولتهم إقناع الأمريكيين بعدم بيع طائرات إف 15 للسعوديين في الثمانينيات (ومرة أخرى قبل سنوات) خوفاً من أن تستخدم يوماً ضد تل أبيب في حال وقوع حرب إسرائيلية مع جوارها العربي بسبب فورة المشاعر العربية في الأزمات التي لا يمكن توقع مداها.
أولى أسباب هذه الفرحة، هو التقارب والتشابه والجذور المشتركة بين الشعوب العربية قديماً وحديثاً، وهي جذور لا يتم التركيز كثيراً على أنها أقدم حتى من العروبة والإسلام، وأن العروبة والإسلام ما جاء ليعيد توحيد ما كان في الأصل واحداً.
فإحدى الحقائق العلمية المعروفة أن شعوب المنطقة العربية تعود جذورها كلها لأصل واحد وهو ما يعرف بالمجموعة اللغوية الأفروآسيوية، حسب تسمية الباحثين الغربيين، والتي تضم اللغات السامية بما فيها العربية والآرامية والعبرية والمصرية القديمة والأمازيغية وغيرها من لغات المنطقة، وهذه المجموعة تتسم بسمات ثقافية وحضارية متقاربة ومتداخلة، كما أن نطاق الجغرافي وحدودها ثابتة بشكل لافت، منذ بداية الهجرات البشرية الأولى ونشأة الحضارة قبل بضعة آلاف من السنين، فحدودها الشمالية الشرقية هي جبال طوروس، والشرقية جبال زاغروس والخليج العربي، والشمالية البحر المتوسط والجنوبية الصحراء الكبرى والمحيط الهندي، وهي تكاد تكون نفس حدود العالم العربي الحديث.
فحدود اللغة العربية الحالية تكاد تكون هي نفسها الحدود التاريخية لأخواتها الساميات من لغات آرامية وأكادية في العراق والشام وحدود أبناء عمومتها المصرية القديمة والأمازيغية وغيرها من اللغات الأفروآسيوية.
مما يؤكد على طبيعة الهوية الجامعة للمنطقة تاريخياً والرابطة القوية الواضحة بين الشعوب العربية قبل الإسلام، هو أن المنطقة خضعت لقرون طويلة من السيطرة الخارجية الفارسية واليونانية والرومانية دون تأثير خارجي يذكر على لغتها وهويتها، بل كان التأثير متبادلاً بين مكوناتها المحلية فقط.
فلقد سيطر الفرس على العراق لأكثر من ألف عام، ولكن لم يتحدث الفارسية يوماً، بينما غير لغته عدة مرات من اللغة الأكادية السامية إلى الآرامية ثم العربية، ولكن كلها في إطار اللغات السامية، لأن هذه شعوب ذات جذور واحدة، ولغاتهم في الأصل لغة واحدة، والانتقال بينها أشبه للانتقال بين لهجة وأخرى، وهذا ما حدث في الشام، حيث أدت الهجرات السامية المتتالية لانتقال سلس من العمورية للفينيقية للأرامية ثم أخيراً للعربية، رغم أن اليونانية ظلت لغة الحكم لما يقرب من ألف عام، كما أن مصر لم تغير لغتها رغم خضوعها لقرون لسيطرة اللغة الإغريقية، ولكن الفتح العربي الإسلامي وما أعقبه من هجرة عربية واسعة، أديا للتعريب خلال بضعة قرون، لأن القبائل العربية المهاجرة والأقباط يتشاركون في الانتماء لنفس المجموعة الإثنية، وكذلك الأمر مع الأمازيغ الذين قاوموا الرومان لقرون، بينما امتزجوا مع الفينيقيين الذين أسسوا إمبراطورية قرطاجنة والعرب بعد الفتح العربي الإسلامي، بسبب الجذور المشتركة القديمة.
بل إن المفارقة أن جزءاً من عملية تعريب شمال إفريقيا، تم بتشجيع من دول أسسها قادة وقبائل أمازيغية مثل الموحدين الذين شجعوا هجرة قبائل بني هلال وبني سليم من تونس والجزائر إلى المغرب، وكان سلاطين الموحدين العظام لديهم وعي بعلاقة أخوة والدم والدين مع عرب بني هلال وبني سليم كما يظهر في خطاباتهم لبني هلال لتشجيعهم للهجرة للمغرب والمشاركة معهم في الدفاع عن الأندلس، كما أن الأوروبيين والأفارقة عادة يتعاملون مع العرب والأمازيغ كشعب واحد.
الأقباط ومسيحيو المشرق والأمازيغ رحبوا بالفتح العربي بل وشاركوا في معاركه
وبالتالي، فإن مشاعر التضامن العربية الفطرية الحالية عكس ما يظن البعض أقدم من الإسلام والعروبة أنفسهما، فهي جزء من تاريخ وتركيبة المنطقة الجغرافية والإثنية.
ولذا لم يكن غريباً أن يرحب معظم سكان المنطقة بالفتح العربي ورغم أن أغلب سكان المشرق كانوا مسيحيين والإمبراطورية البيزنطية التي تحكمهم كانت تقدم نفسها كمعقل المسيحية، بل إن شعوب المنطقة سرعان ما انضمت للعرب الفاتحين وحاربت معهم مثلما حدث في أول معركة بحرية في الإسلام وهي معركة ذات الصواري التي لعب فيها الأقباط دوراً كبيراً، كما لعب الأمازيغ الدور الأكبر في فتح الأندلس ليصبح بوتقة عربية أمازيغية إسلامية.
والمسافة في اللغة والعادات والتقاليد بين المغربي والعراقي أقل بكثير مما هي بين ابن شمال الصين أو الهند أو جنوبيهما؛ حيث تتحدث أقاليم هذين الدولتين لغات مختلفة تماماً عن بعضهما، وليس مجرد اختلاف في اللهجات وتفصل بين مناطق البلدين فروق سلالية وثقافية هائلة.
بل إن المسافة بين العراقي والمغربي أقل بين شمال فرنسا وجنوبها، قبل أن تفرض سلطة باريس اللغة الفرنسية قسراً على مناطق البلاد في القرن التاسع عشر، بينما الهوية العربية الجامعة، نشأت وتوسعت رغم الانقسام السياسي والدور الاستعماري، وغياب أي مؤسسة تقود عملية التحول الديني أو اللغوي.
كيف ساهم الغرب في إظهار مشاعر التضامن العربي بسياسته؟
صحوة الشعور العربي الجامع التي ظهرت في المونديال، بدأت بالاحتفاء بالتنظيم المبهر من قبل قطر، والتضامن معها أمام حملة التنمر الأوروبية، والتي حاولت فرض قيم غربية مرفوضة من بقية العالم مثل مسألة دعم المثلية رغم أن هذه الدول لم تنتقد روسيا في هذا الملف عام 2018 علماً بأنها تحظر المثلية.
كان واضحاً أن تنظيم دولة عربية للمونديال، وهي دولة تستضيف ملايين المغتربين العرب له قد خلق روحاً عربية للمونديال وعزز مشاعر التضامن العربي التعبة من الأزمات المتتالية، وزاد هذا التضامن بسبب الأداء الجيد نسبياً للمنتخبات العربية، الذي بدأ مع منتخب السعودية أمام الأرجنتين، وهزيمة تونس لفرنسا، ثم نجاح المغرب في تحقيق إنجاز غير مسبوق بالوصول، لدور الثمانية، كل ذلك يتم وسط احتفاء جمهور المونديال الذي جزء كبير من من المغتربين العرب بقطر بالمنتخبات العربية وفي أجواء عربية عابرة للحدود القطرية، تندمج فيها الأزياء الخليجية مع الأغاني المصرية وحماسة الجمهور المغربي، والتونسي واللهجات الشامية والعراقية واليمنية، كلهم يرفعون علم فلسطين، وكلهم رافضون للاستعلاء الغربي، بشكل جعل الفرق العربية تشعر أنها تلعب على أرضها، بينما شعرت كثير من الفرق الأوروبية بالعزلة في المونديال العربي، وهي عزلة فرضتها على نفسها باعتراف كثير من نقادها ولاعبيها.
ولا يمكن استبعاد أن فورة المشاعر العربية المتضامنة مع قطر والمنتخبات العربية جذورها تعود لرد فعل على موجة الهجوم على الإسلام والعرب في كثير من دول العالم، خاصة أوروبا، وهي الموجات التي باتت فجة في ازدواجية معاييرها، وفي غطرستها، الذي بدت واضحة في التعامل مع القضية الفلسطينية وحتى في فارق التعامل مع مونديالي روسيا وقطر.
حيث ظل قطاع كبير الرأي العام بالغرب، خاصة في أوروبا، معجباً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل غزوه لأوكرانيا رغم أن الرجل لم يخفِ عداءه للاتحاد الأوروبي، ولكن تم التهوين من خطره، بينما تتركز المشاعر السلبية على العرب، الذين لعب مهاجروهم دوراً كبيراً في تنمية الاقتصادات الأوروبية، والآن تسارع دولهم مثل قطر والجزائر ومصر لإنقاذ أوروبا من أزمة الغاز، ولكن لا يسلمون من الغطرسة الأوروبية.
أدت هذه الازدواجية الفجة لاستفزاز مشاعر حتى أكثر العرب انبهاراً بالغرب أو حتى هؤلاء الذين لا يأبهون بفكرة القومية العربية أو يتبنون أيديولوجيات شوفينية محلية.
بدت المواقف العنصرية الغربية وخاصة أوروبا تستهدف العرب جميعاً، لا فرق بين غني أو فقير، لاجئ أو سائح، علماني أو إسلامي، متدين أو متحرر.
المفارقة أن الولايات المتحدة التي كانت دوماً معقلاً لتأييد إسرائيل والعداء للعرب والمسلمين تتخلى تدريجياً عن هذا المنحى عبر صعود لافت للمرشحين العرب في الانتخابات، وتحول القضية الفلسطينية وانتقاد إسرائيل من مسألة محرم التطرق لها، إلى مسألة قابلة للنقاش ومحل خلاف، ولو أن انتقادات النائبة الأمريكية المسلمة إلهان عمر لإسرائيل قيلت في ألمانيا أو ألمانيا لحوكمت بتهمة معاداة السامية.
نجاح بعض العرب رسالة لجميعهم على أن مآسيهم ليست قدراً حتمياً
على الجانب الأخر، كانت النجاحات العربية في المونديال، لاسيما النجاح القطري في التنظيم، والسعودي في مباراة الأرجنتين، والنجاح المغربي في الصعود لربع النهائي، رسالة لبقية الشعوب العربية أن الأزمات والإخفاقات ليست قدراً مسلطاً عليهم، وأنهم لو توفرت لهم الإمكانيات والقيادة لحققوا إنجازات مثلهم مثل غيرهم.
وهذا أمر عرفه التاريخ العربي على الدوام. كان نجاح دولة في مقاومة الاستعمار ملهماً للآخرين، وعندما قامت ثورة يوليو/تموز 1952 في مصر، ألهمت موجة من ثورات الضباط أو الإنقلابات العربية التي أرادت السير على نهجها القومي الاشتراكي.
وعندما قامت ثورة تونس في عام 2011، ألهمت ثورة يناير في مصر، ومن ورائها موجة من ثورات الربيع العربي، التي تشابهت في مساراتها بشكل لافت، من تحولها لفورة عاطفية قوية، إلى التخبط والتراجع ثم الهزيمة أمام حلف الثورة المضادة الذي كان لديه وعي كبير، (وللمفارقة) بإن العالم العربي جسدٌ واحدٌ إذا ثار منه عضو تداعى له باقي الجسد بالتأييد والحماس؛ ولذا توحدت قوى الثورة المضادة في العالم العربي على اختلاف أيديولوجيتها لمنع عدوى الديمقراطية بالمنطقة.
وفي ظل هذه الأزمات بالمنطقة لم يكن غريباً أن يكون أكثر الفرحين بالفوز المغربي وقبله السعودي، هم الأكثر تضرراً من المحن والبعيدين عن أوطانهم، وهم اللاجئون من فلسطين وسوريا، المعزولون في مخيمات اللجوء الكئيبة ، وكذلك المهاجرون العرب في الأقطار المختلفة الذين يشعرون أكثر من بني أوطانهم بالقرب الفطري بين البلدان العربية من خلال علاقاتهم الوثيقة ببعضهم البعض في المهجر، وهذه المشاعر العربية الفطرية تزداد رسوخاً جراء معاناتهم المشتركة من محنة التنمر في الغربة.