خلال الأشهر التسعة الأولى من 2022، استوردت أمريكا من الصين منتجات بأكثر من 418 مليار دولار، وهو رقم تاريخي لم يتحقق من قبل، فكيف يتفق ذلك مع الصراع الجيوسياسي بين القوتين الأعظم حالياً؟
فالصين وأمريكا هما القوتان الأعظم على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وكانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، مما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
عام قياسي للتبادل التجاري بين الصين وأمريكا
كان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد شن حرباً تجارية ضد الصين، ثم جاءت إدارة جو بايدن لتسير على الدرب نفسه، وأصدر الرئيس قرارات تحظر توريد منتجات تقنية أمريكية متطورة إلى بكين، أبرزها أشباه الموصلات المتقدمة، كما واصل رفع شعار "صُنع في أمريكا" الهادف إلى تقليص الاعتماد على الصين في حلقات سلسلة الإمداد الأمريكية تحديداً.
ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الصورة العامة، التي تغلّفها التصريحات السياسية النارية من الجانبين، إلى تقليص- ولو متدرج- في حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا، خصوصاً أن هذه السياسات الأمريكية ممتدة منذ سنوات، وبالتحديد منذ عام 2019.
كان عام 2018 قد شهد الرقم الأعلى على الإطلاق في حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا، حيث استوردت واشنطن بضائع صينية بأكثر من 396 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من ذلك العام، وبالتالي من الطبيعي أن يكون هذا الرقم القياسي قد بدأ يشهد انخفاضاً خلال السنوات الماضية.
لكن وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تقريراً يحمل مفاجأة "غريبة"، إذ يظهر أن أحجام التبادل التجاري بين الغريمين خلال الأشهر التسعة من هذا العام (2022)، قد حققت قفزات واضحة. فالصادرات الصينية لأمريكا تخطت 418 مليار دولار خلال الفترة من 1 يناير/كانون الثاني إلى 30 سبتمبر/أيلول.
فرغم كل الحديث الدائر عن الجائحة وتحويل مسار سلاسل التوريد عن الصين ونقل المصانع منها، فإن قيمة البضائع الصينية التي اشترتها الولايات المتحدة أعلى مما كانت عليه في أي وقت مضى.
كما حققت قيمة الصادرات الأمريكية إلى الصين هذا العام مستويات شبه قياسية أيضاً. ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، أرسلت الشركات الأمريكية 108.8 مليار دولار من البضائع إلى الصين مقابل 105.6 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2021، آخِر عام قياسي.
وهذه الزيادة الكبيرة في الواردات الأمريكية جاءت رغم التعريفات التي فرضها ترامب والتي كان يُفترض أن تغير شكل العلاقة الاقتصادية، ودون أي تأثير واضح على التوظيف في الولايات المتحدة.
والمقصود هنا هو أن الميزان التجاري بين بكين وواشنطن يصب في صالح الأولى بشكل كبير، وهذه النقطة بالتحديد هي ما بنى عليه ترامب استراتيجيته في شن الحرب التجارية على الصين، واصفاً العلاقة بأنها "اغتصاب صيني للاقتصاد الأمريكي".
لماذا تناقض حركة الاقتصاد ما يقوله السياسيون؟
الأمر إذاً مثير للاهتمام بالنظر إلى أنه في السنوات الست التي انقضت منذ شن دونالد ترامب هجومه التجاري على الصين، كان الخطاب المهيمن هو الفصل بين أكبر اقتصادين في العالم. ويشير الخطاب السائد في الآونة الأخيرة، إلى أن العالم يعيش فترة تفكك عصر العولمة المفرطة، وأن العالم مشغول بإعادة تنظيم نفسه حول أقطاب جيوسياسية تتركز على واشنطن وبكين.
والقصة هنا تتعلق بالنظام العالمي نفسه، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة منذ انتهاء الحرب الباردة الماضية وتفكك الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 3 عقود. فالصين، وحليفتها روسيا ودول أخرى كثيرة، ترفض هذا النظام وتريد تغييره، لكن أمريكا وحلفاءها الغربيين يسعون إلى المحافظة عليه، حتى رغم عيوبه التي يعترفون بها، أو بمعنى أدق تريد واشنطن أن تلعب الدور المهيمن في إعادة تشكيل أي نظام بديل.
وفي هذا السياق، تناقض البيانات التجارية الخاصة بهذا العام الخطاب السياسي وحتى الاستراتيجية الجيوسياسية نفسها، كما يتعارض الارتفاع القياسي في الصادرات الأمريكية من الصين مع ما كان أنصار الحمائية الأمريكية يجادلون به على مدى سنوات.
ففي الواقع، واستناداً إلى أرقام الوظائف لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، تمكنت الولايات المتحدة من إضافة 379 ألف مركز تصنيع ضخم عام 2022 رغم كل هذه الواردات الصينية.
ويمثل هذا التغيير في ملامح نظام التجارة العالمي ما يشبه "عولمة جديدة"، تعمل فيها الشركات متعددة الجنسيات على تعديل شبكاتها التجارية لاستيعاب التحديات الاقتصادية والجيوسياسية الجديدة.
وسلاسل التوريد قد تصبح أكثر قوة، وربما أكثر تكلفة بسبب قلة الكفاءات والقرب الجغرافي، لكنها ستصبح أكثر موثوقية في الوقت نفسه بفضل تخفيف الضغوط من الخصوم الاستراتيجيين، بحسب تقرير بلومبرغ.
وقدمت الوكالة الأمريكية سبع طرق يمكن أن تعيد بها القوى التجارية الكبرى في العالم تشكيل علاقاتها التقليدية، من بعض التحولات الهامشية، وربما المؤقتة إلى ما قد يكون بدايات عمليات إعادة التنظيم الهيكلية طويلة المدى.
ما مدى تأثير السياسة على حركة التجارة والمال؟
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شهدت شركات التصدير بالمملكة المتحدة تغيرات كبيرة في قدرتها على التجارة مع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي. ويقدر مرصد سياسة التجارة في المملكة المتحدة أن صادرات المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي انخفضت بنسبة 14% بعد دخول اتفاقية التجارة والتعاون بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ في 1 يناير/كانون الثاني عام 2021. وتضررت قطاعات معينة- مثل صناعة الأزياء في المملكة المتحدة- أكثر من غيرها بالتعريفات والأنظمة العابرة للحدود والإجراءات الجمركية الأخرى.
وبعد التأثير الذي ألحقته الجائحة بسلاسل التوريد العالمية، حث صناع السياسة الأمريكيون الشركات على دراسة طرق لتعزيز سلاسل توريدها وتقليل الاعتماد الاقتصادي الأمريكي على الصين والأنظمة الأخرى المنافسة لواشنطن. وأدى دعم إدارة بايدن للإنتاج والتصنيع "في الدول الصديقة" بشكل مطرد إلى زيادة التجارة الأمريكية بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في أوروبا.
وتظل الولايات المتحدة أهم سوق تصدير للصين. على أن العقوبات والتعريفات الجمركية وقيود التصدير الأمريكية تشجع الشركات الصينية على تنويع وجهات تصديرها وتوسيع الأسواق غير الأمريكية، لا سيما في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وإنشاء الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تضم 15 دولة، سيؤدي إلى تسريع اتجاه التأقلم مع الأوضاع الجديدة من جانب الصين في السنوات المقبلة.
وأدت العقوبات الأمريكية وقرار إدارة بايدن إلغاء أبسط حقوق منظمة التجارة العالمية لروسيا إلى قطع العلاقات الاقتصادية الأمريكية مع روسيا. ونتيجة لذلك، تراجع حجم السلع في تجارة روسيا مع الولايات المتحدة مقارنة بخصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين السابقين مثل العراق.
وهدف الصين المتمثل في "ضم" جزيرة تايوان يتسبب لها في خلافات مع شركائها التجاريين. وأصبحت ليتوانيا أبرز مثال على ذلك عام 2021، حين فتحت سفارة لتايوان في فيلنيوس. وأثار ذلك رد فعل عنيف من جانب بكين وأدى إلى انخفاض بنسبة 75% في الصادرات الليتوانية إلى الصين. وفي السنوات الأخيرة، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا في اتخاذ إجراءات ضد الصين.
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان، كدولة مستقلة، سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، زادت ألمانيا بالفعل وارداتها من روسيا لتأمين الوصول إلى السلع الحيوية قبل دخول قيود الاتحاد الأوروبي على الصادرات حيز التنفيذ. وتراجعت الواردات الألمانية من السلع الروسية الآن بنحو 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
ومخاوف واشنطن من قدرة الصين التصنيعية لأشباه الموصلات أحدثت تحولاً هائلاً في طريقة إنتاج الشركات للرقائق اللازمة لمنتجات مثل السيارات والثلاجات والطائرات العسكرية والصواريخ. وعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، ستنفق شركات أشباه الموصلات مجتمعةً أكثر من 110 مليارات دولار لبناء مصانع جديدة لأشباه الموصلات خارج الصين، وفقاً لشركة كوين Cowen.
الخلاصة هنا هي أن السياسة وتحولاتها، وهو أمر طبيعي ومستمر طوال الوقت، قد لا تنعكس على حركة المال والتجارة، أو على الأقل قد لا يحدث ذلك التحول بنفس سرعة وحدة التحولات السياسية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، ربما لا يكون الهدف الأمريكي المعلن بالانفصال عن الصين اقتصادياً، كجزء رئيسي من استراتيجية "الاحتواء" ووقف النمو الصيني، أمراً يسيراً كما يتصور السياسيون الأمريكيون، نظراً إلى ما تمثله الصين من سوق شاسع ومصنع "عالمي" ضخم، تجني منه الشركات الأمريكية الكبرى ورجال الأعمال أرباحاً طائلة.