"انهارت الإمبراطورية السوفييتية لأنها لم تعد تستطيع قهر الأمم التي تريد أن تكون سيدة، لكن هذه الأمم أصبحت الآن أقل سيادة من أي وقت مضى. لا يسعها اختيار اقتصادها ولا سياستها الخارجية ولا حتى شعارات إعلاناتهم".
اليوم انكسر العالم وانشطر، ويقف البشر جميعاً مشاهدين كيف ستستقر أجزاؤه، وما هي شروط العالم الجديد. فمع اشتعال الحرب في الميدان الأوكراني تصاعدات وتحررت صراعات كامنة في كل مكان في العالم.
فلم تستطع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عزل روسيا وتأديبها على ما تفعله بحق جارتهم الأوروبية، فعزل دولة بحجم روسيا ليس كعزل جزيرة مثل كوبا أو دولة مثل كوريا الشمالية وإيران.
ويبدو أن خريف الإمبراطورية التي ادعت أنها نهاية التاريخ بدأ في الأفول، فالعديد من الشواهد يوحي بأن النظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية هو الذي قد يكون تغير، فلأول مرة منذ عقود تعود الجارة الأمريكية إلى الحكم الاشتراكي نهاية من دا سيلفا في البرازيل وحتى تشيلي وبيرو وأخواتهما.
الصين البعيدة جغرافياً عن قيادة النظام العالمي لم تعد بعيدة عن التغير الذي أصاب النظام نفسه، فبكين باتت تظهر قواتها الغاشمة وتهدد هنا وهناك بعدما كان كل ما تود فقط إظهاره هو القوة الناعمة، الاقتصاد والوساطة والديون فقط.
إيران باتت مزعجة للنظام العالمي أكثر من اللأزم هكذا يبدو الأمر.. بدايةً من الملف النووي وحتى المشاركة بطائرات مسيّرة في الحرب الروسية على أوكرانيا.
وعلى الضفة المقابلة لم تعد دول الخليج ترهن قرارها السياسي والاقتصادي بتوجيهات واشنطن، بل باتت تبحث هذه العواصم عن مصالحها الاقتصادية، ثم السياسية والأمنية.
تركيا الطامحة للخروج عن الهيمنة العالمية لا تترك مناسبة دون أن تقول إنها تحاول، فعلتها في أذربيجان وسوريا وليبيا والآن تفعلها بالتوسط بين الغرب وروسيا لحل الأزمة التي علق فيها العالم كله تقريباً بدخول بوتين أوكرانيا رغم كل التحذيرات.
بينما الخليج بقيادة السعودية يبدو أنه يريد إعادة صياغة علاقته مع واشنطن أو سيبحث عن بديل آخر لحمايته.
في هذا التقرير نرصد ماذا حدث في النظام العالمي الذي كان الجميع يظن أنه لا ولن يتغير، لكن يبدو أن هناك الكثير من التغيرات طالته وستطاله إما قريباً أو على الأقل ليس ببعيد.
الولايات المتحدة وأزمة الهيمنة
مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 ونهاية ما يُعرف بالحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة ومنفردة بقيادة العالم، "فقد انتصرت القيم الغربية والرأسمالية"، وها هي تكتب نهاية سعيدة للتاريخ. لدرجة أن تحمّس أحد أهم مفكري المحافظين الجدد في أمريكا (فرانسيس فوكوياما) وكتب عام 1992 كتاباً بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وطرح من خلاله فكرة أن جميع الأيديولوجيات وجميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ستتلاشى لصالح الديمقراطية الليبرالية والقيم الغربية التي تتزعمها أمريكا، ليبلغ بذلك قطار التاريخ محطة الأخيرة.
فلا يمر أكثر من ثلاثة عقود حتى يتعرض كتاب فوكو ياما وأفكاره للنقد الشديد وحتى السخرية، فمع اشتداد وطأة الحرب الأوكرانية وارتفاع حصيلة الدم في سوريا، بدا أن أفكار فوكوياما عن نهاية التاريخ والهيمنة الأمريكية المطلقة قد شهدت نهايتها.
الدولة الأقوى والأغنى والأكثر استقراراً والأكثر تطوراً تتهاوى بالتدريج
هجمات 11 سبتمبر وما تلاها من إعلان حرب غير مدروس على أفغانستان كان أول المؤشرات على التراجع الأمريكي، فقد بينت الهجمات أن الحصانة التي كانت تتمتع بها أمريكا داخلياً يمكن اختراقها وتوجيه ضربات مؤلمة إلى معقل الدولة الأقوى في العالم.
كشف ذلك عوار أسطورة الأمن الأمريكية بشكل عام، حيث لم يكن يخفى على أحد أن تنظيم القاعدة أعلن الحرب على أمريكا عام 1998، فقبل أن يتوجه التنظيم لمدينة نيويورك ليسقط البرجين، شن قبلها هجوماً كاسحاً على المدمرة الأمريكية كول في ميناء عدن عام 2000 مخلفاً 17 قتيلاً من قوات البحرية. بالإضافة إلى تفجيرين إرهابيين لسفارتين للولايات المتحدة عام 1998 في كل من تنزانيا وكينيا راح ضحيتهما 270 شخصاً.
ولتدارك الموقف في ظل تراجع القدرات الأمريكية الاستخباراتية، أعلنت الإدارة الأمريكية الحرب على أفغانستان لتدخل بمحض إرادتها في مستنقع أفغاني، ظلت قابعة فيه لمدة 20 عاماً لتخرج في الأخير منسحبة مسلمة السلطة لحركة طالبان المدرجة على قوائم الإرهاب.
ثاني المؤشرات كانت غزو العراق، فبدون أي عقلانية وبعدوانية تفوق العدوانية الروسية اليوم، مدفوعة بكبرياء الإمبراطورية والهيمنة، تجاهلت عدم موافقة مجلس الأمن على قرار الغزو، لتسقط العاصمة بغداد في التاسع من أبريل/نيسان 2003.
كلف قرار غزو العراق خسائر بشرية قُدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين.
تلك الحرب كانت كارثية على الولايات المتحدة واقتصادها وموقعها ودورها، وكادت أن توصل البلاد عام 2008 إلى حافة الانهيار الاقتصادي، بجانب أنها ساعدت في زيادة نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، فبعد إسقاط النظام وتدمير الدولة العراقية، صارت حديقة خلفية للمد الشيعي والميليشيات الإيرانية والداعشية.
ثالثاً: الحضور الباهت في سوريا، فبعد الانسحاب من العراق في عام 2011، حاولت الولايات المتحدة أن تتلافى أخطاءها فتركت وراءها فراغاً ملأته روسيا وإيران وتركيا، وأصبح الوجود الأمريكي دون أي أثر أو فاعلية تذكر، غير دعم هشّ للأكراد الذين لا يتفق على وجودهم أي من القوى الفاعلة في سوريا.
رابعاً وليس آخرها عام 2017 عندما سمحت الدولة والإمبراطورية المصابة بخسائر جمة على الصعيد العسكري والاقتصادي والإنساني، أن يترأسها رئيس شعبوي لا يحمل أي أفكار تستحق النظر، غير وعود انتخابية فارغة تشبه وعود الفاشين " "اجعل أمريكا عظيمة مجدداً".
فشلت الولايات المتحدة في عهده في احتواء إيران أو الصين، واتبعت سياسة دعم الديكتاتوريات في الشرق، كنمط تتبعه أغلب الإمبراطوريات عند اقتراب السقوط.
ولتكتمل الصورة الدرامية، كشف تحقيق للمستشار الخاص روبرت مولر في عام 2019، يخلص إلى أن روسيا قد تدخلت "بشكل شامل ومنهجي" في الانتخابات الأمريكية.
أثناء إدلائه بشهادته أمام مجلس الكونغرس في يوليو عام 2019، ذكر مولر أن الرُّوس يواصلون التدخل في الانتخابات الأمريكية "بينما نجلس نحن هنا"، وأن "العديد من الدول الأخرى" قد طورت حملات تضليلية تستهدف الانتخابات الأمريكية، مبنية جزئياً على النموذج الروسي.
بالإضافة إلى كل هذا التراجع السياسي والأمني، فشلت الحكومة الأمريكية في عهده في التصدي لجائحة كورونا، فسقط أكثر من ربع مليون مواطن ضحايا لسياسة الرئيس الشعبوية، ما أساء لسمعة الولايات المتحدة كدولة تهتم بالإنسان.
وفي مشهد لم تشهده إمبراطورية الديمقراطية من قبل، في يوم السادس من يناير/كانون الثاني 2021 عندما اقتحم أنصار ترامب مقر الكونغرس الأمريكي وأعلنوا رفض نتائج الانتخابات لمحاولة فرض ترامب رئيساً لدورة ثانية.
العالم كان يراقب ويكاد لا يصدّق أن الولايات المتحدة، أعرق الديمقراطيات في العالم تسقط في تصرف أقرب إلى الدول الديكتاتورية والأحزاب الشمولية. لتؤكد بذلك بداية غروب شمس الإمبراطورية وزعزعة هيمنتها.
الصين وأنياب التنين.. الانتقال من السياسة الناعمة إلى الخشنة.. الهيمنة على الطريقة الشرقية
فمع التراجع الأمريكي كانت الصين تنطلق نحو قمة الهرم الاقتصادي في العالم. فليس من المستغرب أن السؤال الذي يجذب الآن اهتماماً تحليلياً أكثر من أي سؤال آخر هو صعود الصين في عهد شي جين بينغ والتحدي الذي تمثله للقوة الأمريكية على الساحة الدولية.
ففي تحليل نُشر لمدير الشؤون الصينية في مجلس الأمن القومي لإدارة بايدن، تحت عنوان "اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين الكبرى لاستبدال النظام الأمريكي".
اكتشف "دوشي" في تحليله ثلاث استراتيجيات يعتمد كلٌّ منها على تصوُّراتٍ متطوِّرة للتهديد الأمريكي. بدأت فترة العشرين عاماً الأولى بنهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج، وساحة تيانانمن في بكين، وكانت مُخصَّصة لتقليص مصادر القوة الأمريكية.
ثم بعد الانهيار المالي في عام 2008، تحوَّلَت بكين، التي كانت واثقةً من أن النموذج الأمريكي معيب، وابتعدت الصين عن فرض نفوذها بالقوة الخشنة وحوَّلَت تركيزها لتدشين مشاريع اقتصادية عالمية، تعمل كجزء من استراتيجية تتجاوز بها القوى الغربية وتقوّض مجال هيمنتها ونفوذها تدريجياً.
ولمزيد من التفاصيل يرجى الضغط هنا