أرسلت بريطانيا قوات إلى مالي قبل عامين للمشاركة في عمليات حفظ السلام في منطقة الساحل الإفريقي، فلماذا قررت سحب تلك القوات وترك المستعمرة الفرنسية السابقة ساحة نفوذ روسية بالكامل؟
كانت فرنسا قد أعلنت، في فبراير/شباط الماضي، الانسحاب من مالي بشكل نهائي. إذ أصدرت فرنسا والدنمارك والسويد وكندا بياناً قالوا فيه إنهم قرروا البدء في الانسحاب العسكري المنسق من مالي.
وجاء في البيان: "بسبب مواجهة العديد من العقبات من قبل السلطات الانتقالية في مالي، فإن كندا والدول الأوروبية التي تعمل جنباً إلى جنب مع عملية برخان ومع مهمة تاكوبا، ترى أن الظروف السياسية والتشغيلية والقانونية لم تعد مواتية لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعال لمحاربة الإرهاب في مالي".
روسيا توسع نفوذها عبر "فاغنر"
مالي واحدة من المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، وكانت باريس تتمتع بنفوذ هائل في البلد الإفريقي الغني بموارده المتنوعة؛ لكن ذلك النفوذ الاستعماري الفرنسي تحول إلى عداء شعبي متصاعد، لتشهد مالي انقلابين عسكريين في أقل من عام، الأول كان لصالح باريس والثاني ضدها.
ففي أغسطس/آب 2020، أطاح العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد، وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة العام الجاري 2022، وفي ذلك الوقت تريَّث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أن يعبر عن موقف باريس من الانقلاب، الذي قامت به مجموعة موالية لفرنسا.
لكن في صيف 2021، قام الكولونيل آسيمي غويتا -كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي- باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، فلم يتأخر ماكرون دقيقة واحدة، وأعلن على الفور إدانته "وبأكبر قدر من الحزم" ما وصفه بأنه "انقلاب داخل الانقلاب"، وطالب بالإفراج الفوري عن نداو ومختار وان و"باستئناف المسار الطبيعي للعملية الانتقالية فوراً".
لكن مرت الأيام والأسابيع والشهور ولم يتحقق لماكرون ما أراد، بل تواصل التدهور في العلاقات بين باريس وباماكو، ووصل إلى حد التلاسن وتبادل الإهانات، ثم طرد السلطات في مالي للسفير الفرنسي لديها، وهو تصرف حاد لم يكن أحد يتصور إمكانية حدوثه بالنظر إلى التاريخ الاستعماري والنفوذ الضخم لفرنسا.
وبالطبع لم تكن القصة محصورة بين فرنسا ومالي فقط، فالطرف الثالث كان له دور كبير حتى وإن لم يكن حاضراً بشكل رسمي، والمقصود هنا هو روسيا، التي تسعى منذ سنوات لأن تحل محل فرنسا في الساحل الإفريقي. وكان الإعلان عن تعاقد قادة الانقلاب في مالي مع مجموعة فاغنر الروسية لتحل محل الجيش الفرنسي في توفير التدريب للجيش المالي بمثابة الضربة القاصمة لوجود فرنسا في مالي.
ويوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أعلنت بريطانيا سحب قواتها البالغ عددها 300 جندي من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، بدعوى اعتماد باماكو على قوات فاغنر الروسية.
كانت مشاركة بريطانيا في البعثة قد بدأت أواخر 2020، وكان من المقرر لها أن تنهي مهامها أواخر 2023، لكن وزير الدفاع البريطاني لم يذكر تاريخاً محدداً لانسحاب قواته من مالي.
الانسحاب البريطاني، سبقه إعلان التشيك انسحابها في 4 نوفمبر/تشرين الثاني وعدم التمديد لقواتها المشاركة في العملية "تاكوبا" والتي تنتهي مهامها في ديسمبر/كانون الأول القادم، وكذلك تلاه إعلان ساحل العاج سحب قواتها.
لماذا تركت بريطانيا مالي للروس؟
ألقى تحليل لموقع "أسباب" الضوء على دوافع وتبعات قرار الانسحاب البريطاني من مالي، والتي يبدو أنها لا تختلف كثيراً عن دوافع وتبعات القرار الفرنسي. فمالي تعيش اضطرابات داخلية حادة منذ عام 2012، وكانت فرنسا هي اللاعب الدولي الرئيسي هناك؛ حيث قادت عملية التدخل الدولي تحت لافتة إنهاء الاضطراب وتحقيق الاستقرار، إلا أن الوجود الفرنسي ومن خلفه الوجود الأوروبي والأممي لمدة 9 سنوات لم يحقق الهدف المرجو منه، وتفاقمت الخسائر الفرنسية والدولية خلال تلك الفترة.
فالسببان الرئيسيان للانسحاب الفرنسي هما تنامي حالة الرفض الشعبي في دول الساحل للوجود الفرنسي، وتزايد المطالب الداخلية في فرنسا بضرورة الانسحاب بعد تزايد أعداد القتلى في صفوف عملية برخان.
وكان رئيس أركان الجيوش الفرنسية قد ذكر نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، أن هناك رغبة في الانسحاب من الساحل بعد انتكاس عملية "برخان"، التي كبَّدت فرنسا مقتل 50 عسكرياً، وهو ما رفضه ماكرون وقتها، إلا أن تسارع الأحداث وتعاقد مالي مع قوات فاغنر سرّع من وتيرة اتخاذ القرار.
ومع بداية عام 2022، بدأت قوات فاغنر بشكل رسمي الانتشار في مالي لتقديم الدعم العسكري واللوجيستي لقوات الجيش، وفق اتفاق ينص على نشر 1000 مقاتل، نظير 10 ملايين دولار، والسماح لفاغنر بالتنقيب عن الذهب.
ومع مغادرة القوات الفرنسية والأوروبية حلت محلها قوات فاغنر، وعدد من المدربين الروس، وتلقت مالي مساعدات عسكرية روسية تنوعت بين رادارات مراقبة حديثة وطائرات هليكوبتر وأسلحة أخرى، كان آخرها في أغسطس/آب الماضي، إذ استلمت مالي 6 طائرات حربية روسية.
وعلى الرغم من أن بريطانيا بررت قرار انسحابها من مالي بأنه احتجاج على الوجود الروسي، إلا أنه قد يكون هناك سبب آخر يتمثل في خشية تعرض القوات البريطانية هناك للخطر بعد الانسحابات الأخيرة لكثير من الدول المشاركة في قوات حفظ السلام في مالي.
فعلى الرغم من أن ماكرون كان قد حاول تصوير قرار الانسحاب من مالي بأنه منسق مع الشركاء وأن هناك إجماعاً عليه، إلا أن مصادر بالجيش البريطاني كانت قد قالت لصحيفة التايمز إن القوات البريطانية المنتشرة في مهمة حفظ سلام في منطقة الساحل ستكون أكثر عرضة للهجمات نتيجة للانسحاب الفرنسي.
فالوجود العسكري البريطاني في مالي تحديداً، رغم أنه يرجع إلى عام 2013، إلا أنه كان مقتصراً على وجود نحو 40 فرداً لا يقومون بمهمات قتالية، بل ينحصر دورهم في مهام التدريب للجيش المالي، وتقديم الدعم اللوجيستي للقوات الفرنسية. ثم أرسلت بريطانيا نحو 300 من قواتها قبل عامين ضمن قوة أممية متمركزة في مالي.
ما تداعيات انفراد روسيا بالنفوذ في مالي؟
الوجود الروسي في مالي ليس جديداً على الساحة؛ إذ يتزايد الوجود الروسي في إفريقيا منذ 2015 كقوة تستطيع توفير بدائل عسكرية واقتصادية وسياسية، وفيما يتعلق بمالي، توجد اتفاقية دفاع مشترك بين مالي وروسيا يرجع تاريخها إلى عام 1994، أعيد تجديدها عام 2019، وفي 2016 وقعت مالي عقداً مع روسيا لشراء 4 طائرات هليكوبتر حربية، استلمت منها 2 من طراز Mi- 35M بين 2017 و2019.
ومن إجمالي 143 مليون دولار واردات مالي من الأسلحة ما بين عامي 2000 و2019، صدرت روسيا لها ما نسبته 16.1٪ (23 مليون دولار)، محتلة المرتبة الثانية، بينما حلت فرنسا في المرتبة السابعة بنسبة 5.6٪ (8 ملايين دولار).
وبينما يعاني الجيش المالي من ضعف تقني وعسكري ولا يتعدى عدد أفراده 10 آلاف جندي، فإن هذ الدعم الروسي يمثل بديلاً حيوياً للصمود أمام الهجمات المسلحة، وهو ما دفعه إلى عقد اتفاق مع قوات فاغنر الروسية أواخر عام 2021، لملء الفراغ الأمني، ولفرض توازن قوى يعزز عدم رضوخه للضغوط الفرنسية.
وأثّر انسحاب فرنسا بشكل سلبي على دور البعثة الأممية "مينوسما"، والتي يبلغ قوامها 14 ألف جندي، لذلك تتوالى الانسحابات لمعظم الدول المشاركة، حيث تعتمد القوات الأممية على الدعم الاستراتيجي واللوجيستي الفرنسي في حالة تعرضها لهجمات أو قيامها بتنفيذ مهام.
ومع غياب هذا الدور وتوتر علاقات المجلس العسكري مع البعثة الأممية وتزايد عدد القتلى من البعثة، علقت مصر مشاركة 1035 جندياً من قواتها في البعثة بشكل مؤقت في يوليو/تموز الماضي، وأعلنت كوت ديفوار الانسحاب التدريجي لقواتها حتى أغسطس/آب 2023، بعد اعتقال 49 جندياً من كوت ديفوار في باماكو في يوليو/تموز الماضي، ولم يُفرج سوى عن 3 منهم، لذا من المتوقع أن تنسحب البعثة الأممية بحلول يونيو/حزيران 2023 مع انتهاء التجديد الأخير لها، بحسب "أسباب".
وبالتزامن مع موجة الانسحابات هذه، قرر المجلس العسكري في مالي، في مايو/أيار الماضي، الانسحاب من جميع هيئات مجموعة دول الساحل الخمس، ومنها القوة المشتركة لمكافحة الإرهاب، احتجاجاً على رفض توليها رئاسة المجموعة، حيث تأخرت استضافة باماكو لمؤتمر قادة دول المجموعة الذي كان من المفترض عقده في فبراير/شباط 2022 برئاسة مالي، وسبق ذلك فرض المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي تسببت في ضغوط قوية على مالي.
الخلاصة هنا هي أن الانسحاب الغربي بهذه الوتيرة المتسارعة يمثل فرصة كبيرة لروسيا لتعزيز نفوذها العسكري والأمني، ليس فقط في مالي، ولكن في منطقتي الساحل وغرب إفريقيا عموماً، وهو حلم روسي قديم.
حيث تسعى موسكو عبر مرتزقة فاغنر للتموقع في المنطقة من جديد، مستغلة من أجل ذلك الانقلابات العسكرية وانتشار الجماعات المسلحة وتراجع نفوذ الدول الأوروبية، وهي عوامل باتت مواتية في مالي التي يجد مجلسها العسكري نفسه تحت ضغوط غربية وإقليمية متزايدة، تدفعه لزيادة الاعتماد الأمني على روسيا.
لكنّ الاستعانة بقوات فاغنر لن ينهي ما فشلت فيه قوات مهمة "برخان" و"تاكوبا" على مدار 9 سنوات؛ خاصة أن الاستنزاف الروسي في أوكرانيا يحد من قدرتها على توسيع وجودها العسكري خارج البلاد، وهو ما يظهر بالفعل منذ فبراير/شباط الماضي في عمليات سحب مقاتلي فاغنر من مناطق في إفريقيا مثل ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، لتلبية حاجة العمليات العسكرية في أوكرانيا، وهو الموقع الذي ولدت فيها أصلاً هذه المجموعة عام 2014 في إقليم دونباس.