كادت الأمور أن تخرج عن السيطرة بسبب سقوط صاروخ على بولندا، وسارعت أوكرانيا بحثّ الناتو على تفعيل المادة الـ5 من ميثاق الحلف العسكري الغربي، لكن براءة روسيا من تهمة إطلاق الصاروخ نزعت فتيل الأزمة مؤقتاً، فعلامَ تنص تلك المادة؟
كان صاروخ قد انفجر، الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني، على قرية بولندية قرب الحدود مع أوكرانيا، مستهدفاً مخزناً للحبوب ومتسبباً في مقتل شخصين، لتتوتر الأمور بصورة خطيرة، ويشهد العالم ما يمكن وصفها بأخطر 24 ساعة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
والسبب هو أن بولندا، المجاورة لأوكرانيا، هي إحدى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن ثم فاستهداف أراضيها بصاروخ يمثل استهدافاً للحلف العسكري الغربي، ويستوجب رداً على الدولة المعتدية.
ماذا تقول المادة الـ5 من ميثاق الناتو؟
تنص المادة الـ5 من الميثاق التأسيسي للحلف على أن الدول المشاركة في معاهدة الناتو "تتفق على أن أي هجوم مسلح على عضو أو أكثر من دول الحلف في أوروبا، أو أمريكا الشمالية، يُعامل معاملة الهجوم عليهم جميعاً"، ويجب حينها على كل دولة من أعضاء الناتو اتخاذ "الإجراء الذي تراه ضرورياً، ومنها استخدام القوة المسلحة، لاستعادة الأمن في منطقة شمال الأطلسي والحفاظ عليه".
وتتضمن المادة أيضاً تخويل التحالف بالرد العسكري، إلا أن الصياغة فضفاضة وتفسح المجال لأنواع أخرى من الرد.
لم يفعَّل بند الدفاع الجماعي للناتو إلا مرة واحدة، وهي المرة التي أعقبت الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وتضمن الأمر بعد ذلك نشر قوات تابعة للناتو في أفغانستان.
يُشار إلى أن أوكرانيا ليست من دول الناتو، إلا أن رغبتها العلنية في الانضمام إلى الحلف أثارت غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يرى أن توسع الناتو نحو الشرق يمثل تهديداً وجودياً لبلاده.
وهذه القصة ترجع جذورها إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما اتفق ميخائيل غورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق، مع نظيره الأمريكي جورج دبليو بوش، الرئيس الأمريكي الأسبق، على أن حلف الناتو لن يتوسع في شرق أوروبا "بوصة واحدة".
لكن الناتو توسّع مئات الكيلومترات وليس البوصات، وضم كثيراً من دول أوروبا الشرقية، التي كانت أعضاء في حلف وارسو السوفييتي، ومنها دول البلطيق وبولندا ذاتها، التي كانت مقراً للحلف العسكري السوفييتي.
سعى بوتين إلى الحصول على ضمانات أمريكية ملزمة بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف الناتو، لكن الرئيس جو بايدن رفض ذلك، واستمر برميل البارود يتشكل على الحدود الروسية-الأوكرانية، حتى يوم 24 فبراير/شباط الماضي، عندما بدأت الحرب، التي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو غير مبرر".
ولأن الحرب في جوهرها هي صراع جيوسياسي محتدم بين الناتو وروسيا، فإن خروج نطاق العمليات العسكرية عن حدود أوكرانيا، وانتشارها إلى مناطق أخرى في أوروبا، وحتى خارجها، أو تحوّل الحرب التقليدية إلى مواجهة نووية، تظل احتمالات قائمة، وتضع مصير العالم بأسره على المحك.
لماذا لم يفعّل الناتو المادة الـ5 بشأن انفجار بولندا؟
نشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً عنوانه "لماذا لم يُناقش تفعيل المادة الـ5 من معاهدة الناتو بعد الانفجار الصاروخي في بولندا؟"، رصد الأسباب التي أسهمت في نزع فتيل الأزمة سريعاً، والسوابق التاريخية التي فعّلت فيها نفس المادة.
كي يتم تفعيل المادة الـ5 من ميثاق الناتو، لا بد أن تقدم الدولة التي تعرضت للاعتداء أدلة تثبت تورط الجهة أو الدولة التي تقف وراء الاعتداء، ويُجيز ذلك لأي دولة من الدول الأعضاء المطالبة بتفعيل المادة الـ5، إلا أن السلطات البولندية لم تقدم معلومات من هذا القبيل، وأكد مسؤولون أمريكيون وأوروبيون مساء الثلاثاء، 15 نوفمبر/تشرين الثاني، أنهم ما زالوا يجمعون المعلومات بشأن ما حدث، وأن التنسيق جارٍ بين الحلفاء.
لكن الأربعاء، 16 نوفمبر/تشرين الثاني، خلصت اجتماعات الناتو إلى ما كان بايدن قد لمّح إليه مساء الثلاثاء، وهو أن روسيا بريئة من إطلاق الصاروخ، وأن من أطلقه هو أوكرانيا.
لكن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، أصر مساء الأربعاء على أن روسيا هي من تتحمل "المسؤولية في نهاية المطاف" عن الحادث في بولندا، بغض النظر عن الجهة التي أطلقت الصاروخ.
وقال أوستن، في مؤتمر صحفي، بجانب رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي في مبنى البنتاغون، إن "الحادث المؤسف والمأساوي يذكرنا مجدداً بتهور روسيا في الحرب التي اختارتها"، وأضاف أن أوكرانيا لها حق أساسي في الدفاع عن نفسها، وسنواصل التضامن مع شعب أوكرانيا في الدفاع عن بلادهم"، بحسب الأناضول.
بدوره، قال ميلي إن روسيا أطلقت نحو 100 صاروخ الثلاثاء، فيما كان "على الأرجح" أكبر وابل من الضربات الصاروخية، منذ أن بدأت الحرب، وأضاف أن نحو ربع سكان أوكرانيا المدنيين بدون كهرباء الآن. وتابع أن روسيا "تفرض حملة إرهاب، وهي حملة من المعاناة القصوى، على السكان المدنيين الأوكرانيين، من أجل هزيمة معنويات الأوكرانيين".
وأقر ميلي بأن إمكانية قدرة أوكرانيا على تحقيق نصر عسكري "في أي وقت قريب" ضد روسيا "ليست عالية"، قال إن احتمال التوصل لحل سياسي يؤدي إلى انسحاب روسي كامل "أمر ممكن".
قصة الصاروخ الذي انفجر في بولندا لم تنته إذاً على ما يبدو، والأقرب للحدوث بعد ذلك، وإن لم يكن مؤكداً بعد، أن تطالب بولندا بتفعيل المادة الـ4 من معاهدة تأسيس الناتو، والتي تُتيح للدول الأعضاء عرض أي قضية مثيرة للمخاوف، خاصة إذا كانت تتعلق بأمنها، للمناقشة في مجلس حلف شمال الأطلسي، أي هيئة صياغة القرارات السياسية للحلف. وتعطي تلك المادة فرصة لاجتماع الدول الأعضاء ومناقشة الخطوات التالية، بحسب واشنطن بوست.
أوانا لونغيسكو، المتحدثة باسم الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، قالت إن الأخير ترأس اجتماعاً لسفراء الحلف صباح الأربعاء، 16 نوفمبر/تشرين الثاني، في بروكسل، تمت فيه "مناقشة هذا الحادث المأساوي".
ومع أن سفراء دول الحلف الثلاثين يجتمعون بانتظام، يوم الأربعاء من كل أسبوع، فإن ستولتنبرغ وضع الجلسة تحت تصنيف البند الطارئ في جدول الأعمال.
ماذا تقول المادة الـ4 من ميثاق الناتو؟
حين بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا، أعلن الناتو عن تفعيل قوة الرد التابعة له لأول مرة في تاريخه. وهذه القوة هي وحدة متعددة الجنسيات تضم 40 ألف فرد من قوات العمليات البرية والجوية والبحرية والخاصة.
وتضمن تفعيل قوة الرد إرسال قوات إلى بلدان الناتو المتاخمة لروسيا وأوكرانيا، مثل رومانيا والمجر، سعياً إلى زيادة المجموعات القتالية المتمركزة بالفعل في دول البلطيق وبولندا.
في تصريحات أدلى بها وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، قال: "المادة الـ5 واضحة بشأن هذا الأمر: أي هجوم على دولة من دول الناتو هو هجوم علينا جميعاً. وأعيد ما قاله الرئيس (جو بايدن) من أن الولايات المتحدة تعدُّ هذا الأمر التزاماً مقدساً، وأننا سنفي بكل ما يتطلبه هذا الالتزام".
تنص المادة الـ4 من ميثاق حلف الناتو على أن دول الحلف "تتشاور معاً متى رأت أي دولة منها خطراً يتهدد سلامة أراضي إحدى الدول الأعضاء أو استقلالها السياسي أو أمنها".
وتورد البيانات المذكورة على الموقع الإلكتروني لحلف الناتو أن المادة تتضمن آلية تشاور بين الأعضاء "لتبادل الآراء والمعلومات، ومناقشة القضايا قبل التوصل إلى اتفاق واتخاذ إجراءات". وتمنح المادة "دوراً فعالاً للناتو في إجراءات الدبلوماسية الوقائية والمساعدة في تجنب الصراع العسكري".
أما المنتدى الأساسي لمثل هذه المناقشات فهو مجلس حلف شمال الأطلسي، أي هيئة صنع القرار السياسي في التحالف. واستُدعيت المادة الـ4 من ميثاق الناتو في 7 مناسبات منذ إنشائه عام 1949.
وفي الآونة الأخيرة، استخدمت لاتفيا وليتوانيا وبولندا وبلغاريا وجمهورية التشيك وإستونيا ورومانيا وسلوفاكيا المادة الـ4، للمطالبة بعقد اجتماعات للتشاور بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.
لا تتضمن المادة الـ4 إلزام الدول الأعضاء باتخاذ إجراءات معينة إذا تم تفعيلها، وإن كانت المداولات قد تؤدي إلى قرار باتخاذ إجراء مشترك لحلف الناتو. وكانت تركيا، على سبيل المثال، استدعت تفعيل المادة الـ4 في عام 2015، بعد مقتل ما يزيد على 30 شخصاً في تفجير انتحاري بالقرب من حدودها مع سوريا.
وقالت الحكومة التركية آنذاك إنها أرادت إبلاغ حلفائها في الناتو بالإجراءات المتخذة رداً على الهجوم. وأصدر مجلس الحلف عقب اجتماعه بياناً قال فيه إن أعضاء المجلس "يدينون بشدة الهجمات الإرهابية ضد تركيا"، لكن الحلف لم يتخذ أي إجراء رسمي آخر في هذا السياق.