أثار دور الجيش المصري في الاقتصاد جدلاً كبيراً خلال السنوات الماضية، ولكن جاء قرار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخراً بـ"طرح شركات الجيش في البورصة" ليعيد تسليط الضوء على هذا الملف، ويثير تساؤلات حول: إلى أي مدى يمكن أن يُسهم القرار في حل الأزمة الاقتصادية بالبلاد، وكيف سينعكس ذلك على دور الجيش في اقتصاد البلاد؟
وأعلنت الرئاسة المصرية أن السيسي عقد اجتماعاً، الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لمتابعة موقف طرح الشركات التابعة للقوات المسلحة في البورصة، وتوسيع قاعدة ملكيتها، وجذب استثمارات القطاع الخاص، كما أعلن السيسي عن خطط لزيادة مشاركة القطاع الخاص في الشركات المملوكة للدولة في كلمة ألقاها مساء الثلاثاء.
كانت الحكومة قالت في وقت سابق إنها ستبيع حصص أقلية في 23 شركة حكومية، وستُدرج الشركات المملوكة للجيش في البورصة، لكن التقدم كان بطيئاً، بحسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
وسبق أن قال رئيس الصندوق السيادي المصري، أيمن سليمان، لموقع "الشرق مع بلومببيرغ" الاقتصادي، في 21 أبريل/نيسان، إن شركتين- شركة البترول الوطنية والمؤسسة الوطنية للمياه الطبيعية في سيوة، وكلاهما مملوكة للجيش- يجري إعدادهما للقطاع الخاص والعامة، للاكتتاب في البورصة المصرية قبل الصيف، ولكن لم يحدث ذلك.
ولكن يبدو أن الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا قد وفرت إحساساً جديداً بضرورة تنفيذ هذه المقترحات، حيث أجبرت أزمة أوكرانيا البلاد على خفض قيمة عملتها عدة مرات، وبنسبة كبيرة، طلباً للدعم من صندوق النقد الدولي.
انتقادات لدور الجيش في الاقتصاد.. إليك شهادة أشهر رجل أعمال بمصر
وجادل بعض المحللين ورجال الأعمال بأن النفوذ العسكري الآخذ في الاتساع في الاقتصاد قد أعاق بعض المستثمرين من القطاع الخاص والأجانب، بسبب مخاوف بشأن كيفية التنافس مع أقوى مؤسسة في البلاد.
وسبق أن اشتكى رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس، الذي ينتمي لأغنى عائلة في مصر، من عدم قدرة القطاع الخاص على منافسة شركات الدولة والجيش، والتي تستحوذ على أغلبية المشروعات، وقال إنها منافسة غير عادلة؛ لأن الشركات المملوكة للحكومة، أو التابعة للجيش، لا تدفع ضرائب أو جمارك، مؤكداً ضرورة أن تكون الدولة جهةً تنظيمية وليست مالكة للنشاط الاقتصادي.
وبموجب قوانين صدرت في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، تحصل شركات القوات المسلحة على إعفاء من رسوم الاستيراد، ومن ضريبة الدخل، ولكن تزايدت امتيازات شركات الجيش بشكل كبير بعد تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السلطة، حيث صدر عام 2015 مرسومٌ من وزير الدفاع، يعفي حوالي 600 فندق ومنتجع ومنشآت تُستخدم لهدف ربحي، مملوكة للقوات المسلحة، من الضرائب العقارية.
وصدر قانون ضريبة القيمة المضافة، عام 2016، مستثنياً القوات المسلحة وغيرها من المؤسسات الأمنية من دفع الضريبة المضافة، المقررة على السلع والمعدات والآلات والخدمات والمواد الخام اللازمة لأغراض التسلح والدفاع والأمن القومي، "ولوزارة الدفاع الحق في تقرير أي السلع والخدمات التي يسري عليها القانون".
وأغلب رجال الأعمال لا يمتلكون نفس النفوذ الخارجي والخارجي الذي يتوفر لدى ساويرس، لكي يجأروا بالشكوى مثله، رغم أنهم في الأغلب أشد معاناةً من المنافسة مع شركات الجيش.
وفي هذا الإطار تعرَّض مالك أكبر شركة منتجة للألبان في مصر، وهو صفوان ثابت، لاتهامات بأنه مموّل لجماعة الإخوان المسلمين، فجأةً عام 2021، وتم اعتقاله؛ أي بعد سبع سنوات من عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، بينما قالت منظمة العفو الدولية إن هذه الاتهامات وُجّهت بسبب رفض صفوان ثابت ابتزاز مسؤولين كبار؛ ولذلك عوقب بالقبض عليه، واتهامه وفق قانون الإرهاب.
ويمتلك الجيش المصري حالياً عشرات الشركات العاملة في مختلف القطاعات، بما في ذلك في قطاعات الصناعة والخدمات وإنتاج الغذاء والتعليم والعقارات وغيرها. وتعمل حوالي 60 شركة تابعة للجيش في 19 صناعة في مصر، من إجمالي 24 صناعة، وفقاً لما نقله موقع Al-Monitor عن دراسة أجرتها مجموعة البنك الدولي، في ديسمبر/كانون الأول 2020.
وجهاز مشاريع الخدمة الوطنية هو أحد المؤسسات التابعة لوزارة الدفاع، والتي تقدم المنتجات العسكرية والمدنية وخدمات المقاولات، وتعتبر الذراع الاقتصادية للجيش، وتدير وحدها أكثر من 30 شركة تعمل في مجالات البناء والمواد الغذائية والتعدين والبتروكيماويات.
لماذا أصبحت هناك حاجة ماسّة لإدراج وطرح شركات الجيش في البورصة؟
خرجت مليارات الدولارات في الأشهر القليلة الماضية، ويقول محللون إن ذلك يرجع جزئياً إلى هروب الأموال الساخنة منذ بداية حرب أوكرانيا، وأيضاً انعكاساً للمخاوف بشأن الديون الخارجية المتزايدة للبلاد، وهي الديون التي يعتقد أنها مولت التوسع الكبير في الاستثمار من قبل الدولة، ومن بينها شركات الجيش، في المجالات المشار إليها.
والآن مصر في حاجة للاستثمار الأجنبي، من أجل حل أزمتها الاقتصادية، التي أفقدت العملة نحو 60% من قيمتها، حيث تراجع الجنيه من نحو 15.5 للدولار قبل أزمة أوكرانيا إلى نحو 24.5 مؤخراً.
ويُعتقد أن الإعلان عن طرح شركات الجيش في البورصة يعد تلبيةً لشروط صندوق النقد، الذي انتقد مراراً توسع شركات الجيش وغيرها من الشركات الحكومية في الاقتصاد.
وقال وائل زيادة، الشريك الإداري لبنك الاستثمار زيلا كابيتال: "إن التعجيل بهذه الإجراءات الآن، وتكرار السيسي في كلمته للقطاع الخاص، وتأكيده على ضرورة تجديد البورصة وجعلها جذابة، يعني أن هذه الخطط تهدف إلى التعامل مع تداعيات الحرب الأوكرانية".
وقال السيسي إن الخصخصة الجزئية لأصول الدولة تهدف إلى جمع عشرة مليارات دولار كل عام، لمدة أربع سنوات، وإن الحكومة ستعد "خطة واضحة" لخفض الدين العام، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي وعجز الميزانية.
وقال يزيد صايغ، كبير المساعدين في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، لموقع "Al-Monitor" الأمريكي، إن طرح الشركات المملوكة للجيش في البورصة جزء من جهود السيسي العامة، لتخفيف العبء المالي للدولة، مع زيادة رسملة الشركات المملوكة للدولة، وزيادة السيولة بها.
هل يقبل القادة العسكريون والرأي العام بالفكرة؟
رغم أن توسيع مشاركة الجيش في الاقتصاد أمر لا يحظى بالشعبية في مصر، خاصة في أوساط الرأسماليين والمتخصصين الاقتصاديين، فإن طرح شركات حكومية للبيع في المقابل، سواء للأجانب أو مستثمرين محليين، أمر لا يحظى بشعبية أيضاً من قبل أطياف الرأي العام المصري.
كما أن هناك تقارير تتحدث عن تحفظ المؤسسة العسكرية على بيع شركات الجيش أو حصص منها، إلا أنه لا يمكن التأكد من صحة هذا الكلام في ضوء الطبيعة السرية والمركزية للجيش المصري، والتي تجعل من المستحيل أن يظهر أي فرد منه أي تبرم أو انتقاد علني، كما لا يعرف هل هذه الانتقادات المحتملة بسبب قلق مفترض على الأمن القومي من دور خارجي، أم قلق على مصالح قادة المؤسسة العسكرية، الذين يستفيدون- حسب مزاعم منتقديهم- من دور الجيش في الاقتصاد.
كيف سيكون أداء شركات الجيش في البورصة؟
تعاني البورصة المصرية من هبوط حاد في قيمة الأسهم وقيمة التداولات منذ سنوات، بدأ الأمر مع ثورة يناير 2011، حيث تراجعت البورصة بعد اندلاعها وانتعشت لفترة قليلة في عهد الإخوان، كما بدأت تتدهور منذ الإعلان الدستوري الذي صدر في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ومنذ ذلك الحين لم تستفق البورصة المصرية من كبوتها طويلة الأمد.
وحتى بعد تولي الرئيس السيسي السلطة، ونجاح مصر في المرور المؤلم من أزمة عام 2016، عبر التعويم الذي حمّل المصريين أعباء كثيرة، ولكنه أدى لاستقرار اقتصادي بعد ذلك، وتدفق قروض كبيرة وتحقيق معدلات نمو عالية، ولكن البورصة ظلت على حالها، وكان ذلك مؤشراً على تراجع دور القطاع الخاص في اقتصاد البلاد بشقيه الوطني والأجنبي، مقابل صعود دور شركات الجيش.
ولكن هل يؤدي قرار طرح شركات الجيش في البورصة لتغير في المشهد الاقتصادي المصري، سواء بالنسبة لتحسين أداء هذه الشركات أو انتعاش البورصة، أو جذب استثمارات أجنبية للاقتصاد تدخل البورصة.
الأمر يتوقف بشكل كبير على طبيعة الطرح، وإلى أي مدى سيتم تغيير الفلسفة الاقتصادية للبلاد السائدة منذ عام 2014، التي تقوم على هيمنة وقيادة شركات الجيش للاقتصاد، وإعطائها أفضلية واضحة على القطاع الخاص.
وأدى التعويم الأخير إلى انتعاش محدود للبورصة، وهو أمر طبيعي، لأن بعد انخفاض قيمة الجنيه أصبحت أسعار الأسهم مقوّمة بأقل من قيمتها، ويفترض نظرياً أن هذا سيجذب استثمارات أجنبية، لأن الأسهم المصرية أصبحت أسعارها مغرية إذا قومت بالدولار، ويزيد طرح شركات الجيش من هذا الاحتمال.
ولكن شركات الجيش تستعد للدخول إلى سوق الأسهم، في ظل حالة منافسة غير عادلة في سوق الأعمال.
وسيتوقف رد فعل البورصة على الأرجح حسب نسبة الأسهم المطروحة بسوق التداول، فلو كانت نسبة الأسهم أقل من 25% من رأس مال الشركة المدرجة، فستوفر المزيد من السيولة لهذه الشركات، ولن يتغير كثير من أسلوب إدارتها، حسبما قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبد المطلب في تقرير سابق لموقع قناة الجزيرة.نت.
أما إذا كانت النسبة فوق 50%، فبذلك ستتحول شركات الجيش من شركات اكتتاب مغلق إلى شركات عامة مفتوحة، وستؤول ملكيتها إلى مكتتبين، ما يعني تغيير طريقة وأسلوب الإدارة، حسب قوله.
وبالنسبة لتأثير طرح تلك الشركات بالبورصة على حجم التداولات اليومية، وثقة المستثمر الأجنبي بسوق المال المصري، أوضح عبد المطلب أن الأمر يتوقف على أسلوب إدارة البورصة نفسه.
وتابع "إذا خضعت كافة الأسهم لمعايير الكشف والإفصاح وغيرها من آليات عمل البورصات العالمية، فسوف تزيد قوة البورصة، وسيزيد حجم التداول اليومي وكميته، وستنخفض إلى حد كبير الآليات الإدارية المستخدمة في التحكم بالتعاملات اليومية".
من جانبه، أشار أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند الأمريكية، الدكتور مصطفى شاهين، إلى أن البورصة المصرية بشكل عام حققت خسائر كبيرة خلال الفترة الماضية جراء انعدام الشفافية، وعدم وجود ضمانات حقيقية للمستثمرين.
المستثمرون المحليون قلقون
ومن المرجح أن المستثمرين المحليين قد يخشون الإقدام على شراء أسهم شركات الجيش بحال طرحها، لأنهم يشعرون أكثر من غيرهم بوطأة التدخل العسكري في شؤون الاقتصاد، والمشكلات الهيكلية في إدارة شركات الجيش، كما أنهم الطرف الأضعف في حال وقوع أي مشكلات في شركات الجيش المدرجة بالبورصة إذا قاموا بشراء أسهمها.
أما المستثمرون الأجانب فعادة ما يكونون متحفظين على فكرة تدخل الجيش أو الدولة عامة بالاقتصاد، ولذلك سيكونون حذرين أيضاً فيما يتعلق بمسألة شراء أسهم شركات الجيش، خاصة أن اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي الأخير، لم يؤدِّ لتحمس المستثمرين الأجانب للسندات وأوراق المال المصرية، حسبما ورد مؤخراً في تقرير لـ"بلومبرغ".
قد تكون دول الخليج وبعض مستثمريها أكثر استعداداً لمثل هذه الخطوة، فهم قريبيون من الحالة المصرية، وأكثر فهماً لها، كما أنهم حلفاء للرئيس السيسي، ومن داعمي اقتصاد البلاد منذ وصوله للسلطة، وهذا يجعلهم أكثر قوة في مواجهة نفوذ العسكريين مقارنة بمستثمري القطاع الخاص المحليين.
وقد يكون طرح شركات الجيش في البورصة قد سبقه توافق مع بعض المستثمرين أو الحكومات من الخليج، على شراء أسهمها أو شراء بعض البنوك المصرية وصناديقها لهذه الأسهم، أو الجانبين معاً.
وفي الأغلب بدون مثل هذا الاتفاقات فإنه من الصعب أن يحقق طرح شركات الجيش في البورصة نجاحاً كبيراً، في ظل الضبابية التي تحيط بالاقتصاد المصري، وقلق المستثمرين المحليين والأجانب من دور الجيش ووضع الاقتصاد عامةً.
فحجم القروض المقدمة لمصر من صندوق النقد الدولي (4 مليارات دولار)، وحلفاء القاهرة للخروج من أزمتها الحالية أقل بكثير مما قدّم في أزمة عام 2016، علماً أن حجم الاقتصاد المصري أكبر هذه المرة، كما أن ديون البلاد تضاعفت ثلاث مرات، والوضع الاقتصادي العالمي أسوأ.
كل ذلك يجعل مصر في حاجة ماسة لتدفقات مالية دولارية كبيرة من الخارج، ويبدو الطريق المرجح في ظل إحجام مستثمري الأموال الساخنة، وضعف المساعدات من الدول الداعمة، هو بيع حصص من الشركات المحلية لدول الخليج، أو مستثمرين خليجيين، علماً أن مصر باعت بالفعل شركات قطاع عام عديدة لمستثمرين أجانب ومحليين، وفي الحقيقة فإن الأصول الرئيسية المتبقة المملوكة للدولة هي تلك المملوكة للجيش.
عيوب ومميزات أنْ تكون شريكاً للجيش المصري
لكن يظل التساؤل: هل يشتري المستثمرون الخليجيون حصص أقلية من شركات الجيش، أم تكون حصص أغلبية، وهل يقبل قادة الجيش بالخيار الأخير، وهل تتمكن شركات الجيش من اتباع معايير الإفصاح والمحاسبة السائدة محلياً ودولياً، لكي يمكن إدراج أسهمها بالبورصة، وهل يقبل المستثمرون الخليجيون التنازل عن بعض هذه المعايير، الأمر الذي قد يؤدي لمشكلات لاحقة.
رغم كل النقاط المثيرة للجدل بشأن طرح شركات الجيش في البورصة، فإن هذه الصفقات المحتملة بها مميزات لأي شركات أو مشترين محتملين، خاصةً لو كانوا خليجيين، منها الميزات التفضيلية التي تحظى بها شركات الجيش، مقارنةً بالمنافسة المحلية من القطاع الخاص المصري، والهيبة التي تحظى بها هذه الشركات باعتبارها تابعةً للجيش، وهو ما يُمكّنها من التغلب على البيروقراطية المحلية المشهورة بعرقلتها للأعمال، وكذلك قدرتها على شراء أصول رخيصة مثل الأرض، بفضل النفوذ المتوفر لهذه الشركات بسبب جذورها العسكرية، رغم أن ذلك قد يثير مشكلات قانونية محتملة بعيدة الأمد، في حال أصبحت هذه المسائل خاضعة لتدقيق شعبي أو قانوني.