كان الحزب الجمهوري يروّج بقوة لحدوث "موجة حمراء" في الانتخابات النصفية 2022، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الحزب، وصمد الديمقراطيون بشكل مفاجئ، فلماذا يعتبر دونالد ترامب الخاسر الأكبر؟
تمثل انتخابات التجديد النصفي أو انتخابات نصف المدة في أمريكا، التي أجريت 8 نوفمبر/تشرين الثاني ولم تظهر بعد نتائج بعضها بشكل نهائي، مفترق طرق للرئيس الديمقراطي جو بايدن وخصمه اللدود الجمهوري دونالد ترامب، وشلت تلك الانتخابات، ولا تزال، الساحة الإعلامية والسياسية المنقسمة تماماً، حيث لن تحدد فقط مستقبل الغرفتين التشريعيتين في واشنطن، مجلس الشيوخ ومجلس النواب، لكن سيكون لها أيضاً تأثير ضخم على الانتخابات الرئاسية القادمة، المقررة في 2024.
إحباط "الموجة الحمراء" الجمهورية
قبيل التصويت، كان التفاؤل يسيطر تماماً على الجمهوريين، على عكس الديمقراطيين. وكان لهذا التفاؤل أسباب متنوعة، أولها تاريخي، حيث إن القاعدة هي أن حزب الرئيس (بغض النظر عن كونه جمهورياً أو ديمقراطياً) يخسر تلك الانتخابات النصفية، بغض النظر عن حجم الخسارة، التي قد تكون ضخمة كخسارة الأغلبية في الكونغرس (بمجلسيه النواب والشيوخ) وخسارة أغلبية حكام الولايات ومجالسها التشريعية أيضاً، أو قد تكون الخسارة في اثنين أو واحد فقط من تلك السباقات.
أما السبب الثاني فهو الحالة المزرية للاقتصاد الأمريكي، الذي يشهد حالة تضخم لم يعانِ منها منذ أربعة عقود على الأقل، وأظهرت جميع استطلاعات الرأي أن غالبية الأمريكيين يرون أن بلادهم، تحت رئاسة جو بايدن، لا تسير في الاتجاه الصحيح. والسبب الثالث هو التدني الكبير لشعبية الرئيس بايدن، في مقابل ارتفاع لافت في شعبية الرئيس السابق ترامب، الذي ألمح مراراً إلى نيته الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
بهذه المعطيات، دخل الحزب الجمهوري معمعة الانتخابات النصفية 2022، وسط بروز مصطلح "الموجة الحمراء"، أي اكتساح اللون الأحمر (شعار الجمهوريين) لصناديق الاقتراع، بل إن أحد قادة الحزب الجمهوري، السيناتور تيد كروز، تنبأ ليلة الانتخابات في مقابلة مع شبكة Foxnews الأمريكية بحدوث "تسونامي أحمر" وليس فقط "موجة حمراء".
لكن النتائج حتى الآن، أظهرت أن تلك "الموجة/تسونامي" لم تحدث أصلاً، حيث تمكن الديمقراطيون من المحافظة على أغلبيتهم الهشة جداً في مجلس الشيوخ، بل ربما يتمكنون من زيادة نسبة تلك الأغلبية. حصل حزب بايدن على 50 مقعداً بالفعل في مجلس الشيوخ، من إجمال 100 مقعد، مقابل 49 مقعداً لحزب ترامب، ولا يزال مقعد بولاية جورجيا مؤجلاً حتى الشهر المقبل، للحسم من خلال جولة الإعادة.
قبل الانتخابات النصفية هذه، كان مجلس الشيوخ منقسماً بالتمام والكمال، 50 مقعداً لكل حزب، والأغلبية ديمقراطية بسبب الصوت المرجح الذي يمتلكه نائب الرئيس، وفي هذه الحالة نتحدث عن كامالا هاريس نائبة بايدن الديمقراطية. وإذا ما فاز الديمقراطيون بمقعد جورجيا في الإعادة، فهذا يعني أنهم زادوا أغلبيتهم لتصبح 51-49.
أما في مجلس النواب، فقد حصل الجمهوريون -حتى الآن- على 212 مقعداً مقابل 204 للديمقراطيين، ولا يزال عدد الأصوات مستمراً في 19 دائرة انتخابية، يحتاج الجمهوريون للفوز في 6 منها فقط ليضمنوا الأغلبية، بينما يحتاج الديمقراطيون للفوز بـ14 مقعداً من 19 مقعداً لا تزال متاحة. والواضح هنا أن الجمهوريين هم الأقرب بطبيعة الحال لحسم الأغلبية في مجلس النواب. أما في السباق الثالث الخاص بحكام الولايات ومجالسها التشريعية، فقد ضمن حزب بايدن بالفعل الأغلبية على مستوى حكام الولايات.
لماذا خسر الجمهوريون فرصة تاريخية؟
مما لا شك فيه أن احتفاظ الديمقراطيين بالسيطرة على مجلس الشيوخ يمثل فوزاً كبيراً لبايدن وإهداراً لفرصة تاريخية كانت سانحة تماماً أمام الجمهوريين لانتهازها في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
وعلى الرغم من أن الجمهوريون لا تزال أمامهم فرصة انتزاع السيطرة على مجلس النواب مع تواصل فرز الأصوات، إلا أن المزاج العام داخل المعسكر الأحمر تغلب عليه الصدمة والغضب بشكل عام، مقابل أجواء الانتصار والنشوة التي تغلف المعسكر الأزرق (لون الحزب الديمقراطي).
بايدن تباهى بأن "الموجة الحمراء" لم تحدث، وزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، اعتبر أن "الشعب الأمريكي رفض التوجه المناهض للديمقراطية، التوجه الاستبدادي البذيء المثير للانقسام الذي أراده الجمهوريون الداعمون لحملة (اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى) لبلادنا".
ومن بين الأسباب الكثيرة لهذا الأداء المخيب للجمهوريين، توقف المحللون والمراقبون وكثير حتى من منتسبي الحزب الجمهوري عن دونالد ترامب وتأثيره السلبي على الحزب كأهم تلك الأسباب.
ديفيد بلوف، الخبير الاستراتيجي السابق لحملة أوباما، قال: "أعتقد أنه يتعين عليك القول إن دونالد ترامب قد تحمّل الآن مسؤولية انتخابات نصفية كارثية"، بحسب تقرير لفوكس نيوز.
وأضاف بلوف: "بالنظر إلى تاريخ الرؤساء في السلطة، والديمقراطيين الذين يسيطرون على واشنطن بأكملها، والتضخم، كان ينبغي أن تكون هذه ليلة أقوى بكثير بالنسبة للجمهوريين". وتابع: "ثمة مجموعة من الأسباب وراء ذلك. لكن على رأسها دونالد ترامب. إنه لا يحظى بشعبية كبيرة، لقد دعم مجموعة من المرشحين المروعين في مجلس الشيوخ الذين قد ينتهي بهم الأمر وهم يعلنون خسارتهم هنا".
أما كريس هايز، من قناة MSNBC، فقال إن الجمهوريين أضفوا على ترامب "قوة مقدسة لا يملكها" ثم "دمر الجمهوريين. إنه لا يحظى بشعبية. إنه لا يحظى بشعبية"، مضيفاً: "لقد أهانكم اليوم. لقد أهانكم. إنها ليست القصة الكاملة.. لكنها جزء من القصة، وكلما أسرعتم في التخلص منه، كان ذلك أفضل للحزب الجمهوري والديمقراطية الأمريكية، هذا مجمل القول".
كان الديمقراطيون قد ركزوا على تصوير الجمهوريين على أنهم متطرفون، وأشاروا إلى قرار المحكمة العليا إلغاء حق الإجهاض على مستوى البلاد، فضلاً عن ترويج مئات المرشحين الجمهوريين لمزاعم ترامب الكاذبة بأن انتخابات 2020 كانت مزورة.
ورصد تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية قائمة "الرابحين والخاسرين" في الانتخابات النصفية الأمريكية، وضع جو بايدن على رأس قائمة الفائزين تلاه رون ديسانتيس، حاكم فلوريدا الجمهوري ومنافس محتمل قوي لترامب على زعامة الحزب، والسيناتور الديمقراطي فيترمان، الذي هزم منافسه الجمهوري، محمد أوز، المدعوم بقوة من ترامب. أما قائمة الخاسرين، فقد تصدرها دونالد ترامب والجمهوريون بشكل عام، خارج ولايتي فلوريدا ونيويورك.
هل انتهت قصة ترامب إذاً؟
من البديهي أن يكون هذا السؤال هو الأكثر ترديداً الآن، فكثير من المرشحين الذين دعمهم ترامب خسروا السباق لصالح منافسيهم الديمقراطيين، في دوائر انتخابية لم يكن المرشحون الديمقراطيون يتمتعون فيها بشعبية واضحة. ويرى أغلب المحللين أن السبب الرئيسي هو تركيز ترامب على دعم المرشحين الموالين له شخصياً، وبخاصة من يتبنون نظريته العبثية غير المثبتة بأنه "فاز في انتخابات 2020" وأن "النتيجة زُوِّرت لصالح بايدن".
فتركيز الرئيس السابق ظل منصباً طوال العام على انتخابات التجديد النصفي، واستغل شعبيته التي لا تزال قائمة بين المحافظين اليمينيين للتأثير على المرشحين الذين اختارهم الحزب الجمهوري لانتخابات الكونغرس والانتخابات المحلية.
وفي ظل الأداء الباهت للجمهوريين، حتى لو فازوا بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب، يجد ترامب نفسه متهماً بدعم مرشحين أخفقوا في جذب ما يكفي من الناخبين. وقد تؤدي خسارة الحزب الجمهوري في جورجيا إلى إضعاف شعبية ترامب، في وقت يقول فيه مستشارون له إنه يدرس الإعلان هذا الأسبوع عن الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في 2024.
وهناك نقطة أخرى مهمة للغاية في هذا السياق، وهي بروز نجم آخر لامع وسط الجمهوريين، يراه كثيرون منهم الآن أجدر بحمل الراية الحمراء من ترامب، والحديث هنا عن روي ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا، الذي كان ترامب قد سخر منه عشية الانتخابات مباشرة. ترامب كان قد استخدم "ديسانتيمونياس" (أي المنافق مدعي الفضيلة"، في معرض إشارته لحاكم فلوريدا.
النتائج المخيبة إجمالاً للجمهوريين، والمتميزة للغاية في فلوريدا بالنسبة لهم، سوف ترفع بالتأكيد من فرص حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، الذي ألمح في خطاب النصر إلى أنه قد يسعى للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية 2024.
النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا كارلوس خيمينيز وصف تحول فلوريدا إلى "ولاية حمراء" بأنه نتاج لعمل منظم وذكي من جانب ديسانتيس أدى لاختيار الحزب الجمهوري في الولاية للمرشحين المناسبين في الدوائر المناسبة، على عكس السباقات الأخرى في جميع أنحاء البلاد، في انتقاد مبطن لاختيارات ترامب، التي كلفت الحزب خسارة هذه الفرصة التاريخية.
لكن ترامب، المعروف بعناده الشديد ونرجسيته الأشد، لا يرى الصورة بهذا الشكل بطبيعة الحال، فالرجل يروِّج لما يراه "انتصارات جمهورية مدوية" حققها من اختارهم بنفسه للترشح عن الحزب.
قال ترامب لشبكته المفضلة فوكس نيوز، إنه يحتفل بفوز أكثر من 200 مرشح جمهوري "عظيم" ممن دعمهم وتمكنوا من تحقيق الانتصار في الانتخابات النصفية، وأضاف، الأربعاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني، أنه "فخور" بهم وأن خططه نحو إصدار "إعلان كبير" الأسبوع المقبل لم تتغير بعد النجاح الهائل الذي تحقق.
الرئيس السابق مارس هوايته في التشكيك في وسائل الإعلام التي يرى أنها تنتقده، فقال: "هناك رواية مزيفة تتحدث عن غضبي، الأمر على النقيض تماماً. أدى من دعمتهم بشكل جيد جداً. الفوز بنسبة 98.6% في الانتخابات التمهيدية، ونجاح 216 مقابل 19 في الانتخابات العامة، أمور مذهلة".
ترامب ذكر انتصارات السيناتور تشاك جراسلي في آيوا، والسيناتور ماركو روبيو في فلوريدا، وإيريك شميت في ميسوري، وجي دي فانس في أوهايو، وتيد بود في نورث كارولينا، ورون جونسون في ويسكونسن، وآخرين، دون أن يتطرق للخاسرين ممن حظوا بدعمه الشديد.
الخلاصة هنا هي أن قصة ترامب مع الحزب الجمهوري والسياسة الأمريكية، والعالمية بطبيعة الحال، لا تزال مستمرة على الأرجح، على الرغم من أنه الخاسر الأكبر في الانتخابات النصفية، بحسب النتائج وبحسب الآراء، إلا من يدعمونه، فهو لا زال يتمتع بشعبية بين الجمهوريين، لكن حجم هذه الشعبية ربما يكون قد أصبح محل شك إلى حد ما.