اتهمت روسيا الولايات المتحدة بخفض "العتبة النووية" من خلال التعجيل بنشر أسلحة تكتيكية في أوروبا، فماذا يعني ذلك؟ وهل يؤدي الأمر إلى مزيد من التصعيد المخيف في أوكرانيا؟
ويعيش العالم الآن على أطراف أصابعه حرفياً، في ظل وصول الحرب في أوكرانيا، التي اندلعت 24 فبراير/شباط الماضي، إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا وتحوُّلها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنها "حرب نهاية العالم"، رغم محاولته التخفيف من الفزع، بقوله لاحقاً إن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل".
لكن الرئيس الأمريكي لم يوضح كيف يمكن تفادي هذا الخيار النووي المدمّر، في ظل استمرار إرسال الدعم العسكري إلى أوكرانيا، التي تحقق انتصارات ميدانية مهمة منذ مطلع سبتمبر/أيلول، بفضل ذلك الدعم الغربي، وفي الوقت نفسه إقرار بايدن وباقي الزعماء الغربيين بأن بوتين لن يقبل الهزيمة بأي صورة من الصور.
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، يختتم حلف شمال الأطلسي "الناتو" مناوراته النووية الأحد 30 أكتوبر/تشرين الأول في شمال وغرب القارة الأوروبية، والتي كانت قد بدأت قبل أسبوعين، بمشاركة 14 دولة، من أعضاء الحلف وعددهم 30 بلداً، ونحو 70 طائرة من مختلف الطرازات، وضمنها مقاتلات من الجيلين الرابع والخامس.
ما هي "العتبة النووية" التي تحدثت عنها روسيا؟
وجهت روسيا، السبت 29 أكتوبر/تشرين الأول، اتهاماً للولايات المتحدة بخفض "العتبة النووية" من خلال النشر المعجل للأسلحة النووية التكتيكية الأمريكية المحدثة (بي 61) في قواعد لحلف الناتو بأوروبا، مضيفةً أن موسكو ستأخذ هذه الخطوة بالاعتبار في تخطيطها العسكري.
ولمصطلح "العتبة النووية" معنى شائع وهو أن تقترب دولة ما من امتلاك سلاح نووي، وهو من أكثر المصطلحات ترديداً فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني خلال العامين الماضيين، في ظل تعثر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن.
لكن "العتبة النووية" التي تقصدها موسكو مختلفة تماماً، فالاتهام موجه من دولة نووية بالفعل، وهي روسيا، إلى دولة نووية أخرى وهي أمريكا، بل هما أكبر دولتين مسلحتين نووياً على الإطلاق، فموسكو لديها أكثر من 6 آلاف رأس نووي وأمريكا لديها عدد أقل بنحو ألف رأس نووي.
وفي هذا السياق، فإن "العتبة النووية" هنا تعني تلك النقطة التي قد يلجأ فيها أحد أطراف الصراع إلى استخدام الأسلحة النووية التي يمتلكها. ففي روسيا، ينص الدستور على أن السلاح النووي يستخدم في حالتين فقط وهما: أن تتعرض البلاد لهجوم نووي، أو أن تتعرض لتهديد وجودي.
والأسلحة النووية تنقسم إلى نوعين رئيسيين: الأول هو الأسلحة الاستراتيجية والمقصود بها الرؤوس النووية الكبيرة القادرة على محو مدن وربما دول بأكملها من الوجود. أما النوع الثاني فهو أصغر حجماً وأقل تدميراً ويعرف باسم "الأسلحة النووية التكتيكية".
والأسلحة النووية التكتيكية وهي أسلحةٌ أقصر مدى، فهي تسافر لمسافةٍ تصل فقط إلى 300 ميل، وغالباً ما تكون لها رؤوس حربية منخفضة القوة. على الرغم من ذلك، يحمل بعضها كيلوطناً أكثر من قنبلة هيروشيما. وهي مصممة لتدمير الدبابات أو تشكيلات القوات في ساحة المعركة، وليس القضاء على مدينة.
وفي تاريخ الأسلحة النووية، لم تكن هناك قط معاهدة- ثنائية أو دولية- تحد من تطوير أو نشر الأسلحة النووية التكتيكية في أي مكان، وخلال الحرب الباردة، أنتج كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الآلاف من هذه الأسلحة، مع سيطرة موسكو على ما يصل إلى خمسة وعشرين ألفاً.
لكن الآن تمتلك روسيا نحو ألفي سلاح نووي تكتيكي قيد التشغيل، بينما تمتلك الولايات المتحدة نحو مئتين من هذه الأسلحة، تنشر نصفها في قواعد بإيطاليا وألمانيا وتركيا وبلجيكا وهولندا.
لماذا نشرت أمريكا "أسلحة تكتيكية" الآن في أوروبا؟
"أمريكا تسرع من خطة تخزين أسلحة نووية محدثة في أوروبا"، تحت هذا العنوان نشر موقع مجلة Politico الأمريكي تقريراً، ألقى الضوء على سعي واشنطن للتعجيل بنشر أحدث أنواع أسلحتها النووية التكتيكية في قواعد لحلف الناتو بأوروبا، وهو ما أثار تساؤلات بطبيعة الحال تتعلق بارتباط الخطوة بالحرب في أوكرانيا، التي دخلت مفترق طرق نووياً بامتياز خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وبحسب تقرير موقع المجلة الأمريكية، أبلغت الولايات المتحدة اجتماعاً مغلقاً لحلف شمال الأطلسي خلال أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أنها ستعجل بنشر نسخة محدثة من قنابل B-61 النووية التكتيكية، وهي B-61-12، وأن القنابل الجديدة ستصل إلى القواعد الأوروبية خلال ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو موعد مبكر بعدة أشهر عن المخطط الأصلي.
وتحمل قنابل B-61-12، التي تسقط اعتماداً على الجاذبية ويبلغ طولها 12 قدماً (3.6 متراً) رأساً نووياً أقل قوة مقارنة بالعديد من الإصدارات السابقة، ولكنه أكثر دقة ويمكن أن يتوغل تحت سطح الأرض، وفقاً لبحث أجراه اتحاد العلماء الأمريكيين نُشر في عام 2014.
يأتي هذا التقرير عن الخطوة الأمريكية بشأن قنابلها النووية التكتيكية متزامناً مع الجدل المتصاعد بشأن احتمال تفجير "قنبلة قذرة" في ساحة الحرب، وسط اتهامات متبادلة بين روسيا وأوكرانيا بشأن الطرف الذي يستعد لارتكاب تلك الجريمة المفزعة.
كانت روسيا هي من وجهت اتهاماً لأوكرانيا بالاستعداد لتفجير تلك "القنبلة القذرة" في ساحة المعركة، على الأرجح في خيرسون، لتلقي باللوم على موسكو، لكن كييف وواشنطن وباريس ولندن رفضت الاتهامات الروسية ووصفتها بأنها "استعداد روسي" للإقدام على تلك الخطوة، كي توقف تقدم القوات الأوكرانية في منطقة خيرسون، وهي واحدة من 4 مناطق كانت روسيا قد أعلنت ضمها رسمياً بعد "استفتاءات" أجرتها هناك.
لكن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) رفضت الربط بين نشر القنابل النووية التكتيكية في أوروبا والحرب في أوكرانيا، وقالت إنها لن تناقش تفاصيل الترسانة النووية الأمريكية وإن فرضية مقال بوليتيكو خاطئة، لأن الولايات المتحدة وضعت خطط تحديث أسلحة B-61 النووية منذ وقت طويل.
أوسكار سيرا، المتحدث باسم البنتاغون، أرسل رداً بالبريد الإلكتروني قال فيه إن "تحديث الأسلحة النووية الأمريكية B-61 جارٍ منذ سنوات، وخطط الاستبدال الآمن والمسؤول للأسلحة القديمة بالنسخ المحدثة B-61-12 جزء من مجهود مخطط ومقرر منذ وقت طويل"، بحسب رويترز.
وأكد سيرا في بيانه، أن "(التحديث) ليس مرتبطاً، بأي حال بالأحداث الراهنة في أوكرانيا، ولم يتم التعجيل به بأي طريقة".
اللافت هنا هو أن الاختبار الأول للقنبلة النووية الأمريكية B-61 في ولاية نيفادا كان قد تم بعد فترة قصيرة من أزمة الصواريخ الكوبية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة أواخر عام 1962. وفي عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة من 2009 إلى 2017، تمت الموافقة على تطوير النسخة الجديدة B-61-12.
كيف ترى روسيا هذا التحرك الأمريكي؟
لكن روسيا بطبيعة الحال ترى أن التعجيل الأمريكي بنشر النسخ الأحدث من تلك الأسلحة النووية التكتيكية في قواعد الناتو بأوروبا يرتبط، بشكل مباشر بالحرب في أوكرانيا.
إذ قال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر جروشكو، لوكالة الإعلام الروسية المملوكة للدولة: "لا يمكننا تجاهل خطط تحديث الأسلحة النووية، تلك القنابل ذات السقوط الحر (غير الموجهة) التي في أوروبا".
وأضاف جروشكو: "تقوم الولايات المتحدة بتحديثها، وزيادة دقتها وتقليل قوة شحنتها النووية، أي إنها تحول هذه الأسلحة إلى (أسلحة لميدان المعركة)، وبالتالي تخفض العتبة النووية"، بحسب رويترز.
وأضاف أنه على موسكو أيضاً أن تضع في الحسبان مقاتلات إف-35 التي تُصنعها شركة لوكهيد مارتن ويمكن استخدامها في إسقاط مثل هذه القنبلة. وأضاف أن حلف شمال الأطلسي عزز بالفعل الأجزاء النووية في تخطيطه العسكري، مشيراً إلى أن "الحلف اتخذ بالفعل قرارات لتعزيز العنصر النووي في خططه العسكرية".
أما سفير روسيا في واشنطن، أناتولي أنتونوف، فقد قال السبت 29 أكتوبر/تشرين الأول عبر تليغرام، إن القنابل B-61 الجديدة لها "أهمية استراتيجية"، حيث إن الأسلحة النووية التكتيكية الروسية مخزنة، لكن هذه القنابل الأمريكية ستقطع رحلة قصيرة فقط لتصل إلى حدود روسيا.
ووفقاً لمراجعة للموقف النووي لعام 2022 نشرت الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول، ستعزز الولايات المتحدة الردع النووي بطائرات إف-35 وقنابل B-61-12 وصواريخ كروز تطلق من الجو ومسلحة نووياً.
وتأتي هذه الحرب الكلامية النووية في ظل أوضاع أكثر خطورة حتى من أزمة الصواريخ الكوبية، خصوصاً أن روسيا ستبدأ مناوراتها النووية خلال أيام، بعد أن أنهى الناتو مناوراته النووية أيضاً.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال مراراً إن روسيا ستدافع عن أراضيها بكل الوسائل المتاحة، وضمنها الأسلحة النووية، إذا تعرضت للهجوم. وقال بايدن في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، إن بوتين جعل العالم أقرب إلى "هرمجدون"، أو حرب نهاية العالم، أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، رغم أن الرئيس الأمريكي قال في وقت لاحق، إنه لا يعتقد أن بوتين سيستخدم سلاحاً نووياً تكتيكياً.
أما الرئيس الروسي فإنه لم يشر مؤخراً إلى احتمال استخدام سلاح نووي تكتيكي، لكنه قال إنه يشتبه في أن أوكرانيا قد تفجر "قنبلة قذرة"، وهو ما تنفيه أوكرانيا والغرب.
الخلاصة هنا هي أن الحرب الكلامية النووية قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحرب الأوكرانية، وهو ما يزيد من خطورة أن تتحول تلك الحرب من مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل، خصوصاً أن تفجير سلاح نووي تكتيكي أو "قنبلة قذرة" لتحقيق مكاسب على الأرض في ساحة المعركة أصبح سيناريو مطروحاً وبقوة، وهو المقصود بتخفيض "العتبة النووية" في هذا السياق.