فتحت أمريكا فجأةً قنوات تواصل مباشرة مع روسيا، في ظل تصاعد الحديث عن قرب تفجير "قنبلة قذرة" في أوكرانيا، فهل الهدف تفادي الكارثة؟ أم إنهاء الحرب؟ أم أن هناك "أموراً أخرى" تخص إدارة بايدن؟
ويعيش العالم على أطراف أصابعه حرفياً منذ أسابيع، في ظل وصول الحرب إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا، وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه بأنها حرب نهاية العالم، رغم محاولته التخفيف من الفزع، بقوله لاحقاً إن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل".
لكن الرئيس الأمريكي لم يوضح كيف يمكن تفادي هذا الخيار النووي المدمّر، في ظل استمرار إرسال الدعم العسكري إلى أوكرانيا، التي تُحقق انتصارات ميدانية مهمة، منذ مطلع سبتمبر/أيلول، بفضل ذلك الدعم الغربي، وفي الوقت نفسه إقرار بايدن وباقي الزعماء الغربيين بأن بوتين لن يقبل الهزيمة بأي صورة من الصور.
تبادل الاتهامات بشأن "قنبلة قذرة"
لكن الأيام القليلة الماضية شهدت تحولاً لافتاً في موقف إدارة بايدن من التواصل المباشر مع موسكو، إذ أجرى وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، اتصالاً بنظيره الروسي، شويغو، وتكرَّر الأمر من جانب مسؤولين آخرين في البنتاغون، تزامناً مع تسريبات روسية بأن أوكرانيا تستعد لتفجير "قنبلة قذرة"، وإلقاء اللوم على روسيا.
كانت وسائل إعلام روسية قد ذكرت، الأحد 23 أكتوبر/تشرين الأول، أن كييف جهزت، بدعم غربي، "قنبلة قذرة"، استعداداً لتفجيرها في أحد مسارح العمليات العسكرية، على الأرجح منطقة خيرسون، وأطلقت هذه التقارير سلسلة من تبادل الاتهامات بين موسكو من جهة وكييف وحلفائها الغربيين من جهة أخرى.
ويُقصد بمصطلح "القنبلة القذرة" مجموعة متنوعة من السلاح غير التقليدي، فقد تكون سلاحاً نووياً تكتيكياً أو سلاحاً بيولوجياً أو كيميائياً، أو جهازاً للتشتت الإشعاعي، وهو نوع من الأسلحة الإشعاعية التي تجمع بين المواد المشعة والمتفجرات التقليدية.
وعلى الفور ردَّت دول غربية متهمة روسيا بالتخطيط لاستخدام التهديد بقنبلة محملة بمواد نووية كذريعة للتصعيد في أوكرانيا، ورداً على سؤال عما إذا كانت واشنطن ستتعامل مع استخدام "قنبلة قذرة" بنفس تعاملها مع استخدام أي قنبلة نووية أخرى، قال برايس إنه "ستكون هناك عواقب" على روسيا في الحالتين. وأضاف برايس للصحفيين "سواء استخدمت "قنبلة قذرة" أو قنبلة نووية. كنا واضحين للغاية بشأن ذلك".
وقال وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في بيان مشترك، إنهم جميعاً رفضوا هذه الادعاءات، وأكدوا دعمهم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، وذكروا "أوضحت بلداننا أننا جميعاً نرفض ادعاءات روسيا الكاذبة بشكل واضح، بأن أوكرانيا تستعد لاستخدام قنبلة قذرة على أراضيها… العالم سيرى أن أي محاولة لاستخدام هذه الادعاءات ذريعة للتصعيد"، بحسب رويترز.
وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كلمة ألقاها، مساء الأحد، إن الاتهام الروسي دلالة على أن موسكو تخطط لشنّ مثل هذا الهجوم بنفسها، وستتهم أوكرانيا بتنفيذه، وتابع زيلينسكي "إذا اتصلت روسيا وقالت إن أوكرانيا تُعد لشيء ما فهذا يعني شيئاً واحداً: روسيا أعدت بالفعل كل هذا… وبالتالي عندما يُجري وزير الدفاع الروسي اليوم سلسلة من الاتصالات الهاتفية ويروي لوزراء الخارجية قصصاً عما يسمى بالقنبلة النووية "القذرة"، فإن الجميع يفهم كل شيء جيداً. يفهم من هو مصدر كل شيء قذر يمكن تخيله في هذه الحرب".
لكن روسيا من جانبها لم تعبأ بردّ الفعل الغربي، إذ قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، في إفادة الإثنين 24 أكتوبر/تشرين الأول: "عدم تصديقهم لا يعني عدم وجود تهديد… التهديد واضح".
كما أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على نفس المعنى، بقوله للصحفيين بعد اجتماع مع نادي فالداي للمناقشات الدولية "نفي زملائنا الغربيين الذي لا أساس له من الصحة، وقولهم إن كل هذا خيال، وإن روسيا نفسها تخطط لفعل شيء مماثل من أجل اتهام نظام زيلينسكي لاحقاً، هذه ليست محادثة جادة".
اتصالات مباشرة بين أمريكا وروسيا
لكن رغم مرور أسابيع منذ أطلق بوتين تهديده الصريح بشأن الدفاع عن "وحدة أراضي" بلاده بالأسلحة النووية، دون أن يحدث تواصل مباشر بين إدارة بايدن والكرملين، فجأة بدأت الاتصالات المباشرة بين الجانبين بعد حديث "القنبلة القذرة".
إذ أجرى وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، اتصالين بنظيره الروسي، سيرغي شويغو، منذ الأحد، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، كما تلقى الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون اتصالاً من رئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف.
وناقش ميلي وغيراسيموف "عدداً من القضايا الأمنية، واتفقا على مواصلة خط الاتصال المباشر بينهما. وفي إطار الممارسات الماضية، سيتم الحفاظ على سرية تفاصيل تلك الاتصالات"، بحسب بيان أصدره المتحدث باسم هيئة الأركان الأمريكية.
وفي السياق ذاته، أكد المتحدث باسم ميلي أن الجنرال الأمريكي تواصل أيضاً مع قائد القوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوزني، بشأن "الغزو الروسي غير المبرر والمستمر لأوكرانيا، وتبادلا وجهات النظر والتقييمات".
وبحسب وزارة الدفاع الروسية، أجرى فاليري غيراسيموف محادثات هاتفية مع نظيريه البريطاني والأمريكي، بحث معهما خلالها احتمال استخدام أوكرانيا "قنبلة قذرة".
وقالت الوزارة في بيان، إنه في "24 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أجرى رئيس الأركان الروسية فاليري غيراسيموف، محادثات هاتفية مع رئيس أركان الدفاع البريطاني أنتوني راداكين". وأضاف البيان أن المسؤولين العسكريين "بحثا احتمال استخدام كييف للقنبلة القذرة".
وقالت وزارة الدفاع البريطانية، عبر تويتر، إن غيراسيموف ورئيس أركان الجيش البريطاني، راداكين، "اتفقا على أهمية الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة" بين المملكة المتحدة وروسيا، بينما رفض راداكين "مزاعم روسيا بأن أوكرانيا تخطط لاتخاذ إجراءات لتصعيد النزاع".
تأتي هذه التطورات في وقت أمرت فيه روسيا المدنيين بإخلاء الأراضي التي تسيطر عليها على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، حيث تتقدم القوات الأوكرانية منذ بداية هذا الشهر بعد وقت قصير من "استفتاءات" أجريت في تلك المناطق وأعلنت روسيا ضمها رسمياً، رغم رفض كييف والغرب. والمناطق التي أعلنت موسكو ضمها هي خيرسون وزابوروجيا ولوغانسك ودونيتسك.
هزيمة روسيا في تلك المناطق ستكون واحدة من أكبر انتكاسات موسكو في الحرب، التي بدأت 24 فبراير/شباط الماضي. وعاصمة خيرسون هي المدينة الكبيرة الوحيدة التي سيطرت عليها روسيا حتى الآن، وتمثل منطقة وجودها الوحيدة على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، الذي يقسم أوكرانيا. وتسيطر هذه المنطقة على البوابة المؤدية إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.
وأعلنت السلطات الروسية في خيرسون، الإثنين، أن الرجال المتبقين سيكون لديهم خيار الانضمام إلى وحدة عسكرية للدفاع عن النفس. وتتهم كييف روسيا بإرغام الرجال في المناطق المحتلة على الانضمام لتشكيلات عسكرية، وهي جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف.
وقال كيريلو بودانوف، رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، إن القوات الروسية تستعد للدفاع عن مدينة خيرسون، وليس الانسحاب منها، وإن التقارير عن عمليات الإجلاء جزء من حملة إعلامية روسية، وأضاف أنه بينما تقوم روسيا بنقل مخصصاتها المالية لعملياتها وعتادها والسكان المعرضين للخطر والمصابين من خيرسون، فإنها تعزز أيضاً الدفاعات.
لماذا الاتصال في هذا التوقيت بين أمريكا وروسيا؟
رغم التوتر الشديد الذي يسود الأجواء حالياً فإنه ليس جديداً، ولا حتى من ناحية التصعيد النووي، وهو ما يثير تساؤلات بشأن دوافع واشنطن ولندن من وراء التواصل المباشر مع موسكو في هذا التوقيت.
الدافع الأول ربما يكون السعي لتفادي تفجير تلك "القنبلة القذرة"، بغض النظر عن الطرف الذي قد يفعله، في ظل تبادل الاتهامات بين روسيا وأوكرانيا، خصوصاً أن الكرملين أعلن اتخاذ خطوات فعلية قال إنها "لحماية جنوده من التلوث الإشعاعي".
فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية، الإثنين، أنها أعدت قواتها للعمل في ظروف التلوث الإشعاعي، في أول بيان حقيقي من موسكو عن تغيير في حالة استعداد قواتها إلى "الحالة النووية"، بعد أن أبلغ وزير الدفاع شويغو وزراء دفاع غربيين أن موسكو تعتقد أن أوكرانيا تستعد لتفجير مثل هذه القنبلة.
وقال اللفتنانت جنرال إيجور كيريلوف، قائد قوات الحماية من المواد النووية والبيولوجية والكيميائية في روسيا، في إفادة صحفية، إن الهدف من مثل هذا الهجوم هو إلصاق ما سيترتب عليه من تلوث إشعاعي بروسيا، من خلال اتهامها بتفجير سلاح نووي منخفض القوة.
وقال إن أوكرانيا تريد تصوير روسيا على أنها دولة "إرهابية نووية". وأضاف "الهدف من هذا الاستفزاز هو اتهام روسيا باستخدام سلاح دمار شامل في المسرح العسكري الأوكراني، وبهذه الطريقة تشن حملة قوية مناهضة لروسيا في العالم بهدف تقويض الثقة في موسكو".
"نظمت وزارة الدفاع العمل لمواجهة استفزازات محتملة من الجانب الأوكراني: تم وضع القوات والموارد على أهبة الاستعداد لأداء مهام في ظروف التلوث الإشعاعي"، بحسب كيريلوف.
وربما تكون هذه التطورات وفتح قنوات الاتصال الآن خطوة في اتجاه الوصول لتسوية ما تُنهي الحرب، خصوصاً في ظل الموقف الداخلي المتأزم في واشنطن ولندن، وهما أكبر داعمي كييف. فبايدن يواجه انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس خلال أسبوعين، ويبدو حزبه الديمقراطي في موقف صعب في مواجهة الجمهوريين.
وفي لندن، يستعد ريشي سوناك لتولي منصب رئيس الحكومة، بعد استقالة ليز تراس، ومن قبلها بوريس جونسون، وكلاهما كانا من ألد أعداء بوتين، وأفادت تقارير أن جونسون نفسه لعب دوراً كبيراً في إقناع زيلينسكي بالتراجع عن اتفاق سلام كان سيُنهي الحرب قبل شهور.
وفي واشنطن، واجه بايدن مزيداً من الضغوط كي يتفاوض مع روسيا، من أجل التوصل لتسوية تُنهي الحرب، حيث وجه 30 نائباً ديمقراطياً، ينتمون إلى التيار الليبرالي التقدمي، رسالةً إلى البيت الأبيض بهذا المعنى، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
النواب، وعلى رأسهم براميلا غايابال، رئيسة التجمع التقدمي بالكونغرس، أكدوا على رفضهم "الغزو الروسي الشائن وغير الشرعي لأوكرانيا"، مضيفين: "لكن بصفتنا مشرعين مسؤولين عن إنفاق عشرات المليارات من دولارات دافعي الضرائب الأمريكيين على المساعدات العسكرية في هذا النزاع، نعتقد أن مثل هذا الانخراط في هذه الحرب يحمل أيضاً الولايات المتحدة مسؤولية استكشاف جميع السبل الممكنة بجدية".
ودعت الرسالة إلى التعامل المباشر مع روسيا، لإيجاد حل "يكون مقبولاً من الشعب الأوكراني"، ولفت النواب إلى أنه "من المفترض أن يتضمن إطار عمل كهذا حوافز لإنهاء الأعمال العدائية، بما في ذلك شكل من أشكال تخفيف العقوبات، وجمع المجتمع الدولي، لوضع ضمانات أمنية لأوكرانيا حرة ومستقلة، تكون مقبولة من جميع الأطراف، وخاصةً الأوكرانيين". وأكدت الرسالة أن "البديل عن الدبلوماسية هو حرب طويلة الأمد".