كانت واقعة إخراج الرئيس الصيني السابق، هوو جينتاو، من مؤتمر الحزب الشيوعي صادمة ودلت على مقدار صرامة سياسات الرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ، وكيف غيّر الرجل شكل السلطة في الصين بشكل جذري.
وقد يكون تصوير هذا المشهد قد جرى بشكل عمدي، خاصةً أنه كان يمكن منع التصوير قبل إخراج الرئيس السابق بهذا الشكل المهين، لاسيما أن حدثاً مهماً كمؤتمر الحزب الشيوعي، يتم التدرب بدقة على عملية تنظيمه، حسبما نقل موقع قناة الحرة الأمريكية عن أستاذ القانون بجامعة سنغافورة للإدارة، هنري جاو.
ولذا قد يكون ما حدث بمثابة رسالة ليس فقط لأعضاء الحزب الشيوعي الصيني، ولا الشعب الصيني ولكن أيضاً للعالم كله وضمن ذلك منافسو الصين الغربيون والآسيويون عن طبيعة سياسات الرئيس الصيني، الذي قد يصبح أقوى رجل في العالم مع استمرار صعود نفوذ بكين واستعدادها لتخطي الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم خلال السنوات القادمة.
الغرب كان ينظر للرئيس شي على أنه غورباتشوف الصين
عندما تولى شي زمام الأمور أشاد به كثيرون في الغرب ووصفوه بأنه النسخة الصينية عن آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وتصور بعضهم أنه سيتبنى إصلاحات جذرية ويلغي قبضة الدولة المُحكمة على الاقتصاد ويضفي الطابع الديمقراطي على النظام السياسي، لكن بالطبع تبين أن ذلك لم يكن سوى خيال، وعوضاً عن ذلك عمل شي، وهو تلميذ مخلص لماو ومتشوق بالقدر نفسه إلى ترك بصماته في التاريخ، على ترسيخ سلطته المطلقة، ليصبح الزعيم الأقوى في تاريخ البلاد بعد ماو تسي تونغ.
وبينما كان الغرب يراهن على أن الانفتاح والنمو الاقتصاديين الهائلين للصين، كانا سيؤديان إلى انفتاح سياسي ولو جزئي، ولكن البلاد تحت حكم الرئيس الصيني الحالي تتجه لتحقيق معادلة لم يكن يتصورها الغرب: نظام اقتصادي شديد التطور وشديد الرقمية، ونظام سياسي شديد الصرامة بشكل يفوق حتى أكثر عهود حكم الحزب الشيوعي انغلاقاً، حيث سيلعب تقدم الصين التكنولوجي في تقوية الحكم الاستبدادي.
والأهم أن الصين تتحول من حكم الحزب الشيوعي كمؤسسةٍ اتخاذ القرار فيها له شكل جماعي، إلى حكم استبدادي فردي، وهو ما ظهر في تعديل الدستور للسماح للرئيس الصيني بالترشح لولاية رئاسية ثالثة، وتوليه قيادة الحزب الشيوعي للمرة الثالثة، خلافاً للأعراف السابقة، مع استبعاد مراكز قوة تقليدية مثل رئيس الوزراء السابق رئيس الوزراء لي كه تشيانغ.
ومن المفارقات الكبيرة في حكم الرئيس الصيني أنه بينما ارتبط اسمه باضطهاد بشع للإيغور وصل إلى احتجاز ملايين منهم في مراكز اعتقال لمسح هويتهم، فإن والده هو هو زعيم بالحزب الشيوعي دعم في الثمانينيات سياسات أكثر تساهلاً تجاه مجموعات الأقليات العرقية، وكان بعض المحللين يتوقعون أنه قد يتبع طرق والده الأكثر اعتدالاً عندما تولى قيادة الحزب في نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
الصين لم تكن ديمقراطية يوماً، ولكن حكمها كان مؤسسياً
لم تكن الصين يوماً ديمقراطية، إلا فترات قليلة من التعدد السياسي قبل الحرب العالمية الثانية التي اتسمت بالاضطراب وانتهت بحروب أهلية وغزوات خارجية.
كانت الصين دوماً دولة مركزية استبدادية، ولكنه استبداد رغم تمركزه في كثير من الأحيان حول شخصية الحاكم، فإنه اتسم دوماً، بوجود طبقة بيروقراطية واسعة ساهمت مع الحكام الأقوياء ليس في تأسيس الدولة الصينية الموحدة فقط، ولكن أيضاً في نشوء القومية الصينية بشكلها الحالي.
لأن القومية الصينية الرئيسية وهي قومية الهان، تعود في جذورها لشمال الصين، بينما كان باقي البلاد وضمنها أقاليم الجنوب الغنية، تنتمي إلى قوميات وثقافات أخرى، ولكن البيروقراطية الصينية تحت قيادة الأباطرة الأقوياء، صهرت قوميات البلاد منذ مئات السنين عبر الهجرة من الشمال للجنوب والمصاهرة بين الهانيين الأصليين وسكان باقي مناطق البلاد الرئيسية، في عملية قسرية في كثير من الأحيان عبر فرض نمط ثقافي ولغوي وقانوني موحد أدى إلى إنشاء القومية الصينية الحالية، فيما عرف باسم "التصيين" (اكتساب الصبغة أو القومية الصينية)، فيما ظلت أطراف البلاد الغربية تسودها قوميات مختلفة رغم تبعيتها السياسية للصين.
ماو حوّل البلاد لديكتاتورية فردية ثم أعاد بينغ السلطة لقيادة الحزب الشيوعي
وبعد تولي ماو تسي تونغ مؤسس الصين الشيوعية الحكم عام 1949، أسس نظاماً استبدادياً يقوده الحزب الشيوعي سرعان ما تحول لنظام استبداد فردي، انحرف لشكل من الاستبداد العائلي أيضاً أثناء الثورة الثقافية، التي يقال إنها أدت إلى فظائع تسببت في مقتل وعزل الملايين وتدهور اقتصاد البلاد، ولكن سرعان ما تحول النظام بعد رحيل ماو تسي تونغ إلى طابع مؤسسي لقيادة حكم الحزب الشيوعي المسيطر على مقاليد السلطة، حيث كانت القرارات تُتخذ عبر التصويت وموازين القوة في المؤسسات القيادية للحزب.
وكان لافتاً أن ذلك تم في عهد الرئيس الراحل دينغ سياو بينغ الذي حكم بين عامي 1978 و1992، وهو الزعيم الذي أطلق الإصلاح الاقتصادي الذي حقق المعجزة الصينية، ولكن دون ديمقراطية، وفي عهده تأكد الطابع المؤسسي لحكم الحزب الشيوعي، حيث لم يحول الرجل رغم دوره التاريخي الحزب إلى ديكتاتورية شخصية، كما أنه لم يحاول طمس تاريخ ماو تسي المثير للجدل رغم أنه لم يمنع وجود قدر من الانتقاد له.
وظهر هذا الطابع الجماعي المؤسسي لحكم الحزب الشيوعي في الجدل الذي أثير داخل الحزب حول التعامل مع مظاهرات ميدان السلام السماوي عام 1989، والذي حسم لصالح المطالبين بقمعها بعنف كما حدث بالفعل.
وبعد رحيل دينغ سياو بينغ، أصبح رئيس الصين بمثابة كبير موظفي الدولة، وليس زعيماً سياسياً ملهماً يتم تمجيده مثلما يحدث في العديد من الدول النامية، وهو أمر ظهر بشكل واضح في عهد الرئيس السابق هوو جينتاو، (الذي أُخرج من القاعة)، والذي رغم النجاحات الاقتصادية التي تحققت في عهده فإنه كان يفتقد الكاريزما، ولم يكن حاسماً في كثير من القضايا الداخلية، منها الفروق بين المناطق الفقيرة في الغرب والشمال الغربي، وبين المناطق الساحلية الأكثر استفادة من النهضة الصينية وكذلك الفروق بين الطبقات الاجتماعية وكذلك مشكلة الفساد في الحزب الشيوعي.
وخلال تلك السنوات، حافظ الحزب على مسافة متوازنة من إرث ماو المثير للجدل، وكانت وسائل الإعلام الرسمية تقول في بعض الأحيان إن ما فعله ماو كان سلبياً بنسبة 30% وإيجابياً بنسبة 70%.
في تلك الفترة لم تصبح الصين دولة ديمقراطية، ولكن الخبراء الغربيين رأوا أنها تشهد شكلاً من أشكال الحكم الديمقراطي داخل الحزب الشيوعي نفسه، وفي المستويات المحلية، كما بدأ النظام القضائي يكتسب استقلالية تدريجية وإن كانت بطيئة، إضافة لقدر من السماح للنقد للمسؤولين على المستوى المحلي، واتساع مقدار الحريات الاجتماعية بشكل كبير، خاصةً تلك المتعلقة بتعبير أثرياء الصين عن نمط استهلاكي غربي يختلف تماماً عن النمط المتقشف الذي ميز بداية حكم الحزب الشيوعي.
الرئيس الصيني يعيد إحياء إرث ماو
ولكن مع تولي شي الحكم، شهدت البلاد صعوداً تدريجياً للماوية من ناحية، وصعوداً للتمجيد الشخصي لتشي جين بينغ من ناحية أخرى.
وتأتي مفارقة صعود الماوية في عهد الرئيس شي من أن والده كان قائداً في الثورة الشيوعية الصينية التي سيطرت على البلاد عام 1949، ولكن أطيح به خلال حملات التطهير أثناء الثورة الثقافية، التي نفذها الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ كما تعرضت أسرته للإذلال بسبب ذلك، ويتردد أن إحدى شقيقاته انتحرت بسبب ذلك، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط السعودية.
والآن يسير شي على خطى ماو في تنصيب نفسه زعيماً تاريخياً للبلاد.
وفي هذا السياق، أعلن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم أن الفلسفة السياسية للرئيس شي جين بينغ قد أضيفت إلى دستور الحزب تحت اسم "فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد"، في خطوة رمزية تضع رجل الصين القوي بمرتبة مؤسس النظام ماو تسي تونغ.
ورحبت مجموعة من المحافظين في الصين تتوق إلى ما كانت عليه الأمور في عهد مؤسس الصين الشيوعية ماو تسي تونغ، بما وصفوه بأنه "عهد جديد" من الاشتراكية وتأكيد المساواة مع الرئيس شي جين بينغ.
والأحد الماضي، في خطابه الرئيسي ضمن افتتاح مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، أبدى الرئيس الحالي شي عدم رضاه عن قائمة من العوامل تراكمت خلال العقد الذي سبق حكمه.
والآن بدأ عصر السياسات القومية الحازمة داخلياً وخارجياً مع إعلاء شأن الرئيس
في عهد شي، استطاعت الصين تحقيق نهضة اقتصادية سريعة جداً، الأمر الذي وفر لها تراكمات وفوائض مالية تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، فتحت لها مسالك إلى العالم الخارجي عبر الاستثمار السريع المعتمد على الأموال الساخنة، الأمر الذي اختصم كثيراً جداً من النفوذ الأمريكي والأوروبي.
نمت القومية الصينية مع شي جين بينغ بشكل متسارع جداً، ودعمتها وسائل الإعلام الصينية في هذا الإطار بقوة، وكان التركيز على شخصه عميقاً وواسعاً، الأمر الذي حدا بالبعض إلى أن يتهموه بأنه يسعى إلى تأليه نفسه، أو تكريس ذاته زعيماً تاريخياً مثل ماو تسي تونغ أو ربما أهم منه.
ومن وجهة نظر النقاد الغربيين أن حكم الرئيس الصيني اتجه للتشدد في ملفات عدة، أبرزها إضافة إلى سيطرته الشخصية على السلطة، تأكيد دور الصين القومي خارجياً، واتخاذ نهج قومي متشدد في الداخل كما بدا من تقليل الحريات في هونغ كونغ، والقمع الصادم للإيغور الذي يوصف بالإبادة الثقافية، إضافة لمراقبة واسعة لوسائل التواصل الاجتماعي بما في ذلك على المستوى الشخصي، بشكل ضيّق الحريات الشخصية، وخلق نمطاً من تقييم إلكتروني للمواطنين بناءً على التزامهم بمعايير الدولة التي تزداد صرامة، وأصبح لكل مواطن نصيب من النقاط يتحدد حسب انصياعه لتعليمات الدولة، وقد يؤدي عدم التزامه لحرمانه من السفر أو مميزات أخرى.
كيف فرض شي سيطرته على الحزب الشيوعي والفضاء الإلكتروني؟
كانت إحدى وسائل سيطرة شي على الحزب الشيوعي، وتوطيد سلطته هي إيجاد حل لما وصفه بأنه أزمة أيديولوجية، حيث قال إن الإنترنت يشكل تهديداً وجودياً للحزب الشيوعي الصيني، إذ تسبب في فقدان الحزب سيطرته على عقول الناس، ولذلك اتخذ شي إجراءات صارمة ضد أصحاب المدونات والنشطاء عبر الإنترنت، وفرض رقابة على المعارضة، وعزز "جدار الحماية العظيم" الصيني لتقييد الوصول إلى مواقع الإنترنت الأجنبية، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك هي خنق مجتمع مدني ناشئ والقضاء على رأي عام من شأنه أن يشكل رقابة على شي، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندت عربية".
أما الخطوة الأخرى التي اتخذها فهي إطلاق حملة لمكافحة الفساد، واصفاً إياها بأنها مهمة ترمي إلى إنقاذ الحزب من التدمير الذاتي، ونظراً إلى استشراء الفساد في الصين واعتبار كل مسؤول تقريباً هدفاً محتملاً له، تمكن شي من استخدام الحملة كتطهير سياسي، وتشير البيانات الرسمية إلى أنه من ديسمبر/كانون الأول 2012 إلى يونيو/حزيران 2021، تحرى الحزب الشيوعي الصيني عن 393 شخصاً من الكوادر القيادية فوق المستوى الوزاري الإقليمي، أي المسؤولين الذين يتم إعدادهم غالباً للمناصب العليا، كما استقصى عن 631 ألف شخص من الكوادر على مستوى الأقسام، وهم المسؤولون الذين ينفذون سياسات الحزب على مستوى القاعدة الشعبية، وقد أوقع التطهير ببعض أقوى المسؤولين الذين اعتبر شي أنهم يمثلون تهديداً له، بما في ذلك تشو يونغ كانغ، عضو سابق في اللجنة الدائمة ورئيس جهاز الأمن الصيني، وسون زينغ كاي، عضو المكتب السياسي الذي رآه كثيرون منافساً وخليفة محتملاً لشي.
قلل دور شركات القطاع الخاص وفرض إقامة جبرية على أغنى رجل بالبلاد
ورغم عدم تخلي الصين عن رأسماليتها، يُظهر حكم الرئيس الصيني، ميلاً إلى تعزيز دور الدولة وشركاتها في الاقتصاد، وتهميش دور القطاع الخاص الصيني النامي.
وتوترت العلاقة بين أثرياء البلاد والحزب الشيوعي الحاكم، جراء حملة "الرخاء المشترك"، التي تصفها المصادر الغربية بالشعبوية.
وكان أبرز ضحايا هذه الحملة الملياردير الصيني وأغنى رجل بالبلاد جاك ما مؤسس مجموعة علي بابا الذي أوقفت الحكومة خطته لتنظيم أكبر اكتتاب في العالم لطرح أسهم مجموعته المالية العملاقة، ويُعتقد أنه مُنع من السفر، ووُضع لفترةٍ قيد الإقامة الجبرية، كما قُيد نشاطه الإعلامي بعد أن كان رمزاً للنخبة الصينية الثرية الجديدة.
كانت أزمة جاك ما مؤشراً على نهاية العصر الذهبي لرجال الأعمال وغيرهم من أثرياء الصين، فبعد أن وجّه انتقادات عنيفة للقواعد التنظيمية المالية التي وضعتها الصين، واتّهمها بأنها تخنق الابتكار عام 2019، اختفى جاك ما تماماً، عن الأنظار، وسط اتخاذ بكين جملة من الإجراءات وضعت إمبراطوريته المالية في حالة من الفوضى.
ويعتقد أن هناك الآلاف من أثرياء الصين يريدون مغادرة البلاد، وتقدر ثرواتهم التي يريدون سحبها من الصين بنحو 48 مليار دولار خلال العام الجاري، حسب تقديرات شركة استشارات Henley & Partners البريطانية، وذلك نتيجة الإغلاق في شنغهاي وسياسة صفر كوفيد وحملة الرخاء المشترك.
كما فرضت الحكومة قيوداً على دور الشركات الصينية الخاصة في النظام المالي الداخلي ولا سيما مساعيها للتوسع في شبكات الإقراض والدفع عبر شبكات الهاتف المحمول.
وشملت سياسات تشي أيضاً انتقاد بذخ الطبقات الغنية، والتأكيد على ضرورة تعزيز دورها الاجتماعي، ويأتي ذلك في ظل مؤشرات أن الفجوة بين الأغنياء وباقي السكان باتت مشكلة اجتماعية بعد تفاقمها بشكل كبير، حيث أصبح بذخ الأغنياء مستفزاً للفقراء والطبقة الوسطى في وقت أصبح سلم الصعود الاجتماعي أصعب على كثير من الطبقات مع نضوج الاقتصاد الصيني، وتكون طبقة من المليارديرات التي يصعب الانضمام إليها وتراجع معدلات النمو.
تحويل شركات التكنولوجيا لأفرع استخباراتية
في الملف الخارجي، يعتقد أن الحكومة الصينية عززت قبضتها على الشركات العاملة في الخارج، بما في ذلك استخدام شركات التكنولوجيا لصالح الأهداف السياسية، كما ظهر في فضيحة التجسس المنسوبة لشركة هواوي على مقر الاتحاد الإفريقي الذي بنته الصين في أديس أبابا، وأدت هذه السياسات لتشجيع حملة الولايات المتحدة الأمريكية على شركات التكنولوجيا الصينية، لا سيما هواوي، رغم أن الشركات الأمريكية قد تكون تخترق خصوصيات العالم بقدر أكبر بمراحل من نظيراتها الصينية.
كما أصبحت الصين تتخذ نهجاً أكثر صرامة فيما يتعلق بسياسة إعادة ضم تايوان، وإن كان المحللون الغربيون يميلون لتجاهل الدور السلبي لتايوان والغرب في دفع بكين للتشدد في هذه المسألة، ويتناسون أن الرئيس الصيني الحالي عقد أول لقاء بين رئيس صيني ونظيره التايواني حينما التقى الرئيس التايواني السابق ما ينج جيو، الذي ينتمي لحزب الكومينتانغ، في سنغافورة عام 2015 في مؤشر على رغبته في التهدئة مع تايوان والتوحيد السلمي.
ويتجاهل المراقبون الغربيون أن تايبيه هي التي سارعت- خاصة في عهد الحزب التقدمي الحاكم حالياً- للتخلي عن سياسة الصين الواحدة المتفق عليها عالمياً، كما أن الغرب يشجعها بشكل لافت على الانفصال، كما ظهر في زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي المثيرة للجدل لتايببه.
في السياسة الخارجية، يتهم الغرب الصين في عهد تشي بأنها تنتهج نهجاً قومياً متشدداً، كما ظهر في توسع مطالباتها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وتشييدها عدداً من الجزر الصناعية لهذا الغرض، وتحديها للغرب في العديد من المؤسسات الدولية، إضافة لمبادرة الحزام والطريق وتقديم قروض بعشرات المليارات للعالم الثالث.
والواقع أنه رغم أن سياسة الصين الخارجية أكثر صرامة من السابق، إلا أنها تظل أقل حدة من سياسات الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وكذلك روسيا.
ففعلياً الصين أقرب للحياد، في معظم القضايا الدولية، وترفض التورط في النزاعات وعدد قواعدها في الخارج محدود، وأغلب ممارستها السياسية الخارجية إما بعيدة المدى وهادئة، أو تأتي كردود أفعال على الممارسات الغربية.
دور الغرب في دفع الرئيس الصيني للتشدد
يبدو التغير في سياسات الصين في عهد الرئيس الحالي، مثيراً للاستغراب على الأقل من وجهة نظر غربية، لماذا يغير الرجل سياسة الصين الحكيمة التي نهضت باقتصاد البلاد وكفلت لها تجنب تحدي الغرب، وفي الوقت نفسه تتدفق الأموال والتكنولوجيا منه، كما أن سياسة أسلافه، كانت يمكن أن تضمن من وجهة نظر العديد من المراقبين الغربيين انتقالاً تدريجياً وبطيئاً ولكنه سلس من سلطة حكم الحزب الاستبدادي المؤسسي المنفتح بتحفظ إلى حكم ديمقراطي أو شبه ديمقراطي.
يتجاهل الغرب دوره في هذا التغير بدءاً من صعود الخطاب المناهض للصين في السياسة الغربية، إلى جانب استغلال الغرب لمطالب الشعوب الديمقراطية المشروعة في كثير من الأحيان لتحقيق مصالح غربية بالأساس، على حساب مصالح الأمم المنافسة له، مما جعل كثيراً من القوميين في العديد من الدول العالم ينظرون للدعوات الغربية للديمقراطية، باعتبارها أداة غربية لنشر الفوضى.
وهو ما يظهر في تلاعب الغرب مع الصين في ملفي تايوان، وهونغ كونغ، وحتى في ملف الإيغور، فرغم أنه من الواضح أن هناك مقداراً هائلاً للاضطهاد الصيني للإيغور، إلا أنه من الواضح أيضاً أن الغرب يتلاعب بالملف لمساومة بكين أكثر من حرصه على حقوق مسلمي الإيغور.
دوافع الرئيس الصيني لتغيير سياسة بلاده بهذه الحدة
ولكن بطبيعة الحال فإن هناك دوافع ذاتية لسياسة الرئيس الصيني المتشددة سواء الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية.
فقد رصد عدد من المحللين بشكل واضح أن الرئيس شي يخشى من أن يؤدي الانفتاح السياسي في الاقتصاد إلى انهيار أو تفكك البلاد مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي.
فهو يرى المخاطر التي تهدد الصين من خلال منظور انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي ألقى باللوم فيه على التهاون الأيديولوجي والقيادة الضعيفة.
فلقد سبق أن قال الرئيس شي إن جمهوريات البلطيق كانت من بين الجمهوريات الأكثر تطوراً في الاتحاد السوفييتي، ولكنها كانت أول من غادر عندما انهار الاتحاد.
ثم أضاف "أن الرخاء النسبي ليوغوسلافيا لم يمنع كذلك تفككها، حيث قال في هذا الشأن: "يقال إن التنمية هي الأولوية العليا والأساس لتحقيق الأمن الدائم، هذا صحيح لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أنه بالاعتماد على التنمية ستحل كل المشاكل من تلقاء نفسها".
لماذا يضطهد الرئيس الصيني الإيغور أكثر من غيرهم؟
لم يشكل عنف المقاتلين المنسوبين للإيغور تهديداً للسيطرة الصينية على المنطقة، على الرغم من أن بعض الهجمات أصبحت أكثر فتكاً بعد سنة 2009 حين توفي ما يقارب 200 شخص في أعمال العنف العرقية في أورومتشي، إلا أنها ظلت بشكل نسبي صغيرة ومتفرقة وغير معقدة.
وكان أغلب العنف مرتبطاً بالاستيطان الصيني واسع النطاق في الإقليم الذي يفترض أنه من الناحية النظرية يتمتع بالحكم الذاتي.
وفي الأغلب فإن قمع الرئيس الصيني للإيغور الذي يندر أن نرى مثيلاً له في التاريخ، ليس نابعاً فقط من خوفه من التطرف الديني المزعوم بينهم أو الطموحات القومية لأبناء الإقليم الذي ينتمي سكانه للعرق التركي مثل جيرانهم من سكان آسيا الوسطى فقط.
ولكن على الأرجح، إن قمع الإيغور الذين يمثلون بالنسبة للصينيين، جماعة إثنية خارجية أو غريبة، يهدف إلى ردع أي طرف يفكر في أي نزعات انفصالية أو حتى نزعات للتعبير عن الهوية، ويقدم درساً لا ينسى يمنع تكرار المحاولة في مناطق الصين الأخرى، خاصة تلك المختلفة عرقياً مثل التبت أو منغوليا الداخلية.
كما أن الرسالة قد تكون موجهة أيضاً إلى مناطق الصين الرئيسية والتي أغلب سكانها من قومية الهان (القومية الرئيسية التي تمثل أكثر من 90% من سكان البلاد).
ففي العديد من مناطق جنوب الصين تسود أشكال من قومية الهان مختلفة بشكل كبير لغوياً وإثنياً عن معقل هذه القومية في الشمال الصيني، فالشعب الكانتوني على سبيل المثال (الذي ينتمي إليه أغلب سكان هونغ كونغ ومناطق واسعة من جنوب الصين) وشعب الهاكا (أغلب سكان تايوان ومناطق واسعة من جنوب شرق الصين)، يتحدثون لغات مختلفة عن الصينية الرئيسية (لغة بكين)، ولهم جذور قديمة مختلفة، وأدى النمو الاقتصادي الذي تركز بشكل كبير في الشرق والجنوب الشرقي، لفوارق أكبر بين هذه المناطق وبين وسط وشمال الصين (حيث معاقل القومية الصينية التقليدية).
كما أدى نمو هونغ كونغ إلى ازدهار ثقافة كانتونية منافسة لثقافة الصين المركزية، وكذلك الأمر مع تايوان التي أدى ازدهارها لصعود ثقافات محلية شبيهة لها في جنوب شرق الصين.
كل ذلك يعني الحاجة لتأكيد فكرة الصين المركزية القوية المستندة لثقافة الشمال إلى حد بعيد، وتهميش وشيطنة نموذج تايوان تحديداً التي يمكن أن تنقل آثار دعواتها الانفصالية لبر الصين الرئيسي، خاصة في المناطق الساحلية المتاخمة لها والقريبة لتايوان ثقافياً ولغوياً أكثر من قربها لبكين.
لماذا يخشى الرأسمالية الصينية التي ساهمت في صنع معجزة البلاد الاقتصادية؟
على الصعيد الطبقي، الرجل يقلق من التأثير السلبي للرأسمالية الصينية وخاصة تداعيات الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الصين، خاصة أن هذه الفجوة تدريجياً تزداد توسعاً وبدأت تخلق توتراً طبقياً في مجتمع يحكمه حزب شيوعي، الأمر الذي يجعل الحزب نفسه هدفاً للنقمة الطبقية.
ولذلك فإن الرئيس الصيني لم يقضِ على الطبقة الرأسمالية الصينية، ولكنه خلق مساحة بينها وبين الحكم من ناحية، وهمّش نفوذها من ناحية أخرى.
ويجب ملاحظة بعض المنطق في حملة الرخاء المشترك، وهي أن الرأسمالية الصينية كانت غالباً تخضع لمعدلات ضرائب أقل من معظم نظيراتها الغربية، نظراً للإعفاءات الضريبة الواسعة التي وفرتها البلاد لرؤوس الأموال في سنوات التركيز على النمو، وكذلك ضعف النظام الضريبي للدولة التي كانت قد خرجت قبل بضعة عقود من نظام شيوعي لم يعرف الرأسمالية، وبالتالي لم يعرف الضرائب، وعندما انفتح اقتصادياً توسعت الرأسمالية أسرع من معدل الرقابة الضريبية، مما يجعل الصين الشيوعية أكثر رأسمالية وطبقية من معظم الدول الغربية.
كما أن قوة الرأسمالية الصينية، قد تعني أنها تصبح مثل الرأسمالية الغربية قد تملي أجندتها ولو جزئياً على الحكومات وليس العكس.
الأهم أن الرئيس الصيني يتخوف من أن توسع دور الشركات في القطاع المصرفي والمالي قد يؤدي لأزمات مالية مثلما حدث في أزمة 2008 في الغرب، ولأن الصين منذ انفتاحها الاقتصادي لم تشهد أزمة مماثلة، فإنه لا يُعرف تأثير مثل هذه الصدمات على البلاد، خاصة أن الأزمات في الغرب تفضي لتغيير الأحزاب الحاكمة عبر الانتخابات، ولكن هذا أمر غير ممكن في الصين.