“قارة الملوك والأمراء”.. لماذا يُنشِئ عدد كبير من الأستراليين دولاً منفصلة داخل بلادهم؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/10/24 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/24 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون/رويترز

تشهد أستراليا انتشاراً لظاهرة غريبة لو حدثت في بلد آخر، لقوبلت برد فعل عنيف في الأغلب، ألا وهي ظاهرة الدول المجهرية التي يؤسسها أفراد يزعمون أنهم استقلوا بقطعة أرض داخل البلاد وينشئون حكومة مزعومة.

فنحو ثلث الدول المجهرية في العالم تتواجد في أستراليا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.

ولكن لماذا تتوسع هذه الظاهرة في البلاد، وكيف تتعامل معها السلطات؟  

قصة "إمارة واي" التي أسسها مواطن بسبب خلاف على طريق

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، توجه الفنان بمدينة سيدني الأسترالية بول ديلبارت إلى مبنى بلدية موسمان. وكان "مواطن العام في موسمان" عام 1996 قد شنَّ بمفرده معركة ضد الحكومة المحلية طوال أكثر من عقد من الزمن في الضاحية الساحلية الثرية. تعود هذه القصة الطويلة إلى عام 1993، حين تقدَّم ديلبارت لأول مرة بطلب لبناء طريق سيارات بطول 25 متراً عبر محمية أدغال من أجل تسهيل الوصول إلى منزله. جرت الموافقة على طلبه، لكنَّ تغييراً أُدخِلَ على خطة المجلس المحلي البيئية من أجل حماية الأدغال قد ألغى هذه الموافقة. فأُعيدَ تقسيم الأرض، وجرى إرجاء خطط إنشاء طريق السيارات.

لم يتقبَّل ديلبارت ذلك بسهولة، فقدَّم العديد من الاحتجاجات للمجلس. لكن بحلول عام 2004، كان مجلس بلدية موسمان قد رفض كل اعتراضاته. ماذا يمكن أن يفعل غير ذلك؟ أوضح ديلبارت أنَّه بدا أنَّ هنالك احتمالية واحدة: "بعدما جرى فصلنا عن موسمان، لم يكن بوسعنا إلا أن نرد بالمثل".

سار ديلبارت، مرتدياً تاجاً من أوراق الشجر الذهبية ورداءً أبيض فضفاضاً، إلى مكتب العمدة شيرلي جينكينز. سلَّم ديلبارت، الذي كان يرافقه صحفيون من الصحافة المحلية المطبوعة وطاقم من التلفزيون الوطني، وثيقة ذات مظهر رسمي. أعلنت الوثيقة أنَّ منزله قد انفصل ليُنشئ دولة جديدة تُدعى "إمارة واي" (على اسم منطقة ويارجين بوينت المجاورة).

أبناؤه محرجون من الألقاب الملكية التي منحها لهم

وفي لحظة، صار بول ديلبارت هو الأمير بول، وأصبح كفاحه من أجل إنشاء ممر للسيارات خلافاً دبلوماسياً بين بلدين. كان الأمير بول يأمل أن يمكن تسوية الوضع ودياً. لكن للأسف، كانت الجارة الأكبر بكثير رافضةً لذلك. ففي عام 2010، قالت آن كونون، العمدة الجديدة: "انظر إلى الأمر بدرجة من التسلية الساخرة. لكنَّها ليست ذات أهمية كبيرة".

لم يُقنِع الأمير بول (حتى الآن) المجلس بالسماح ببناء طريق السيارات. مع ذلك، فإنَّ الحرب باهظة الثمن بالنسبة لكل الأطراف. تشير تقارير إلى أنَّ المجلس أنفق أكثر من 130 ألف دولار للدفاع عن إجراءاته في "محكمة الأرض والبيئة". وفي حين نجح المجلس في هذه الجبهة، فإنَّه يجد نفسه في مواجهة عدو مبدع؛ إذ أعدَّ الأمير بول خططاً أولية لبناء جسر متحرك شبيه بجسور قلاع العصور الوسطى من أجل تسهيل الوصول إلى منزله في نهاية المطاف دون الإضرار بالأدغال المحمية.

لكن لعل التحدى الأكبر الذي يواجه الإمارة هو من الداخل. إذ يعترف الأمير بول بأنَّ أبناءه الراشدين "محرجون بعض الشيء" من الألقاب الملكية التي منحها لهم. لكنَّ الأمير بول لا يبالي. فمثلما يوضح، تستمر إمارة واي في الازدهار اليوم، وتقف "باعتبارها منارة للأمل لجميع المضطهدين بسبب البيروقراطية". وقد تكون أفعال ديلبارت غريبة، وربما حتى شاذة، لكنَّها ليست فريدة؛ إذ أنشأ أفراد غريبو أطوار ومغامرون من مختلف أنحاء العالم بلدانهم المجهرية الخاصة لهذه الأسباب وغيرها الكثير.

بعضها أكبر من الفاتيكان.. ظاهرة الدول المجهرية تتوسع في أستراليا

تُعَد الدول المجهرية ظاهرة عالمية. لكنَّ السهولة التي يمكن بها إنشاء (وإلغاء) هذه البلدان تجعل من الصعب بمكان معرفة عددها الإجمالي حول العالم. لكن هناك نقطة واحدة واضحة، وهي أنَّ عدداً كبيراً نسبياً من الدول المجهرية موجود في أستراليا. وتشير بعض التقديرات إلى أنَّ ثلث إجمالي البلدان المجهرية موجود هناك.

وربما سمعتم ببعضها؛ إذ أنشأ الأمير ليونارد "إمارة هوت ريفر" بسبب نزاع بشأن حصص القمح في السبعينات. وأُنشِئَت "مملكة جزر بحر كورال للمثليين والمثليات جنسياً" احتجاجاً على قانون صدر عام 2004 يحظر الزواج من نفس الجنس. وتقع "إمبراطورية أتلانتيوم" في ولاية نيو ساوث ويلز ولديها أكثر من 3 آلاف مواطن، وهو ما يمثل نحو أربعة أضعاف سكان الفاتيكان.

والسبب طريقة تعامل السلطات معها

يُعَد نهج أستراليا المتساهل جزءاً من السبب في وجود عدد كبير للغاية من تلك الكيانات الطامحة في أن تتحول إلى دول هناك. ففي حين قد تحاول العديد من الدول قمع المتمردين المحتملين إما من خلال قوة السلاح أو قوة القانون، تتسامح أستراليا إلى حدٍ كبير مع الأشخاص المغامرين المصممين وغريبي الأطوار الذين يدَّعون إنشاء بلدهم الخاص، طالما ظلّوا يدفعون الضرائب ويتبعون قواعد الطرق. ويعكس النهج الأسترالي ثلاثة محاور رئيسية.

الأول، حقيقة أنَّ الانفصال عن الدولة وإعلان إنشاء بلد خاص يتماشى مع الثقافة الأسترالية التي تحتفي بالمشاكسة والسخرية من السلطة.

وأظهر رد الفعل العام إزاء القيود التي فرضتها الحكومات بسبب جائحة كوفيد 19 أنَّ الأستراليين بصفة عامة يرضون باتباع القواعد. لكن حتى لو كان الأستراليون "مطيعين للغاية"، فإنَّهم يظلون "مرتابين من الأشخاص الموجودين في السلطة".

عزلة البلاد تجعلها لا تخشى هذه المغامرات رغم أنها شهدت محاولة انفصالية حقيقية

سبب ثان للعدد الملحوظ من البلدان المجهرية في أستراليا يعتمد على مفهومي الأمن والاستقرار؛ إذ تشغل أستراليا قارة كاملة ولديها عدد قليل من المخاوف الأمنية الواضحة. ولهذا السبب، تنظر إلى البلدان المجهرية باعتبارها أمراً غير مهم، أو الأسوأ من ذلك، باعتبارها مصدر إزعاج، وليست تهديداً حقيقياً. وهذه النظرة تختلف كثيراً عن الاتجاه الذي قد تتبناه البلدان صاحبة التاريخ المضطرب مع التمرد.

الدول المجهرية
ولاية أستراليا الغربية صوت في الثلاثينات على الانفصال عن البلاد/ويكيبيديا

ولتهديدات الانفصال تاريخ طويل في أستراليا. ففي ثلاثينات القرن الماضي، صوَّتت ولاية أستراليا الغربية على مغادرة الاتحاد الفيدرالي الأسترالي، في حين يتصادم رؤساء وزارة الولاية بصورة روتينية مع كانبيرا. ووجدت دراسة أُجريَت خلال جائحة فيروس كورونا أنَّ 28% من سكان أستراليا الغربية يرغبون بالانفصال.

مع ذلك، نادراً ما يكون القصد من دعوات الانفصال هو أن تُؤخَذ على محمل الجد. بل يكون القصد منها أن تشير إلى الانزعاج من السياسات أو الإجراءات التي تتخذها أو تتبناها الحكومة الفيدرالية.

والبلد شاسع المساحة، ولذلك تتوفر أراضٍ لكل من يريد أن يصبح ملكاً

ويتعلَّق السبب الأخير بالمكان نفسه. فأستراليا بلد كبير يقطنه عدد صغير نسبياً من السكان. 

ففي ظل وجود 25 مليون نسمة يشغلون أكثر من 7.6 مليون كم مربع، تملك أستراليا كثافة سكانية تبلغ ثلاثة أشخاص لكل كم مربع. ويضع هذا أستراليا في المرتبة 192 من بين 194 بلداً من حيث الكثافة السكانية في العالم، ولا يليها إلا ناميبيا ومنغوليا.

بالتالي، هناك مساحة كبيرة من أجل الأشخاص الراغبين في إنشاء بلدانهم الخاصة.

والنتيجة أن البلد الذي كان كثير من مهاجريه الأوائل من السجناء المنفيين من الجزر البريطانية، أصبح فيه الآن أكبر عدد من الملوك، وبات يمكن تسمية أستراليا بقارة الملوك والأمراء.

تحميل المزيد