رغم الحرب المدمرة في أوكرانيا، والعقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب، لا يزال هناك مجال واحد للتعاون بين موسكو وخصومها، وهو الفضاء، حيث يعد التعاون الفضائي وتحديداً في محطة الفضاء الدولية (ISS) أحد أشكال التعاون الفريد الذي لا يزال مستمراً بين روسيا وأمريكا.. فما سبب استمرار هذا التعاون؟
الفضاء لا يزال رمزاً للتعاون الناجح بين روسيا والغرب
أدت الحرب الروسية في أوكرانيا وما أعقب ذلك من فرض عقوبات شديدة على روسيا إلى وقف معظم أشكال التعاون بين موسكو والغرب في المجالات السياسية والعلمية والأكاديمية والاقتصادية وحتى الفنية، لكن التعاون الفضائي وتحديداً في محطة الفضاء الدولية (ISS) يعد استثناء من كل ذلك.
ففي الأسبوع الماضي، أصبحت آنا كيكينا أول رائدة فضاء روسية تنطلق إلى الفضاء على متن مركبة أمريكية منذ 20 عاماً، وكانت وجهتها محطة الفضاء الدولية برفقة رائدي فضاء من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) هما نيكول مان وجوش كاسادا ورائد الفضاء الياباني كويشي واكاتا.
وستبقى كيكينا لأكثر من أربعة أشهر في المحطة الفضائية، فيما تعد الرحلة خامس مهمة لـ"سبايس إكس" إلى محطة الفضاء الدولية لحساب ناسا. وقد جرى الإعلان عن انضمام كيكينا إلى المهمة في يوليو/تموز في إطار التبادل بين روسيا والغرب والذي بموجبه انطلق رائد فضاء من ناسا على متن صاروخ روسي إلى الفضاء صوب محطة الفضاء الدولية، بحسب وكالة دويتشه فيله الألمانية.
ويمتد التعاون الفضائي بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي واليابان من جهة أخرى في إطار "محطة الفضاء الدولية" إلى أكثر من 25 عاماً ويُنظر إليه باعتباره رمزاً للتعاون الناجح بين روسيا والغرب في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ويعد أيضاً أحد مجالات التعاون المستمرة بين روسيا والغرب، رغم الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي.
وتعد محطة الفضاء الدولية أكبر محطة فضائية في مدار أرضي منخفض، فضلاً عن أنها تمثل أطول تواجد بشري في الفضاء يمتد لقرابة عشرين عاماً. فيما يتم استخدامها كمختبر فضائي، حيث أُجريت آلاف التجارب في علم الفلك والفيزياء وعلم الأحياء الدقيقة على مدى العقدين الماضيين.
وتتألف مكونات المحطة من جزأين: الأول يتم تصنيعه وتشغيله عن طريق روسيا، والجزء الثاني يتم تصنيعه وتشغيله من قبل الولايات المتحدة بدعم من الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان؛ فيما تعد روسيا مسؤولة عن الجزء المتواجد في المدار.
"الروس يقدمون الدفع والأمريكيون يقدمون القوة"
الجدير بالذكر أن محطة الفضاء الدولية تقع في مسار السقوط الحر الذي يخلق إحساساً بانعدام الوزن أو ما يُعرف بـ"الجاذبية الصغرى"؛ ما يدل على أن الجاذبية على متن المحطة ليست منعدمة تماماً.
ويعود بقاء المحطة في المدار إلى أنها تدور حول الأرض بسرعة كافية لتعويض كونها في مسار السقوط الحر، إذ إنها تتحرك بسرعة تقارب ثمانية كيلومترات في الثانية؛ أي ما يعادل أكثر من عشرين ضعف سرعة رصاصة من عيار 9 ملم.
ورغم أن هذه السرعة قادرة على إبقاء المحطة في مكانها، إلا أنه في بعض الأحيان قد تختل المسافة العمودية ما يتطلب دفعة إضافية للبقاء على ارتفاع 400 كيلومتر فوق الأرض، وهو الأمر الذي توفره روسيا.
وفي مقابلة مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية في يوليو/تموز الماضي، قال بيل نيلسون، مدير ناسا، إن هناك حاجة إلى استمرار التعاون بين البلدين. وأضاف أن "الروس يقدمون الدفع والأمريكيين يقدمون القوة. وسوف نواصل الحفاظ على علاقة مهنية للغاية بين رواد الفضاء لإبقاء محطة الفضاء الدولية على قيد الحياة".
التعاون العلمي في الفضاء
تختلف حالة السقوط الحر عن حالة الجاذبية على الأرض، فيما تركز الأبحاث على متن محطة الفضاء الدولية التي تدور حول الأرض 16 مرة في اليوم، على دراسة تأثير الرحلات الفضائية طويلة الأمد على صحة رواد الفضاء. ويعد هذا الأمر ضرورياً لتقييم مدى التأثير في حالة انطلاق رحلات بعيدة ولفترات أطول على سبيل المثال إلى الكوكب الأحمر "المريخ".
وقد استطاع العلماء من خلال التجارب التي أجريت على متن محطة الفضاء الدولية (ISS) معرفة أن العظام تفقد كثافتها في الجاذبية الصغرى، لذا يتعين على رواد الفضاء القيام بتدريب رياضي لمدة ساعتين يومياً للحفاظ على كتلتهم العضلية.
ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل يمكن أن تساهم المشاريع الأخرى على المحطة في تحسين حياة البشر على الأرض، مثل تجربة إعادة تدوير المياه على متن المحطة. إذ استطاع رواد الفضاء عن طريق تقنية "التناضح الأمامي" تنقية البول وتحويله إلى مياه للشرب.
وتعد هذه التنقية أسرع من تقنية "التناضح العكسي" المستخدمة على الأرض؛ مما يعني أنه يمكن الاستفادة من هذه التجارب الفضائية مستقبلاً لمساعدة المناطق التي تعاني من شح في المياه.
هل يمكن أن يستمر التعاون الروسي الغربي في الفضاء؟
أعلنت روسيا في يوليو/تموز الماضي أنها تعتزم مغادرة محطة الفضاء الدولية "بعد عام 2024″، وفق ما أفاد به الرئيس الجديد لوكالة الفضاء الروسية "روسكوزموس" يوري بوريسوف، الذي تم تعيينه في المنصب في منتصف تموز/يوليو الماضي، في تصريحات نشرها الكرملين: "بالطبع، سنفي بكافة التزاماتنا لشركائنا، لكن تم اتخاذ القرار بمغادرة هذه المحطة بعد العام 2024".
لكن وفقاً لما ذكره بيل نيلسون، فإن ناسا لم تتلقّ أي إخطار رسمي من روسيا، فيما قال المدير التنفيذي لبرامج "روسكوزموس" لرحلات الفضاء البشرية، سيرغي كريكاليف، خلال مؤتمر صحفي قبل إطلاق مهمة "سبيس إكس 5" إن التعاون قد يمتد إلى ما بعد عام 2024.
في المقابل، تعهدت الولايات المتحدة باستمرار التعاون الأمريكي في إطار محطة الفضاء الدولية حتى نهاية العقد، إذ وقع الرئيس جو بايدن مطلع أغسطس/آب الماضي على قانون من شأنه أن يمدد مشاركة ناسا في المحطة لمدة ست سنوات؛ أي حتى نهاية عام 2030.
هل يمكن لمحطة الفضاء الدولية الاستمرار دون روسيا؟
رغم ذلك، طرح علماء تساؤلات حول إمكانية استمرار عمل محطة الفضاء الدولية في حالة انسحاب روسيا؟ إذ يكتنف الأمر غموض. لكن فقد نجحت المركبة "سيغنوس" التابعة لشركة "نورثروب غرومان" في توفير دفعة ضرورية لاستمرار بقاء المحطة في مدارها في وقت سابق من هذا الصيف، فيما تأتي الرحلة في إطار رحلات مركبات الفضاء التجارية لحساب ناسا كما الحال مع "سبيس إكس".
لكن العلماء قالوا إن انسحاب روسيا من المحطة الدولية سوف يستغرق وقتاً ومالاً فيما لم تُعلن خطط حتى الآن. فيما يبدو أن النقاش السياسي حيال الحرب كانت له أصداء في الفضاء وبين رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية عندما اندلعت الحرب في أواخر فبراير/شباط الماضي، وفقاً لما ذكره رائد الفضاء الألماني ماتياس ماورر من وكالة الفضاء الأوروبية؛ إذ قال في مقابلة: "لقد تحدثنا في هذا الموضوع بشكل سريع وفعال، وقد اتفق الرواد في ذاك الوقت على الفور -بما في ذلك رواد من أمريكا وروسيا- على أنه لا أحد يفهم ماذا يحدث (في أوكرانيا) بالضبط".
وكان رائد الفضاء الأمريكي "مارك فاندي هي" قد كشف في أبريل/نيسان الماضي عن أن الحرب في أوكرانيا كانت موضوعاً للنقاش على متن محطة الفضاء الدولية. وقال بحسب ما نقلت دويتشه فيله: "بالنسبة لي، لم يكن هذا موضوعاً أتجنب النقاش حوله مع الزملاء"، مشدداً في الوقت نفسه على أن تركيز طاقم محطة الفضاء الدولية كان على العمل المشترك. وأضاف: "لقد كانوا وما زالوا وسيظلون أصدقاء أعزاء لي.. لقد دعمنا بعضنا البعض في كل شيء، ولم يراودني أي شك بشأن قدرتي على مواصلة العمل معهم.. إنهم احترافيون جداَ ويتمتعون بالكفاءة وسأظل أشعر بالسعادة؛ لأنني تواجدت معهم في محطة الفضاء".