بدأت حالات نقص الأدوية، والملابس، والمواد الغذائية تجتاح مصر في ظل محاولات الحكومة لحماية الجنيه المصري من التدهور بشكل حاد أمام الدولار.
وبرزت مصر كواحدةٍ من أكثر الدول تضرراً من الصدمات التي ضربت العالم نتيجة ارتفاع الدولار الأمريكي وتداعيات الحرب في أوكرانيا.
وسجلت العملة المصرية أدنى مستوياتها أمام الدولار بعد أن هبط سعر صرفها بنسبة 20% منذ مطلع العام الجاري، لتُصبح واحدةً من أسوأ العملات أداءً في العالم خلال العام الجاري. وأدى ضعف الجنيه إلى ارتفاع معدل التضخم ليبلغ 15%، في أسرع معدل ارتفاع للتضخم على أساس سنوي منذ نحو أربع سنوات.
وبعد أن خفضت الحكومة الجنيه المصري من نحو 15.5 ونصف بعد الحرب إلى 18.5، تماسك الجنيه في الأشهر الأخيرة حول 19.5، بينما بلغ سعره في السوق الموازية نحو 22.5 جنيه للدولار، في مؤشر على تمكن الحكومة بصعوبة من منع تدهور حاد في قيمته، ولكن الثمن كان باهظاً.
يقول اقتصاديون إن قيام الحكومة بوضع العقبات أمام الاستيراد، في محاولةٍ للحفاظ على احتياطيات النقد الأجنبي المتضائلة في البلاد، أدى إلى أزمات من نوع آخر في الأسواق، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وتحتاج مصر إلى الدولارات الأمريكية من أجل سداد ديونها الخارجية التي بلغت 158 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، وشراء الحبوب التي تحتاجها بشدة من الأسواق العالمية، ودعم عملة الجنيه المصري الآخذة في الانهيار، حسب وصف الصحيفة.
وتستقر بعض السلع عالقةً داخل الموانئ المصرية نتيجة العقبات الجديدة التي تمنع المستوردين من الوصول إلى الدولارات الأمريكية. كما زادت البنوك المصرية من صعوبة سحب العملاء للدولارات الأمريكية.
وأدت زيادة قوة الدولار الأمريكي إلى رفع أسعار الغذاء، والوقود، والأدوية حول العالم. مما تسبب في تأخير ونقص الواردات داخل الدول النامية بإفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
لكن في مصر، كان تأثير الأزمة مضاعفاً لأسباب عدة منها اعتماد مصر على السياحة الروسية والأوكرانية بشكل كبير، وكذلك كونها أكبر مستورد للحبوب في العالم، ولكن الأهم ضخامة ديون مصر بالدولار، والتي كانت القاهرة تعتمد على الأموال الساخنة الأجنبية لردها، ولكن هذه الأموال خرجت بسرعة بعد الأزمة الأوكرانية من أسواق الدولة الناشئة.
وهكذا ضربت الأزمة مختلف نواحي الحياة في مصر، وأحس بوطأتها كل الطبقات بما فيها الطبقة الغنية التي امتد تأثير تباطؤ الاستيراد إليها تحديداً إلى حيث وجدت نفسها عاجزةً فجأة عن العثور على سلعٍ فاخرة مثل أدوات المطبخ الأوروبية، والجبن الفرنسي، والسيارات.
وقال بيتر فرج، الذي يعمل بائعاً في أحد متاجر شركة Bosch الألمانية بالقاهرة، إنه فقد الكثير من زبائنه من الطبقة المتوسطة بالتزامن مع تناقص إمدادات مواقد الغاز والثلاجات والمجمدات.
كما امتدت تلك الصعوبات إلى السلع الأساسية المصرية مثل الخبز والمعكرونة. إذ تعرضت صناعة الحبوب الضخمة في مصر لضربةٍ شديدة على نحوٍ خاص. وأوضح عضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصرية كريم أبو غالي أن غالبية مطاحن القطاع الخاص لا تستطيع توفير الدولارات اللازمة لشراء القمح، الذي ارتفعت أسعاره بنسبة 20% خلال الشهر الماضي.
وأردف أبو غالي: "ليست هذه الاستراتيجية مستدامة". ولهذا طالبت الغرفة بتوفير وصولٍ أسرع إلى العملة. ومن المفترض أن تحصل المطاحن على جزءٍ من مخزونها عن طريق الحكومة، لكنها لا تزال في انتظار خطوات أوسع نطاقاً من البنك المركزي.
إعدام الكتاكيت لأن الأعلاف محتجزة في الجمارك
وصُدم الرأي العام المصري بفيديوهات تظهر مربين لصغار الدواجن (الكتاكيت)، يقومون بجمعها في أجولة تمهيداً لإعدامها بسبب نقص العلف.
وقال أحمد نبيل، نائب رئيس شعبة البيض باتحاد منتجي الدواجن، لـ"موقع مصراوي"، إن ما تردد خلال الأيام الماضية، عن أن بعض المربين بدأوا في إعدام الكتاكيت أو التصرف في بيعها، صحيح نتيجة عدم توافر الأعلاف؛ وهو ما يهدد منظومة الدواجن.
وأوضح نبيل أن هناك أزمة في قطاع الدواجن والبيض تهدد بخروج عدد كبير من المربين وصغار المربين من المنظومة، بسبب عدم توفر الأعلاف وارتفاع أسعارها.
وأضاف أن عدم توافر الأعلاف بالأسواق يأتي استمراراً للتأثر بتداعيات قرار الاعتمادات المستندية والتأخير في تدبير الدولار اللازم للإفراج عن الشحنات الموجودة بالموانئ، مشيراً إلى أن الموانئ مكدسة بشحنات الذرة والصويا التي تكفي احتياجات المربين وتزيد.
بينما يقول الاقتصاديون إن البنك المركزي المصري استخدم الاحتياطيات الأجنبية لدعم الجنيه، لكنه واجه صعوبةً في الحد من خسائر العملة. فيما يقول البنك المركزي إن مهمته الرئيسية تكمن في استهداف التضخم.
وبدأ المستثمرون الأجانب يفقدون ثقتهم في الاقتصاد. حيث باع المستثمرون الأجانب سندات مصرية بقيمة 179.2 مليار جنيه، أي ما يعادل 9.1 مليار دولار، إجمالاً في سوق السندات خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري بحسب بيانات البنك المركزي.
ومن المحتمل أن يمد صندوق النقد الدولي شريان حياةٍ إلى مصر. حيث دخلت السلطات المصرية في مفاوضات مع الصندوق على قرض جديد منذ مارس/آذار، رغم اعتبار مصر من أكبر عملاء الصندوق الحاليين في العالم بعد الأرجنتين مباشرةً. حيث حصلت مصر على قروض بقيمة 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي منذ عام 2016.
وأفاد مسؤولو الصندوق باحتمالية التوصل إلى اتفاق خلال أسابيع. بينما قدّر المحللون أن قيمة القرض ستبلغ نحو ستة مليارات دولار.
كما تعهّدت السعودية، وقطر، والإمارات بتخصيص نحو 22 مليار دولار للاستثمارات والودائع في البنك المركزي المصري. ويقول المحللون إن هذه المساهمات تستهدف مساعدة مصر على تجنب الأزمة الاقتصادية وضمان استمرار نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ورغم كل هذا الدعم، انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي المصرية من نحو 41 مليار دولار في فبراير/شباط إلى 33 مليار دولار في أغسطس/آب.
دولارات القروض استخدمت لبناء العاصمة الجديدة
واستغل السيسي القروض وثروات مصر الجديدة من الغاز الطبيعي لتمويل ثورة إنشائية تهدف لإعادة تشكيل البلاد، وبناء عاصمة إدارية جديدة، ورفع معدل النمو السنوي للحكومة إلى 6.6%. لكن بعض الاقتصاديين يقولون إن مصر دخلت في حالة ركود خلال العام الجاري، مع انهيار القطاع الخاص وسقوط المزيد من الناس في هوة الفقر. كما أن مشكلة الاستيراد تزيد من ضعف ثقة الشركات، وتضر بإنفاق المستهلكين.
وقال رامي محمد (32 عاماً)، الذي يمتلك شركة تشطيبات معمارية، إن مشاريعه انخفضت بمقدار النصف بعد فرض قيود الاستيراد في مارس/آذار.
وأوضح رامي أنه يدفع أربعة أضعاف السعر لشراء السلع التي يستطيع الوصول إليها. بينما قال عن أسرته: "أصبحنا نخرج لتناول الطعام مرةً واحدة فقط في الأسبوع، بدلاً من الخروج طوال عطلة نهاية الأسبوع. وأحاول تقليل استخدام السيارة أيضاً".
ولا شك أن فرض القيود على الاستيراد وتقديم الحوافز والدعم لصناعات بعينها يمكن أن يساعدا في تعزيز الإنتاج المحلي للبلاد. لكن العديد من الاقتصاديين يقولون إن مصر فشلت في وضع استراتيجية فعالة لدعم الصناعة المحلية.
بينما عدّل البنك المركزي قواعده في سبتمبر/أيلول حتى يسمح للمستوردين بالوصول إلى بعض مصادر العملة الأجنبية.
ويقول تيموثي كالداس، باحث الشأن المصري في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط: "يخلق القرار الأخير مساحةً للتنفس، لكنه لا يبتعد كثيراً عن جهود الحكومة لخنق الاستيراد". وأوضح أن أولوية السلطات لا تزال منصبّةً على حماية احتياطياتها من النقد الأجنبي.