يمثل رحيل شركة جوجل عن الصين مؤخراً نموذجاً للعلاقة الغريبة التي تربط الصين وشركات التكنولوجيا الأمريكية، فهي أكبر مستفيد منها حتى أكثر من الولايات المتحدة نفسها وفي الوقت ذاته عزلت شعبها عن تأثيرها بشكل شبه مطلق.
وأعلنت شركة جوجل، أول من أمس الإثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أنها أغلقت خدمة الترجمة من Google في الصين، مبررةً القرار بالاستخدام المنخفض للخدمة في البلاد.
ويمثل إغلاق Google translate في الصين نهاية أحد آخر منتجات Google المتبقية في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وكان لجوجل أصلاً وجود محدود للغاية في الصين منذ أكثر من عقد بعد أن سحبت الشركة محرك البحث الخاص بها من السوق في عام 2010 مع وجود لاعبين محليين، من ضمنهم Baidu وTencent، يهيمنون على عالم الإنترنت في البلد الذي يمثل أكثر من خمس سكان العالم.
العديد من شركات التكنولوجيا الأمريكية محظورة في الصين
ورغم أن الصين تستضيف مجموعة من كبريات شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تصنع منتجاتها في الصين وتعيد تصديرها إلى بقية العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، فإن معظم شركات خدمات الإنترنت العالمية (software) محظورة في الصين.
فلقد حظرت السلطات الصينية Facebook وTwitter في يوليو/تموز 2009، في أعقاب أعمال احتجاجات في شينجيانغ، المنطقة التي يسكنها الإيغور.
كان هدف الحظر تقليص الاتصالات بين نشطاء الإيغور.
وتشمل خدمات الويب الأجنبية المحظورة Instagram وSnapchat وYahoo وSlack وYouTube.
وتجدر الإشارة إلى أن خدمة Google Translate أغلقت في الصين القارية (البر الرئيسي للصين) وليس هونغ كونغ.
ويعيد موقع الويب المخصص للصين الرئيسي لخدمة Google Translate الآن توجيه المستخدمين إلى إصدار هونغ كونغ من الخدمة، ومع ذلك، هذا لا يمكن الوصول إليه من الصين القارية.
كانت لشركة Google علاقة مشحونة بالسوق الصينية. سحبت شركة التكنولوجيا الأمريكية العملاقة محرك البحث الخاص بها من الصين في عام 2010، بسبب الرقابة الحكومية الصارمة على الإنترنت.
وخدماتها الأخرى- مثل خرائط Google وGmail- تم حظرها بشكل فعال من قبل الحكومة الصينية.
ونتيجة لذلك، فإن المنافسين الصينيين المحليين مثل محرك البحث "بايدو" والوسائط الاجتماعية والألعاب العملاقة "تينسنت"، سيطروا على مشهد الإنترنت الصيني في مجالات، من البحث إلى الترجمة.
وما زالت Google تتمتع بوجود محدود للغاية في الصين، فبعض أجهزتها وضمنها الهواتف الذكية مصنوعة في الصين. لكن صحيفة نيويورك تايمز ذكرت الشهر الماضي، أن Google قد حولت بعض إنتاج هواتفها الذكية Pixel إلى فيتنام.
وتتطلع الشركة أيضاً إلى محاولة حث المطورين الصينيين على إنشاء تطبيقات لنظام التشغيل Android الخاص بها على مستوى العالم والتي ستكون متاحة بعد ذلك عبر متجر Google Play، على الرغم من أنه محظور في الصين.
في عام 2018، حاولت Google إعادة الدخول إلى الصين من خلال محرك البحث الخاص بها، لكنها ألغت هذا المشروع في النهاية بعد رد فعل عنيف من الموظفين والسياسيين بالشركة.
أصبحت العلاقات بين الصين والشركات الأمريكية أكثر تعقيداً، بسبب التوترات المستمرة في مجال التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين.
لا تزال واشنطن تشعر بالقلق إزاء وصول الصين المحتمل إلى التقنيات الحساسة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات.
وتتحكم الحكومة الصينية في محتوى الإنترنت، وتقيد أو تحذف أو تحظر المحتوى الذي ترى أنه ليس في مصلحة الدولة.
وازداد حجم قائمة الشركات المحظورة من قبل الصين بشكل كبير.
سور الصين الناري العظيم
لدى الصين واحد من أكثر أنظمة الرقابة صرامة وتطوراً في العالم.
يمنع Great Firewall- "جدار الحماية العظيم" أو ما يمكن تسميته "سور الصين الناري العظيم"- مستخدمي الإنترنت من عرض أو نشر محتوى حساس اجتماعياً أو سياسياً، وبالتالي يمنع هذا شركات الإنترنت الأمريكية من تأسيس موطئ قدم في الصين.
ويستهدف Great Firewall العديد من شركات ومواقع وخدمات الإنترنت الأجنبية على وجه الخصوص.
في المقابل، تزدهر الخدمات المحلية مثل TikTok وWeChat وSina Weibo وTencent QQ تحت العين الساهرة للرقابة الحكومية الصينية.
يتم استخدام عدد من الأساليب للتحكم في التعبير عبر الإنترنت، من ضمنها حجب مواقع الويب وتصفية الكلمات الرئيسية، والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، ووقف المحتوى الذي يطرح قضايا حساسة أو سياسية. وتمارس مجموعة من الوكالات الحكومية سلطة على الإنترنت في الصين، مثل إدارة الدعاية المركزية ووزارة الأمن العام.
في عام 2014، أنشأت الحكومة إدارة الفضاء الإلكتروني في الصين باعتبارها الهيئة الرئيسية للرقابة على الإنترنت في الصين.
ويمنع Great Firewall المستخدمين أيضاً من الوصول إلى مواقع الأخبار الأجنبية مثل BBC وThe New York Times وThe Wall Street Journal وغيرها.
على الرغم من الحظر، هناك عدة طرق للوصول إلى Facebook والمواقع المحجوبة الأخرى في الصين، مثل VPN ومواقع البروكسي.
وطالما بقيت الضوابط الصارمة سارية، فإن العلاقة بين الصين وشركات التكنولوجية الأمريكية العاملة في مجال الـsoftware، ستظل كما هي، بل مرشحة للتدهور.
فيسبوك حاولت العودة للصين
قام مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة Meta، بعدة زيارات رفيعة المستوى للصين، دون إحراز تقدم يذكر.
رغم حظر الموقع منذ عام 2009، فإن فيسبوك لا يزال قادراً على كسب بعض الإيرادات من الصين عبر شبكات إعادة بيع الإعلانات.
في عام 2018، حاول Facebook إنشاء شركة فرعية بقيمة 30 مليون دولار في Hangzhou لاحتضان الشركات الناشئة وتقديم المشورة للشركات المحلية. تم سحب إذن بدء التشغيل بسرعة.
على الرغم من عدم قدرتها على العمل في الصين، تحقق Meta إيرادات كبيرة من البلاد.
قالت الشركة في تقريرها السنوي لعام 2020، إنها حققت "إيرادات مجدية من عدد محدود من الموزعين الذين يمثلون المعلنين المقيمين في الصين".
وقدرت مجموعة Pivotal Research Group هذا الرقم بخمسة مليارات دولار.
وقالت Meet Social، وهي موزع إعلاناتٍ مقرها شنتشن بجنوب الصين، إنها ستضع ما بين مليار دولار وملياري دولار في الإعلانات على Facebook وInstagram في عام 2019.
إليك البدائل الصينية للشركات الأمريكية
في حين أن جدار الحماية العظيم أبقى شركات الإنترنت الأجنبية في مأزق، فقد سُمح للشركات المحلية بالازدهار.
بعض أكبر اللاعبين هم تجار التجزئة في التجارة الإلكترونية مثل Alibaba BABA وJD.com، ومحرك البحث Baidu BIDU، وخدمة التدوين المصغر سينا ويبو وTencen وQQ وهناك WeChat تطبيق المراسلة الشائع المشابه لتطبيق WhatsApp، في حين أن Tudou وYouku هما الإصدار الصيني من YouTube.
وحققت بعض شركات الإنترنت الصينية نجاحاً كبيراً في الخارج، حيث تدير ByteDance التي تتخذ من بكين مقراً لها، تطبيق الفيديو القصير TikTok، الذي يقدر عدد مستخدميه بـ600 مليون مستخدم يومياً في جميع أنحاء العالم.
آبل والصين.. مساعدة متبادلة
لكن في المقابل العلاقة بين الصين وشركات التكنولوجيا الأمريكية لها وجه آخر مختلف تماماً، فلقد استفادت الصين بقدر هائل من شركات التكنولوجيا الأمريكية، خاصةً العاملة في صناعة الأجهزة (Hardware).
فقد بنت شركة Apple على سبيل المثال واحدة من أكثر سلاسل التوريد تطوراً في العالم بمساعدة السلطات الصينية، وحققت أرباحاً طائلة من وراء العمل مع بكين، ولكن قدمت أيضاً فوائد لا تعوض للصين.
فلقد ساهم موظفو وموردو Apple الصينيون بأعمال معقدة ومكونات متطورة للعام الخامس عشر لجهازها آيفون، لكن مساهمتهم جاءت أكبر من أي وقت مضى، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
أصبح الصينيون يصنعون لصالح شركة آبل أجزاء معقدة مثل مكبرات الصوت والبطاريات، وفقاً لما نقله التقرير عن أربعة أشخاص مطلعين على العمليات الجديدة والمحللين.
نتيجة لذلك، تحول iPhone من منتج تم تصميمه في كاليفورنيا وصنع في الصين إلى منتج تم إنشاؤه في كلا البلدين أمريكا والصين.
يعكس العمل الحاسم الذي قدمته الصين في إنتاج هواتف iPhone مؤخراً، التقدم الذي أحرزته البلاد على مدار العقد الماضي ومستوى جديداً من مشاركة المهندسين الصينيين في تطوير أجهزة iPhone.
وبعد أن استدرجت الصين الشركات إلى مصانعها بجحافل من العمال ذوي الأسعار المنخفضة وقدرة إنتاجية لا تضاهى، ارتقى مهندسوها وموردوها في سلسلة التوريد وباتوا يطالبون أو يحصلون على جزء أكبر من الأموال التي تنفقها الشركات الأمريكية لإنتاج أدوات عالية التقنية.
كيف ساعدت كورونا الصين في الحصول على التكنولوجيا من الشركات العالمية؟
أدت الاضطرابات المرتبطة بجائحة كورونا إلى تفاقم مأزق Apple، عندما أغلقت الصين حدودها في عام 2020، اضطرت شركة Apple إلى إصلاح عملياتها والتخلي عن ممارستها المتمثلة في سفر أعداد كبيرة من المهندسين المقيمين في كاليفورنيا إلى الصين لتصميم عملية التجميع لأجهزة iPhone.
وبدلاً من إخضاع الموظفين لحجر صحي طويل، بدأت Apple في تمكين وتوظيف مزيد من المهندسين الصينيين في مدينتي شينزين وشنغهاي لقيادة عناصر التصميم الحاسمة لمنتجها الأكثر مبيعاً iPhone، وفقاً لأربعة أشخاص مطلعين على عمليات التصنيع.
وبدأت فرق التصنيع وتصميم المنتجات بالشركة في إجراء مكالمات فيديو في وقت متأخر من الليل، مع نظرائها في آسيا.
وبعد استئناف السفر مع استمرار بعض القيود، حاولت Apple تشجيع موظفيها الأمريكيين على العودة إلى الصين من خلال تقديم راتبٍ قدره 1000 دولار يومياً لفترة تبلغ أسبوعين من الحجر الصحي وأربعة أسابيع من العمل.
وعلى الرغم من أن العائد قد يصل إلى 50000 دولار، فإن العديد من المهندسين الأمريكيين كانوا مترددين في الذهاب، بسبب عدم اليقين بشأن المدة التي سيضطرون فيها إلى البقاء في الحجر الصحي بالصين.
وفي غياب السفر، شجعت الشركة الموظفين في آسيا على المشاركة في قيادة الاجتماعات التي قادها الزملاء في كاليفورنيا، كما تولى الموظفون الصينيون أيضاً مسؤولية اختيار بعض الموردين الآسيويين لأجزاء iPhone المستقبلية.
وقال هؤلاء الأشخاص إن الشركة تستغل الصين بشكل متزايد للحصول على عمال من ذوي المهارات والأجور المرتفعة.
هذا العام، ورغم تحويل آبل جزءاً من عمليات التصنيع إلى الهند، فلقد أعلنت عن وظائف أكثر بنسبة 50% في الصين مما كانت عليه خلال عام 2020 بأكمله، وفقاً لمؤسسة GlobalData، التي تتعقب اتجاهات التوظيف في مجال التكنولوجيا.
والعديد من هؤلاء الموظفين الجدد مواطنون صينيون تلقوا تعليمهم في الغرب، تقرير صحيفة The New York Times.
بكين أصبحت مساهماً رئيسياً في تصنيع الـiPhone
وتزامن التغيير في طريقة عمل آبل مع زيادة عدد الموردين الصينيين الذين تستخدمهم.
منذ ما يزيد قليلاً على عقد من الزمان، ساهمت الصين بقليل من القيمة في إنتاج iPhone. لقد وفرت في المقام الأول العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين قاموا بتجميع الجهاز بمكونات تم شحنها من الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية.
كان يمثل هذا العمل نحو 6 دولارات- أو 3.6%- من قيمة iPhone، وفقاً لدراسة أجراها Yuqing Xing، أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للدراسات العليا في طوكيو.
تدريجياً، رعت الصين الموردين المحليين الذين بدأوا في إزاحة موردي Apple من جميع أنحاء العالم.
وبدأت الشركات الصينية في صنع مكبرات الصوت وقطع الزجاج وتوفير البطاريات وتصنيع وحدات الكاميرا.
ووفقاً لـXing، فإن مورديها يمثلون الآن أكثر من 25% من قيمة أجهزة iPhone.
ويوضح دان وانج، المحلل في Gavekal Dragonomics، وهي شركة أبحاث اقتصادية مستقلة، أن هذه المكاسب توضح كيف وسعت الصين من إتقانها لسلسلة توريد الهواتف الذكية، وقال: "هذا الاتجاه لا يتباطأ".
خلال معظم فترة الوباء، كافأت الصين شركة Apple على قيامها بالتصنيع في البلاد.
فلقد ساعد إنتاج آبل الثابت في الصين، حتى مع إغلاق البلدان الأخرى لفترات في عامي 2020 و2021، شركة Apple على زيادة حصتها في سوق الهواتف الذكية، وفقاً للمحللين، وهو إنجاز رائع لجهاز إلكتروني عمره عقود انتقل من تقديم ابتكارات ثورية للتحسينات التدريجية.
بل إنه عندما حدثت أزمة طاقة في الصين العام الماضي، وقطعت الحكومة الكهرباء عن المصانع بما فيها مصانع شركة تسلا، استثنت مصانع آبل.
وتتوقع Apple أن يبني iPhone 14 على النجاح الذي تحقق في السنوات الماضية. في حين أن شركات تصنيع الهواتف الذكية الأخرى تخفض الإنتاج مع انهيار الاقتصاد العالمي، دعت شركة آبل مورديها إلى إنتاج مزيد من الهواتف مقارنة بما كانت عليه قبل عام.
ولم تعد الشركة ترسل مهندسيها الأمريكيين إلى الصين، لأن المهندسين الصينيين يقومون بالمهمة، بل إنهم يدربون العمال والمهندسين في منشآت آبل الجديدة في الهند.
وأنفقت شركة آبل ذات مرة 150 مليون دولار سنوياً على الرحلات الجوية مع يونايتد إيرلاينز الأمريكية، وفقاً لإعلان ترويجي لشركة يونايتد. يتذكر الموظفون السابقون أنهم قبل الوباء، كانوا يستقلون رحلات إلى شنغهاي وهونغ كونغ حيث كانت مقاعد درجة الأعمال ممتلئة بالأشخاص الذين يعملون في شركة Apple.
وحتى لو خرجت آبل وغيرها من الشركات الأمريكية من مجال التصنيع في الصين، وهذا أمر لن يحدث قبل سنوات، فإن الصينيين لديهم شركات تكنولوجية عملاقة، وقد اكتسبوا المهارات الضرورية للاستمرار.
والآن، لم تعد شركة يونايتد تقدم رحلات جوية مباشرة من سان فرانسيسكو إلى هونغ كونغ، وتطير مباشرة إلى شنغهاي أربعة أيام في الأسبوع فقط، بعد أن أصبحت الصين لا تحتاج مهارات مهندسي كاليفورنيا.