يوشك الأمريكيون على تحقيق نجاح نادر في سياستهم الخارجية، إذ أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل حول الغاز وترسيم الحدود البحرية.
فلقد كان رد فعل كل من لبنان وإسرائيل إيجابياً على اقتراح أمريكي لحل النزاع الحدودي البحري بين الخصمين اللدودين؛ مما يشير إلى أنه يمكن أخيراً التوصل إلى اتفاق بعد أكثر من عقد من المحادثات، حسبما ورد في موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
المفاوضات وصلت لمرحلة متقدمة
وقال نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إلياس بو صعب، الثلاثاء 4 أكتوبر/تشرين الأول 2022، إن المفاوضات التي تتوسط فيها الولايات المتحدة بشأن ترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل وصلت إلى مرحلة متقدمة بحيث انتهت مرحلة التفاوض.
وأضاف بو صعب في مقابلة مع محطة تلفزيونية محلية "خلصنا المفاوضات". موضحاً أن لبنان قدم للولايات المتحدة قائمة بتعديلات يرغب في إدخالها على اقتراح بشأن كيفية ترسيم حدود بحرية متنازع عليها مع إسرائيل.
ويتنازع لبنان وإسرائيل على منطقة بحرية غنية بالنفط والغاز في البحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً، فيما تتوسط الولايات المتحدة في مفاوضات غير مباشرة بينهما لتسوية النزاع وترسيم الحدود، لأن البلدين يعتبران في حالة حرب رسمياً، إذ يوجد بينهما هدنة عسكرية فقط.
وإذا نجحت الاتفاقية، فستكون أول انتصار كبير لسياسة الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط. ومع اقتراب موعد الانتخابات في لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكن أن تأتي في وقت أفضل لجميع الأطراف المعنية، حسب الموقع الأمريكي.
والقضية الأساسية المطروحة هي حقلا غاز طبيعي بالقرب من ساحل لبنان وإسرائيل. أحدهما -حقل قانا- يمتد على منطقة متنازع عليها حاول كل جانب منذ فترة طويلة المطالبة بها على أنها منطقة خاصة به. وسعت كل من بيروت وتل أبيب إلى الوصول إليها في العقود الأخيرة حيث توقع المنقبون أنها تضم كميات كبيرة من الغاز الطبيعي. لكن تظل محتويات حقل قانا غير مؤكدة لأنَّ شركات الغاز كانت غير راغبة في العمل في المنطقة المتنازع عليها.
وبالنظر إلى الفرصة التي يوفرها حقل قانا، نبذ لبنان وإسرائيل عداواتهما المتبادلة وشاركا في محادثات بوساطة أمريكية في أوائل عام 2010. وكادت تلك المفاوضات أن تؤدي إلى اتفاق، وفقاً لما ذكره وسيط الولايات المتحدة آنذاك فريدريك هوف، لكن المناقشات انهارت مع انهيار الحكومة اللبنانية في عام 2013.
نصر الله يتوعد بضرب حقل كاريش بالصواريخ
ثم في عام 2020، عندما تمكنت واشنطن من جعل ممثلين من كل جانب يلتقون وجهاً لوجه لأول مرة منذ سنوات. وتوقفت هذه المحادثات في البداية عندما وسعت بيروت مطالبتها لتشمل جزءاً من حقل كاريش، وهو احتياطي للغاز الطبيعي يقع خارج المياه التي تنازع عليها البلدان في الماضي. وعلى الرغم من أن حقل كاريش ليس مهماً لخطط الطاقة الإسرائيلية، لكن تل أبيب استثمرت بالفعل في البنية التحتية اللازمة لاستغلال موارد المنطقة، ومن المحتمل أن يكون تسليم جزء من المنطقة لعدو مكروه مثل حبة مسمومة سياسية، حسب تعبير الصحيفة.
عندما تولى بايدن منصبه، عيّن آموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وعلى الرغم من فشل هوكشتاين في محاولاته الأولية للتوصل إلى حل وسط، لكن عرضه الأخير حقق أخيراً ما لم يستطعه الآخرون: حصل على استجابة إيجابية من كل من لبنان وإسرائيل.
تفاصيل الاتفاق بين لبنان وإسرائيل حول الغاز
مصادر من رئاسة مجلس النواب أكدت لـ"عربي بوست" أن الرد الذي تم تنسيقه بين الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين والمسؤولين في الحكومة الإسرائيلية يتضمن منح لبنان الخطّ 23، بالإضافة إلى حقل قانا من دون اقتطاع أي جزء من البلوكات النفطية اللبنانية.
وأضاف المصدر نفسه "أما بخصوص المنطقة الآمنة، أو ما يعرف بخط العوامات، فتبقى تحت السيادة اللبنانية على أن تكون منطقة أمنية، وبذلك ينطلق خط الترسيم من عمق البحر بمسافة 6 كيلومترات".
ويؤكد المصدر أنه ستبقى كل المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية على حالها، مع عدم منح أي جزء منها لإسرائيل، وسيتم إعلان المنطقة الواقعة بين "خط الطفافات" والخط 23 منطقة آمنة، ولكن تحت السيادة اللبنانية، لأنها تابعة للمنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية.
ويشير المصدر إلى أن المبعوث الأمريكي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين كان قد تواصل مع نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب، وأبلغه أن لبنان لا يعترض على أن تكون هذه المنطقة تحت إشراف قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، والتي ينبغي تعديل ولايتها بعد ذلك، لذلك فإن الاقتراح يستجيب إلى حد كبير لمطالب لبنان، ومع ذلك سيتعين على لبنان أن يقرر، في رده على اقتراح هوكشتاين، السؤال المتعلق بإشراف الأمم المتحدة على المنطقة الآمنة.
إسرائيل تريد رسوماً من حقل قانا، ولبنان يرفض الدفع.. فكيف تم حل الأمر؟
أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، موافقة أولية يوم الأحد 2 أكتوبر/تشرين الأول 2022، على مسودة اتفاق توسطت فيه الولايات المتحدة لترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
وأمام اجتماع لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، قال لابيد إن المسودة ستصون مصالح تل أبيب الأمنية والتجارية بالكامل.
كما أعرب لابيد عن انفتاحه على فكرة إنتاج لبنان للغاز الطبيعي من حقل متنازع عليه في البحر المتوسط إذا حصلت إسرائيل على رسوم منه.
وتابع لابيد: "إن الموافقة الإسرائيلية على المشروع ستنتظر الاستشارات القانونية. وينظر لبنان أيضاً في مسودة الاتفاق".
وقال بو صعب إنه قدم في وقت سابق لسفيرة الولايات المتحدة في لبنان "التعديلات" التي تريدها بيروت. وشدد بو صعب على أن لبنان لن يدفع من حصته تعويضات لإسرائيل من حقل "قانا" الذي يمتد إلى جنوب الخط 23 (حدود لبنان).
وأعلن الرئيس اللبناني، ميشال عون، أنه لن تكون أي شراكة مع الجانب الإسرائيلي" في حقول الغاز، وذلك خلال لقائه مع مديرة إفريقيا والشرق الأوسط في وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية آنا غوغين بقصر الرئاسة شرقي بيروت.
أفاد بأن الوسيط الأمريكي وجد حلاً لهذا الأمر مع الفرنسيين وشركة "توتال" (المكلفة بالتنقيب في المياه اللبنانية)، مشيراً إلى أنه لا يعتقد أن التعديلات المقترحة ستفسد الاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
في حين أن اقتراح هوكشتاين هو نفسه تقريباً المقترحات الأمريكية السابقة (إذ يمنح كل جانب إمكانية الوصول إلى منطقة قانا ويترك كاريش داخل المياه الإسرائيلية، من بين أمور أخرى)، لكنه يأتي في وقت لدى الجميع حوافز قوية للتوصل إلى اتفاق.
كيف أقنع الأمريكيون الطرفين بالاتفاق؟
بالنسبة لواشنطن، قد يساعد حل المشكلة في تهدئة الأسواق وتأمين المزيد من الغاز الطبيعي لأوروبا، التي من المتوقع أن تواجه ضغوطاً في تأمين الطاقة هذا الشتاء في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا. جدير بالذكر أن زعيم حزب الله حسن نصر الله قد هدد سابقاً برد عنيف إذا بدأت إسرائيل في استغلال حقل كاريش قبل تسوية النزاع الحدودي؛ مما أضاف إلحاحاً آخر على المحادثات.
وهدد نصر الله، إسرائيل، السبت 17 سبتمبر/أيلول 2022، باستهداف حقل "كاريش" للغاز المتنازع عليه بين بيروت وتل أبيب في حال لم تتحقق مطالب لبنان، مشيراً إلى أن الحزب يراقب المفاوضات البحرية مع إسرائيل بهذا الخصوص.
ومن جانب الزعيم الإسرائيلي يائير لابيد، سيوفر الاتفاق زخماً لحكومة تصريف الأعمال التي تتجه إلى انتخابات الشهر المقبل، التي تهدد بعودة اليميني المثير للجدل بنيامين نتنياهو إلى السلطة. وسبق لنتنياهو أن هاجم الاقتراح باعتباره "حيلة غير شرعية" واتهمه بـ"إعطاء حزب الله أراضي إسرائيلية ذات سيادة". (ومن غير الواضح إلى أية منطقة يشير إليها نتنياهو بالنظر إلى أن إسرائيل لم تطالب مطلقاً بمنطقة قانا بأكمله).
وبالنسبة للبنان، يمكن أن يكون للاتفاق مكاسب سياسية كبيرة لحكومة تصريف الأعمال؛ إذ من المقرر أن تنتهي ولاية الرئيس ميشال عون في نهاية هذا الشهر. ولعل الأهم من ذلك أن البلاد تعاني حالياً من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم. ففي غضون سنوات قليلة فقط، هبط الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنحو 60%، وفقدت العملة اللبنانية 95% من قيمتها؛ مما أدى إلى زيادة هائلة في معدلات الفقر. ويقول الخبراء إن الوصول إلى إمدادات كبيرة من الغاز الطبيعي يمكن أن يساعد في قلب هذه المشكلات الاقتصادية ويعطي بيروت نفوذاً أفضل في صفقة محتملة مع صندوق النقد الدولي.
وقد يكون هذا هو السبب في أن نصر الله، زعيم حزب الله، الذي كان كثيرون قلقين من أن يرفض الاتفاق، وصف مؤخراً الاقتراح بأنه "خطوة مهمة للغاية"، وأشاد بالفرص المحتملة التي قد يجلبها إلى لبنان.
وبغض النظر عن كيفية الوصول إلى هذه النقطة، فإن النجاح المحتمل للمحادثات هو تذكير مهم بمدى قدرة الدبلوماسية الماهرة على التوصل إلى صفقة، حتى عندما تهدد المطالب المتطرفة بإفشال المناقشات. ما يتبقى هو ما إذا كان كل طرف سيتمكن من إقناع جمهوره في الداخل بأن الاتفاقية كانت انتصاراً لجانبهم.
كتب جوزيف باحوط من الجامعة الأمريكية في بيروت في تغريدة: "في السياسة، يخبر كل جانب جمهوره أنه حقق فوزاً صافياً وأن الطرف الآخر قدم تنازلات [أكبر]. ومن الطبيعي أن ينقسم جمهور كل جانب عند النظر في الجوانب الإيجابية والسلبية [للصفقة]".
الوقت وحده هو الذي سيحدد ما إذا كان القادة الإسرائيليون واللبنانيون سوف يجتازون هذا الحاجز الأخير.