شكّل إعلان أوكرانيا عن طرد القوات الروسية من مدينة ليمان إحراجاً كبيراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد أن كان قد احتفل لتوّه بضم أربع مقاطعات أوكرانية لروسيا، من بينها مقاطعة دونتيسك التي توجد بها مدينة ليمان.
ولكن الإحراج الذي سببته المعركة ليس مشكلة لبوتين فقط، بل للعالم كله؛ لأن موسكو لوَّحت قبيل ضم المقاطعات الأربع إلى أنها ستعتبرها أرضاً روسية، وأن الاعتداء عليها قد يعني استخدامها للأسلحة النووية.
وفي احتفال فخم، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة الماضية، على وثيقة "ضم" أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا، وسط رفض وتنديد غربي واسع، والمقاطعات الأربع هي دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا، وهي تمثل 18% من مساحة أوكرانيا.
والمفارقة أن روسيا لم تسيطر على المقاطعات الأربع بالكامل، وتكاد تكون لوغانسك هي المقاطعة الوحيدة التي تسيطر موسكو على كل أراضيها تقريباً.
وتقع ليمان في منطقة دونيتسك بالقرب من الحدود مع منطقة لوغانسك، ومقاطعتا دونيتسك ولوغانسك تشكلان معاً إقليم دونباس الذي سيطرت على مناطق واسعة منه ميليشيات موالية لموسكو منذ عام 2014 عقب الأزمة التي وقعت في أوكرانيا إثر عزل مؤيدي الغرب الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش.
واستعادت أوكرانيا السيطرة على مدينة ليمان من خلال تطويق القوات الروسية التي قدرت أعدادها بنحو 5 آلاف جندي، وقد فرت من المدينة يوم السبت الماضي.
وأكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن بلاده "طهرت بالكامل" القوات الروسية من مدينة ليمان الشرقية الرئيسية، بعد يوم من اعتراف موسكو بانسحاب قواتها من المدينة للانتقال إلى "مواقع أكثر مواتاة".
ما أهمية مدينة ليمان من الناحية العسكرية والسياسية؟
تقع مدينة ليمان شرق أوكرانيا بإقليم دونتيسك على بعد 160 كيلومتراً جنوب شرق خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا.
تعد استعادة القوات الأوكرانية لليمان أكبر مكسب لها منذ الهجوم المضاد الخاطف الذي شنته كييف في منطقة خاركيف الشمالية الشرقية في سبتمبر.
كما أنها ضربة كبيرة للقوات الروسية، التي استولت على مدينة ليمان من أوكرانيا في مايو/أيار الماضي، وكانت تستخدم المدينة كمركز لوجستي وسكك حديدية مهم ونقل لعملياتها وغيرها من الإمدادات الضرورية في شمال منطقة دونيتسك.
والآن، توفر المدينة نقطة انطلاق محتملة لهجمات أوكرانية متزايدة إلى الشرق، وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن: "بدون هذه الطرق سيكون الأمر أكثر صعوبة، لذا فهو يمثل نوعاً من المعضلة للروس".
وقال لويد أوستن إنه يعتقد أن أوكرانيا "تحرز تقدماً" في الحرب. وأرجع ذلك إلى ما وصفه بكفاءة الجنود الأوكرانيين واستخدامهم للأسلحة التي قدمتها لهم الولايات المتحدة ودول الناتو.
وقالت وزارة الدفاع البريطانية إن أهمية مدينة ليمان العملياتية ترجع إلى تحكمها في طريق يعبر نهر سيفرسكي دونيتس، والذي تحاول روسيا من خلفه تعزيز دفاعاتها.
وقال سيرهي غايداي، حاكم مدينة ليمان، إن السيطرة على ليمان قد تكون "عاملاً رئيسياً" في مساعدة أوكرانيا على استعادة الأراضي المفقودة في منطقة لوغانسك المجاورة، والتي أعلنت موسكو احتلالها بالكامل في أوائل يوليو/تموز 2022.
إلى جانب ليمان، حررت القوات الأوكرانية مستوطنتي أرخانهيلسكي وميروليوبيفكا الصغيرتين في منطقة خيرسون أيضاً، وفقاً لما نقلته رويترز عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
الروس يركزون على حماية قواتهم في الجنوب
واللافت أن نسبة سيطرة الروس الفعلية على مقاطعة دونيتسك هي الأقل من بين المقاطعات الأربع المضمومة مؤخراً لروسيا، رغم أن مساحة كبيرة من دونيتسك كانت أصلاً خاضعة للنفوذ الروسي منذ عام 2014، عبر الحكومة الانفصالية التي تشكلت بالإقليم، كما أن الإقليم له أهمية خاصة في الربط بين زابوريجيا وخيرسون في الجنوب وبين ولوغانسك في الشمال الشرقي ومنه لروسيا كلها.
وقال معهد دراسة الحرب، وهو مؤسسة فكرية مقرها الولايات المتحدة، إن سقوط ليمان يشير إلى أن روسيا تقلل أولوية الدفاع عن منطقة لوغانسك بالنسبة لها، مقابل محاولتها تعزيز السيطرة على الأراضي المحتلة في جنوب أوكرانيا، حسبما ورد في موقع قناة "الجزيرة".
وأضافت أن "المصادر الأوكرانية والروسية تشير باستمرار إلى أن القوات الروسية واصلت تعزيز المواقع الروسية في منطقتي خيرسون وزابوريجيا ، على الرغم من الانهيار الأخير لجبهة خاركيف-إيزيوم في الشمال الشرقي وحتى مع انهيار المواقع الروسية حول ليمان في الشرق".
وتمثل زابوريجيا وخيرسون أهمية خاصة للكرملين لكي يستطيع الربط بين الأراضي الروسية الرئيسية وبين شبه جزيرة القرم، التي جرى ضمها عام 2014.
وتعد زابوريجيا وخيرسون جبهة أصعب للأوكرانيين والروس على السواء لأن الإقليمين يبعدان عن القواعد الحربية الرئيسية في الشمال، ولكنها يشكلان جبهة أصعب بشكل أكبر بالنسبة للروس؛ لأن خطوط إمداد الروس الرئيسية تأتي من الشمال الشرقي عبر حدود البلاد مع أوكرانيا.
ومنذ بداية الانتكاسات الأخيرة للروس، كان الأوكرانيون يتحدثون عن جهود لاستعادة خيرسون في الجنوب، بينما يوجهون مجهودهم الحربي على الأرض في الشمال الشرقي مثلما حدث في مقاطعة خاركيف، وفي الشرق مثلما حدث في ليمان.
ولكن من الواضح أنه رغم هذه الهزائم الروسية، فإن الروس ما زالوا يعطون الأولوية لجبهة الجنوب خيرسون وزبارويجيا، على حساب الشرق، الذي يتعاملون معه في الأغلب بأنه قريب جداً لروسيا بحيث يمكن لموسكو تعويض خسائرها فيه، خاصة إذا استدعت الاحتياطي، عكس الجنوب الذي يرونه الجبهة الأصعب، بالنسبة لهم وفقدانه لا يمكن تعويضه بسهولة كما أنه قد يهدد القرم نفسها، وخاصة بعد أن تصاعد حديث أوكراني لأول مرة عن الرغبة في استعادة القرم.
فحسب تقارير غربية فقد بدأت أوكرانيا تعتقد أن بإمكانها استعادة شبه جزيرة القرم، وفقاً لتاميلا تاشيفا ممثلة الرئيس الأوكراني في المنطقة. بينما لا يوجد ما يشير إلى أن كييف على وشك أن تكون في وضع يمكنها من استعادة المنطقة المضمومة، أمضت تاميلا تاشيفا وفريقها أيامهم في مناقشة الخدمات اللوجستية لما سيحدث في حالة استعادة أوكرانيا للسيطرة على القرم.
ولا يعرف هل هذا الحديث حقيقي أم مبالغ فيه أم أن هدفه تشتيت انتباه الروس عما يجري في الشرق، مثلما تحدث الرئيس الأوكراني الشهر الماضي أن هدف بلاده الرئيسي تحرير خيرسون في الجنوب ما دفع الروس لتعزيز دفاعاتهم هناك ثم فوجئوا بأن جهد كييف العسكري يتوجه إلى منطقة خاركييف في الشمال الشرقي.
تظل المشكلة الرئيسية للروس أن تهديد الأوكرانيين لمقاطعة دونيتسك سيكون له تأثير معنوي كبير كونها جزءاً من إقليم الدونباس الذي يمثل قلب المشكلة بين كييف وموسكو ومحور ادعاءات الأخيرة، كما أن دونيتسك في الوقت ذاته تمثل أهمية بالغة لتوصيل الإمدادات لخيرسون وزباروجيا في جنوب أوكرانيا.
وفي هذا الإطار، قال الكولونيل الاحتياطي فيكتور كيفليوك من مركز استراتيجيات الدفاع الأوكراني: "بفضل العملية الناجحة في ليمان، نتجه نحو مسار الإمدادات الروسي الثاني بين الشمال والجنوب، وهذا يعني أن خط الإمداد الثاني سيتعطل".
وقال كيفليوك: "في هذه الحالة، لا يمكن تزويد القوات الروسية في لوغانسك ودونيتسك بالإمدادات، إلا بصعوبة من خلال منطقة روستوف (الروسية)".
اللافت أن بعض الضيوف في برامج التلفزيونية الروسية انتقدوا قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضم أربع مقاطعات أوكرانية قبل تأمين حدودهم الإدارية أو حتى خط المواجهة، معربين عن شكوكهم حول قدرة روسيا على احتلال كامل هذه الأراضي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
كل الطرق تؤدي لـ"النووي"
وانتقدت شخصيات روسية ذات توجه قومي متشدد، الجنرالات الروس ووزير الدفاع سيرجي شويغو على وسائل التواصل الاجتماعي لإشرافهم على الانتكاسات لكنها لم تهاجم بوتين.
ومع استمرار الخسائر الروسية، وتقدم القوات الأوكرانية البطيء في منطقة الدونباس، فإن احتمال استخدام الأسلحة النووية يتزايد خاصة إذا حقق الأوكرانيون تقدماً كبيراً قبل أن يستطع الجيش الروسي الاستفادة من جنود الاحتياط الذين سيأتون عبر التعبئة الجزئية التي أعلنها بوتين، وتستهدف ضم 300 ألف جندي احتياطي للجيش الروسي.
ودعا حليف بوتين رمضان قديروف رئيس جمهورية الشيشان الروسية، يوم السبت إلى تغيير الاستراتيجية "حتى إعلان الأحكام العرفية في المناطق الحدودية واستخدام أسلحة نووية منخفضة القوة".
وحتى الرئيس الأوكراني الذي يقلل دوماً من هذا الاحتمال قال مؤخراً في مقابلة مع شبكة سي بي إس الأمريكية، إنه غير متأكد من أن بوتين كان يخدع بالتهديدات النووية. ربما كان التهديد بالأمس خدعة، الآن، يمكن أن يكون حقيقة، حيث قال إنه يريد إخافة العالم كله.
وروسيا لديها أكبر ترسانة نووية في العالم، كما أنها تمتلك أعداداً من الأسلحة النووية التكتيكية أكبر من الغرب بكثير، حيث يقدر عددها بنحو 2000 سلاح نووي تكتيكي، مخزنة في منشآت عسكرية بمناطق متفرقة في روسيا، حسب منظمة "Arms Control"، بما في ذلك ذخائر نووية يمكن أن تطلق من المدفعية والصواريخ قصيرة المدى.
ماذا سيفعل الناتو إذا استخدمت موسكو القنابل النووية التكتيكية؟
على الجانب الأخر، يبدو أن الناتو يصعد بشدة في مواجهة روسيا.
فلقد أعلنت تسع دول أوروبية أعضاء بالناتو دعمها لطلب كييف الانضمام العاجل للحلف، والدول التسع تقع كلها في أوروبا الشرقية وهي جمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا.
وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، أمس الأحد، إن أمريكا وحلفاءها سيتصرفون "بشكل حاسم" إذا استخدمت روسيا سلاحاً نووياً تكتيكياً في أوكرانيا.
ولكنه لم يوضح طبيعة هذا الرد، بل قال: "لقد أبلغنا الكرملين بشكل مباشر وسري وعلى مستويات عالية جداً بأن أي استخدام للأسلحة النووية سيواجه عواقب وخيمة على روسيا، وأن الولايات المتحدة وحلفاءنا سيستجيبون بشكل حاسم، وكنا واضحين ومحددين بشأن ذلك ما سيترتب على ذلك".
من جانبه، حذر المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية الجنرال المتقاعد ديفيد بتريوس، يوم الأحد، من أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيدمرون القوات والمعدات الروسية في أوكرانيا، بالإضافة إلى إغراق أسطولها في البحر الأسود، إذا استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسلحة نووية في البلاد.
وقال بتريوس إنه لم يتحدث إلى مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بشأن الرد الأمريكي المحتمل على التصعيد النووي من روسيا، والذي قال مسؤولون في الإدارة إنه تم إبلاغ موسكو به مراراً.
ورداً على سؤال عما إذا كان استخدام روسيا للأسلحة النووية في أوكرانيا سيدخل أمريكا وحلف شمال الأطلسي إلى الحرب، قال بتريوس إن استخدام روسيا الأسلحة النووية ضد أوكرانيا ليس موقفاً يؤدي إلى استدعاء المادة المادة 5 من ميثاق التحالف، والتي تدعو إلى دفاع جماعي؛ لأن أوكرانيا ليست جزءاً من الناتو، ومع ذلك، فإن "رد الولايات المتحدة وحلف الناتو" سيكون جيداً، حسب تعبيره.
واعتبر بتريوس أن احتمال امتداد الإشعاع إلى دول الناتو ربما يمكن تفسيره على أنه هجوم على عضو في الناتو، وبالتالي يستدعي استخدام المادة المادة 5 من ميثاق الحلف.
وأضاف: "الاحتمال الآخر أن عمليات القصف النووي هي بطبيعتها مروعة للغاية لدرجة أنه يجب أن يكون هناك رد".
واستدرك بتريوس قائلاً: "أمريكا لا تريد الدخول في تصعيد نووي. لكن عليها أن تثبت أنه لا يمكن قبول استخدام موسكو الأسلحة النووية بأي شكل من الأشكال".
ومع ذلك، قال بتريوس إن بوتين يائس مع تصاعد الضغط عليه بعد المكاسب الأوكرانية في شرق البلاد وتزايد مقاومة جهود التعبئة داخل روسيا، وحذر من أنه لا يزال من الممكن أن يزداد الأمر سوءاً بالنسبة لبوتين وروسيا. وحتى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في ساحة المعركة لن يغير هذا على الإطلاق، ومع ذلك أضاف: "عليك أن تأخذ التهديد على محمل الجد".
اللافت أن التهديد برد الناتو عسكرياً على أي هجوم نووي روسي على أوكرانيا، جاء من مسؤول عسكري واستخباراتي سابق، ما يمكن الأمريكيين من التنصل منه بسهولة، كما أنه ليس هناك أي تسريبات معروفة بشأن التهديدات الأمريكية لروسيا التي تحدث عنها سوليفان، وكل ذلك مؤشرات على ضعف احتمالات أن يرد الناتو على أي هجوم نووي روسيا على كييف، رغم أنه يحاول خلق حالة من ردود الفعل الغامضة التي تؤشر لذلك.
ولكن السيناتور ماركو روبيو، العضو الجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، يبدو كان أكثر واقعية.
إذ قال إن بوتين أمامه خياران: إما إنشاء خطوط دفاعية في المناطق التي يحتلها، أو الانسحاب وفقدان الأراضي.
وبدا روبيو أكثر حذراً في الحديث عن الحرب النووية، وبصفته عضواً في مجلس الشيوخ مطلعاً على إحاطات البنتاغون، قاوم روبيو الانجراف إلى القول بأنه قد رأى دليلاً على أن روسيا تستعد لاستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا.
وقال روبيو إنه يعتقد أنه "من الممكن تماماً" أن يضرب بوتين نقاط دخول الإمدادات الأمريكية وحلفائها إلى أوكرانيا، بما في ذلك داخل بولندا (العضو في الناتو).
وأقر السيناتور بالتهديد النووي الروسي، لكنه قال إن معظم المخاوف تتركز الآن على احتمال هجوم روسي تقليدي داخل أراضي الناتو، على سبيل المثال، أن يستهدف الروس مطاراً في بولندا أو نقطة توزيع للإمدادات والأسلحة.
وقال: "سيتعين على الناتو الرد على مثل هذا الهجوم، "كيف سيستجيب؟ أعتقد أن الكثير منه سيعتمد على طبيعة الهجوم وحجمه ونطاقه".
وأضاف: بالنسبة لي، هذا هو المجال الذي أركز عليه أكثر من غيره، وأعتقد أن بوتين ربما ينظر إلى مثل هذا الهجوم على أنه رد أقل تصعيداً. ولكن الناتو قد ينظر له على أنه تصعيد.
وقال روبيو: "بالتأكيد، ربما يكون الخطر أعلى اليوم مما كان عليه قبل شهر".