تثير الهزيمة الجديدة التي تعرّضت لها روسيا في أوكرانيا، بعد ساعات من إعلان بوتين ضم 4 مدن رسمياً، مخاوف من أن يكون الرعب النووي على الأبواب، فهل تنجح "أمنيات" أمريكا في إقناع الصين والهند بالتدخل؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد دخل مرحلة جديدة من التصعيد خلال الأيام القليلة الماضية، إذ أعلن بوتين رسمياً، الجمعة، 30 سبتمبر/أيلول، ضم 4 مدن أوكرانية إلى أراضي الاتحاد الروسي، رغم التنديد الأمريكي والغربي.
أوكرانيا والدول الغربية ترى أن الاستفتاءات على ضم لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا إلى روسيا باطلة، وتهدف لتبرير الضم وتصعيد العمليات القتالية بعد قرارٍ باستدعاءٍ جزئي لقوات الاحتياط، إثر خسائر تكبدتها موسكو مؤخراً في أرض المعركة.
كيف تطور الهجوم الروسي على أوكرانيا؟
منذ بدأت الحرب يوم 24 فبراير/شباط الماضي، تمكنت القوات الروسية من الانتشار على جميع الأراضي الأوكرانية تقريباً، وحاصرت المدن الكبرى، بما فيها كييف العاصمة، بعد أن قام سلاح الجو الروسي بتحييد الدفاعات الجوية الأوكرانية وضرب كثير من البنية العسكرية قبل أن تندفع طوابير المدرعات والدبابات الروسية وصولاً إلى كييف.
وفي أبريل/نيسان سحبت روسيا قواتها من الأقاليم الغربية لأوكرانيا، وركزت عملياتها العسكرية في الأقاليم الشرقية والشمالية والجنوبية، وأعلنت وزارة الدفاع في موسكو انتهاء المرحلة الأولى من "العملية العسكرية الخاصة"، لتبدأ مرحلة "تحرير" إقليم دونباس بالكامل، بنص تصريحات الرئيس الروسي.
خلال تلك الفترة، انصب الدعم الغربي لأوكرانيا على إمداد كييف بأسلحة دفاعية، أبرزها منظومات الصواريخ المضادة للدروع والدبابات، وبدا كما لو أن هناك تفاهماً ضمنياً بعدم تقديم صواريخ بعيدة المدى يمكنها أن تصيب أهدافاً داخل الأراضي الروسية، تفادياً لعدم خروج الصراع عن نطاق الأراضي الأوكرانية وتحوله إلى مواجهة مباشرة مع حلف الناتو بقيادة واشنطن.
واستمرت هذه الوتيرة، بتغييرات متعددة، حتى بدايات شهر سبتمبر/أيلول الماضي عندما شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً خاطفاً، هو الأول من نوعه منذ بدأت الحرب، تمكنت من خلاله من تحقيق اختراق كبير لصفوف القوات الروسية في منطقة خاركيف في الشمال الشرقي، مما أجبر الجيش الروسي على الانسحاب سريعاً قبل أن يقع في قبضة الحصار الأوكراني.
جاء رد الرئيس الروسي على تلك الهزيمة الميدانية تصعيدياً بامتياز، حيث أعلن التعبئة العامة جزئياً، وهي المرة الأولى التي تحدث في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، كما قرر إجراء استفتاءات في تلك المناطق الأوكرانية، التي تمثل ما يقرب من خُمس مساحة أوكرانيا، وتم بالفعل ضم تلك المناطق رسمياً لتصبح جزءاً من أراضي الاتحاد الروسي، المحمية بالمظلة النووية بطبيعة الحال.
أما مبررات التصعيد الروسي، فلا أحد يمكنه تقديمها أفضل من ألكسندر دوغين، الفيلسوف الملقب بأنه "عقل بوتين"، إذ نشر مقالاً عنوانه "بدأت"، انطلق فيه من الانتصارات التي حققتها القوات الأوكرانية في ساحة المعركة في منطقة خاركيف وإجبار القوات الروسية على الانسحاب، معتبراً أنها "نقطة التحول"، التي تعني "أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة في تاريخ العملية العسكرية الخاصة بأكمله".
"نحن على شفا حرب عالمية ثالثة، يدفعنا إليها الغرب بهوسٍ شديد، وهذا لم يعد تخوفاً أو توقعاً، هذه حقيقة. روسيا في حالة حرب مع الغرب الجماعي، مع الناتو وحلفائهم (وإن لم يكن مع الجميع – تركيا واليونان لديهما موقف خاص بهما، وعدد من الدول الأوروبية، في المقام الأول فرنسا وإيطاليا-وليس فقط فرنسا وإيطاليا- لا ترغب في المشاركة بشكل فاعلٍ في الحرب مع روسيا). ومع ذلك، فإن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة يقترب"، كما كتب دوغين نصاً.
ووصف "عقل بوتين" الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
هزيمة جديدة لروسيا في دونباس
لكن في اليوم التالي مباشرة لتوقيع بوتين قرار ضم الأوكرانية، تعرّضت القوات الروسية لهزيمة جديدة في أحد تلك المناطق، حيث سيطرت القوات الأوكرانية على مدينة ليمان الاستراتيجية في شمال منطقة دونيتسك، شمال إقليم دونباس، والتي كانت القوات الروسية قد استولت عليها خلال الأشهر الماضية، أي بعد اندلاع الحرب.
جنود أوكرانيون أعلنوا عن استعادة ليمان في مقطع فيديو تم تسجيله أمام مبنى مجلس البلدية وسط ليمان ونُشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال أحد الجنود "أعزائي الأوكرانيين.. تمكنت القوات المسلحة الأوكرانية اليوم… من تحرير منطقة ليمان في دونيتسك والسيطرة عليها". وفي نهاية الفيديو، قام جنود بالهتاف وإلقاء الأعلام الروسية من على سطح المبنى ورفعوا علما أوكرانيا مكانها.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت قبل ذلك بساعات أنها ستسحب القوات من المنطقة نظراً لوجود "تهديد بالمحاصرة". وسقطت ليمان في مايو/ أيار الماضي في يد القوات الروسية التي استخدمتها كمركز للوجستيات والنقل لعملياتها في شمال منطقة دونيتسك. وتمثل استعادتها أكبر انتصار لأوكرانيا في ساحة المعركة منذ الهجوم المضاد الخاطف الذي شنته في منطقة خاركيف بالشمال الشرقي الشهر الماضي.
وفي نفس السياق، تعهد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بمزيد من النجاحات السريعة في منطقة دونباس، التي تشمل منطقتي دونيتسك ولوغانسك الخاضعتين للسيطرة الروسية إلى حد كبير. وقال في خطاب عبر رابط فيديو مساء السبت "خلال الأسبوع الماضي، زاد عدد الأعلام الأوكرانية التي ترفرف في دونباس. وسيكون هناك مزيد منها في غضون أسبوع".
كما قالت القوات المسلحة الأوكرانية في بيان صباح الأحد، 2 أكتوبر/تشرين الأول إن طائراتها نفذت 29 ضربة خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، ودمرت أسلحة وأنظمة صاروخية مضادة للطائرات، كما استهدفت القوات البرية مواقع قيادة ومستودعات تضم ذخيرة وتجهيزات صواريخ مضادة للطائرات.
وذكر البيان الأوكراني أن القوات الروسية أطلقت 4 صواريخ وشنت 16 ضربة جوية واستخدمت طائرات مسيرة إيرانية الصنع من طراز شاهد-136 لمهاجمة بنية تحتية. وأضاف أن أكثر من 30 تجمعاً سكنياً تعرّضت لأضرار معظمها في الجنوب والجنوب الشرقي، بحسب رويترز، التي لم يتسنّ لها التحقق من بيانات أي من الجانبين بشأن ما يدور في ساحة المعركة.
كيف سيرد بوتين هذه المرة؟
لا أحد يمكنه تقديم إجابة دقيقة على هذا السؤال بطبيعة الحال، لكن الأمر الوحيد شبه المؤكد هو أن التراجع ليس وارداً، لأنه ببساطة يعني نهاية الرئيس الروسي. وبالتالي فإن التصعيد هو الأقرب، والسؤال هنا يتعلق بطبيعة ذلك التصعيد المتوقع.
روسيا الآن تنطلق من قناعتها الخاصة بأنها تحارب الغرب بقيادة واشنطن، وحقيقة الأمر هي أن الغرب نفسه لا ينكر ذلك، وإن اختلفت المسميات. فحتى ألمانيا، التي كانت ترفض تزويد أوكرانيا بالسلاح أصلاً في بداية الأمر، ثم بدأت ترسل معدات وأسلحة ذات طبيعة دفاعية، أعلنت، الأحد، أنها ستزود كييف بأنظمة دفاع جوي صاروخي قادرة على إسقاط المسيرات الإيرانية، التي تستخدمها القوات الروسية.
وبالتالي، فإن نجاحات أوكرانيا في الميدان تثير حفيظة حلفاء بوتين، ومنهم رمضان قديروف، زعيم منطقة الشيشان في جنوب روسيا، الذي كتب على تليغرام: "في رأيي الشخصي، ينبغي اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، مثل إعلان الأحكام العرفية في المناطق الحدودية واستخدام أسلحة نووية منخفضة القوة".
ويقول مسؤولون روس آخرون، من بينهم الرئيس السابق دميتري ميدفيديف، إن روسيا قد تضطر إلى اللجوء إلى الأسلحة النووية، إلا أن دعوة قديروف كانت الأكثر وضوحاً.
وقال بوتين الأسبوع الماضي إنه لم يكن يبالغ عندما قال إنه مستعد للدفاع عن "وحدة أراضي" روسيا بكل الوسائل المتاحة، وأشار بوضوح يوم الجمعة إلى أن هذا يشمل أيضاً المناطق الجديدة التي ضمتها موسكو.
لكن المحللين في (معهد دراسات الحرب)، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، قالوا إن الجيش الروسي في وضعه الحالي يكاد يكون بشكل مؤكد غير قادر على الصمود في معركة نووية رغم أنه يتدرب منذ فترة طويلة على القيام بذلك.
"لا يمكن لتجمع فوضوي من جنود متعاقدين منهكين، وجنود من الاحتياط جرت تعبئتهم على عجل، ومجندين للخدمة الإلزامية ومرتزقة… العمل في بيئة نووية. ولن يتمكن الروس من دخول أي مناطق تتعرض لضربات بأسلحة نووية تكتيكية روسية، الأمر الذي من المرجح أن يعوق أي تقدم لهم"، بحسب ما نقلته رويترز عن المحللين في واشنطن.
وما يعنيه ذلك بطبيعة الحال هو أن أي استخدام للسلاح النووي التكتيكي من جانب موسكو على الأرجح لن يكون في المناطق الأربعة التي تم ضمها إلى روسيا، مما يعني أن كييف أو أي مدينة في الغرب الأوكراني قد تكون الهدف الأكثر ترجيحاً.
ماذا "تتمناه" أمريكا من الصين والهند إذاً؟
من الصعب تصور هذا السيناريو النووي، لكن الاستخدام الوحيد تاريخياً لذلك السلاح يشير بقوة إلى أنه أصبح أقرب مما قد نتصور للأسف. فالمرة الوحيدة التي تم فيها بالفعل تفجير ذري كانت من جانب الجيش الأمريكي، الذي أسقط قنبلتين ذريتين على ناجازاكي وهيروشيما في اليابان عام 1945، لتستسلم اليابان وتنتهي الحرب العالمية الثانية.
هذا السيناريو، وباستخدام المنطق نفسه، قد يتكرر الآن في الحرب الأوكرانية. فبوتين قد يفجر سلاحاً نووياً تكتيكياً (قوته التدميرية أقل بكثير من الأسلحة النووية الاستراتيجية) في مدينة أوكرانية لإدخال الرعب في قلوب الأوكرانيين وداعميهم الغربيين وتخفيف الضغوط الميدانية عن قواته، وعندها سيكون مبرره منطلقاً من كون تلك الضربة النووية قد أدت إلى إيقاف الحرب، إذ إن الرد الغربي على ضربة كتلك لا يعني ببساطة سوى ضربة نووية، وهكذا يندلع سيناريو نهاية الحضارة البشرية في صورتها الحالة.
وفي هذا السياق، يأتي الدور على زعيمي الصين والهند لإقناع بوتين بالتروي وعدم الضغط على زر نهاية العالم، على الرغم من أن كلا من بكين ونيودلهي لا تتبنيان وجهة النظر الغربية في الحرب الأوكرانية، وهذا ما جاء في تحليل لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
فقد أشارت تقارير ومقالات افتتاحية هذا الأسبوع إلى وجود قنوات اتصال خلفية أنشأها دبلوماسيون أمريكيون لتشجيع الصين والهند على الضغط على بوتين لتخفيف الحديث عن الأسلحة النووية وتقييد إمكانية استخدامها في أوكرانيا. وهذه التقارير عززتها جزئياً التصريحات العلنية التي أدلى بها قادة البلدين ودبلوماسيون خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي.
وفي مقال رأي لصحيفة The Washington Post، أعرب الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة مايك مولين، والسناتور الأمريكي السابق سام نان، ووزير الطاقة الأمريكي السابق إرنست مونيز عن ثقتهم في أن الرئيس الصيني سيمارس الضغط اللازم على بوتين:
"بالنظر إلى اعتماد روسيا الاقتصادي والجيوسياسي المتزايد على بكين، لا يستطيع بوتين تحمّل خلاف لا يمكن إصلاحه مع شي. وسيكون لبيان عام يلقيه شي، يعرب فيه عن رفضه لاستخدام روسيا لأسلحة نووية في أوكرانيا، تأثير على بوتين بالتأكيد. وبإمكان شي أن يؤكد هذه النقطة بتذكير بوتين بأهمية الصين وأنها الوجهة الأولى لصادراته من الطاقة، وبالإشارة إلى أنه سيعيد التفكير في ذلك لو استخدم بوتين الأسلحة النووية".
وهذا قد يكون صحيحاً بدرجة كبيرة، لكن تصويت مجلس الأمن مساء الجمعة على قرار ضم روسيا للأراضي الأوكرانية جاء كتذكرة بأن الصين والهند لا تزالان غير متحيزتين للغرب في أحسن الأحوال، إن لم تكونا مختلفتين قليلاً مع روسيا التي تربطهما بها علاقات اقتصادية وجيوسياسية لا يرغب القادة بعد في قطعها. ولم يقتنع أي منهما بالامتثال للعقوبات الغربية على روسيا. إذ امتنعت الصين والهند والبرازيل والغابون عن التصويت.
وهذا التصويت قد يكشف أيضاً عن حاجة الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب لبذل مزيداً من الجهد لحشد العالم وراء استراتيجيتهم، التي لا تركز حالياً إلا على فرض مزيد من العقوبات على روسيا (على حساب الاقتصاد العالمي ككل) وإغراق أوكرانيا بمزيد من الأسلحة (حتى لو أدى ذلك لاندلاع حرب عالمية).