أسفرت نتائج التحقيقات التي قامت بها النيابة العامة التونسية لثلاث قيادات من حزب حركة النهضة (إسلامي معتدل)، على رأسهم رئيس الحركة، راشد الغنوشي، وقيادي في تيار ائتلاف الكرامة (إسلامي عروبي) ورجل أعمال معروف، حول ملف تسفير الجهاديين التونسيين لسوريا للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بين سنتي 2011 و2013، عن إطلاق سراح جميع الموقوفين والمتحفظ عليهم لعدم وجود قرائن قوية تثبت ارتباطهم بهذا الملف.
وشرع القضاء التونسي منذ أسابيع في إجراء تحقيق واسع في ملف "تسفير الشباب إلى بؤر التوتر" للالتحاق بـ"المجموعات الإرهابية" في سوريا والعراق، شمل 126 شخصاً.
كما تم الأربعاء الماضي 21 أيلول/سبتمبر، عرض كافة المشمولين بالتتبع في ملف التسفير إلى بؤر التوتر (سوريا، العراق) على النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، بعد أن كانت قد أذنت بتاريخ 11 سبتمبر/أيلول الجاري بفتح التحقيقات والأبحاث فيما يخصّ ذلك الملف.
حركة النهضة وقياداتها كانت من أبرز المشمولين بالأبحاث في هذا الملف، حيث تمّ توجيه استدعاء لكلّ من رئيسها والقياديين بالحركة علي العريض والحبيب اللوز من قبل الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب والجرائم المنظمة الماسة بسلامة التراب الوطني ببوشوشة، للمثول أمامها يوم الإثنين 19 سبتمبر/أيلول 2022.
كما أصدرت السلطات التونسية مذكرة توقيف بحق الرئيس السابق لفرقة حماية الطائرات بمطار تونس قرطاج الدولي، كريم العبيدي، بالاضافة لإيقاف عدّة أطراف لها علاقة بهذا الملف.
وتنص الاتهامات الموجهة لراشد الغنوشي وباقي قيادات حركة النهضة وائتلاف الكرامة في ما يعرف بـ"قضية شبكات التسفير"، على تقديم الدعم المالي واللوجستي والأدبي للشباب التونسي للسفر لبؤر التوتر في سوريا والانضمام لتنظيمات إرهابية "داعش" و"النصرة" لمحاربة النظام السوري وقتل المدنيين والعسكريين.
كما أوقفت قوات الأمن رجل الأعمال محمد فريخة، صاحب شركة "تيلنات" لتكنولوجيا الاتصالات والفضاء؛ لوجود شبهة في تورط شركته السابقة للطيران "سيفاكس أيرلاينز" في تسفير الشباب التونسيين إلى تركيا قبل وصولهم إلى العراق وسوريا للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.
فما هي ملابسات هذه القضية؟ وهل هنالك خلفيات سياسية وراء التهم الموجهة لقيادات حركة النهضة؟ وهل لتزامن المحاكمات مع الاستحقاق الانتخابي القادم من دلالات سياسية؟ وهل لإثارة قضية "التسفير إلى بؤر التوتر" في الوقت الحالي علاقة بالسخط الشعبي من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تغرق فيها البلاد؟
أطوار القضية "التسفير"
تعود أطوار القضية إلى دعوى قضائية رفعتها النائبة السابقة بالبرلمان عن حزب نداء تونس (تأسس سنة 2013 عن طريق الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي)، فاطمة مسدي، في ديسمبر/كانون الأول 2021 للمحكمة العسكرية، تتهم فيه حركة النهضة بالضلوع في "شبكات التسفير إلى بؤر التوتر"، حيث قام القضاء العسكري بإحالة الملف إلى القطب القضائي لمكافحة للإرهاب.
وأوضحت مسدي (سياسية معارضة لحركة النهضة) -في تصريحات إعلامية- أنها تقدّمت بملف للقضاء به أكثر من 200 صفحة ووثائق وأدلة تثبت "تورط قيادات من حركة النهضة في هذه القضية".
إلا أن محامي المتهمين قالوا إنهم بعد الاطلاع على لائحة الاتهامات والأدلة المقدمة وجدوا أنها تقوم في أغلبها على فيديوهات وصور ومنشورات مأخوذة من منصات التواصل الاجتماعي وليست بالجديّة الكافية لتكوين ملف قضائي، الأمر الذي دفع القطب القضائي لمكافحة الإرهاب الموكل له بالتحقيق في هذه القضية لإطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة وضعف القرائن المقدمة.
يرى البعض أن التهم الموجهة للغنوشي ورفاقه تهم "قصديّة" لتأليب الرأي العام بما أن النائبة التي رفعت القضية معروفة بخصومتها الكبيرة مع حركة النهضة وحركات الإسلام السياسي عموماً منذ أن كانت نائبة بالبرلمان .
من جانبه، اعتبر الأكاديمي والناشط السياسي التونسي والرئيس السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، أن التسفير لم ينطلق في فترة حكم "الترويكا" (حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)؛ بل انطلق التسفير بعد الثورة من 2011 منذ حكومة الباجي قائد السبسي إلى "بؤرة التوتر" الأولى أي ليبيا، والتي ستصبح منصة أساسية في التدريب و"التسفير" إلى بؤرة التوتر الرئيسية فيما بعد أي سوريا. هذه نقطة أساسية لفهم أن "التسفير" لم يكن حكراً على مرحلة حكم طرف حصري بل كان ضمن سياق عام.
وعلى خلاف الدعاية السائدة، فإن عدد التونسيين الذين أرادوا الالتحاق بساحات القتال في سوريا والعراق قدّر بـ6000 عنصر، نجح منهم 3000 فقط في اجتياز الحدود والوصول لسوريا في حين تم اعتراض البقية ومنعهم من الخروج من تونس أو إرجاعهم من مطارات تونسية وغيرها، بحسب ما جاء في تقارير دولية ومحلية متطابقة.
إلى ذلك، أحدث تصريح للقيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري، على هامش التحقيق والاستماع للغنوشي وعلي العريض في ملف التسفير، جدلاً إعلامياً وسياسياً عندما كشف عن مشاركة طرف سياسي تونسي في الحرب السورية إلى جانب النظام السوري في كتيبة "محمد البراهمي" (سياسي تونسي قومي عروبي اغتيل سنة 2013).
للتذكير، نشر الإعلام التونسي في الفترة ما بين 2011 و2013 صوراً وفيديوهات لما سمي بـ"كتيبة محمد البراهمي" مكونه من مقاتلين قوميين تونسيين كإسناد للجيش العربي السوري، إلا أنه لم تثر ضدهم قضايا "تسفير لبؤر التوتر لحد الآن".
قضيّة كيدية
يرى مراقبون للشأن المحلي التونسي أن إثارة ملف "شبكات التسفير إلى بؤر التوتر" في هذا الوقت بالذات واتهام قيادات من حركة النهضة وائتلاف الكرامة (إسلاميين) بالتورط في التسفير يهدف لتضليل الرأي العام التونسي عن الأزمة الاقتصادية الحقيقية التي تعيشها البلاد منذ فترة؛ حيث اشتعلت الأسعار وغابت المواد الغذائية من الأسواق، وارتفعت المؤشرات الاقتصادية السلبية إلى معدلات قياسية.
إذ تعرف البلاد في الآونة الأخيرة نسب تضخم تجاوزت 8% بزيادة 05 نقاط مقارنة بالسنة الماضية 2021 وارتفاعاَ جنونياً في الأسعار فاقت قيمته 12 بالمئة، بحسب المعهد الوطني للإحصاء (رسمي).
الملاحظ كذلك في هذا السياق، أن الاستماعات والتحقيقات بالنسبة لعدد من السياسيين، خاصة من قياديي حركة النهضة، ستتواصل إلى آخر نوفمبر/تشرين الثاني، أي قبل أسبوعين من بدء حملة الانتخابات التشريعية المقررة في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل. ومن الواضح أن السياق السياسي والانتخابي سيتأثر بهذه المحاكمات عند التصويت.
حركة النهضة في بيان لها صادر بتاريخ 14 سبتمبر/أيلول الجاري، اعتبرت أن ما يحصل هو محاولة جديدة لصرف الرأي العام عن القضايا الحارقة التي تشغله في ظل انسداد الآفاق وانخفاض منسوب التفاؤل لدى التونسيين، وفشل خيارات سلطة قيس سعيد التي أثقلت كاهل المواطن بالزيادات الملتهبة في الأسعار وفقدان المواد الغذائية الأساسية ومنها الخبز والماء والحليب والسكر والزيت وارتفاع تكاليف العودة المدرسية والجامعية وغيرها من متطلبات الحياة.
وقال عضو هيئة الدفاع عن المتهمين عن راشد الغنوشي، سمير ديلو، في تصريحات إعلامية، إن هنالك خلفيات سياسية للقضية المرفوعة على موكليه؛ نظراً لعدم وجود أفعال واضحة منسوبة للمتهمين، والاعتماد فقط على مجرد معطيات على موقع فيسبوك، وادعاءات من خصوم سياسيين، "خاصة أن الظرف السياسي لا يسمح بمحاكمة عادلة بسبب الضغوطات اليومية التي تمارسها السلطة السياسية على القضاء".
تصفية الخصوم السياسيين
ورأى عضو هيئة الدفاع أن النهضة ليست الوحيدة المستهدفة، بل "كل معارضي انقلاب سعيّد الذي يسعى إلى تعبيد الطريق أمام حكمه الفردي من خلال ترسانة قانونية عبر الدستور الذي كتبه بمفرده والقانون الانتخابي الذي وضعه بعيداً عن أي منحى تشاركي، والمرسوم الخاص بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال لإلجام الأفواه".
هذا الكلام يتقاطع مع ما جاء في بيان لحركة النهضة نبهت فيه لــ"خطورة محاولات سلطة الانقلاب استهداف المعارضين بالتشويه، والقضايا الكيدية، والضغط على القضاء"، معتبرة أن ما يحدث يندرج في مسعى لإلهاء الرأي العام عن قضاياه، وهمومه الاقتصادية والاجتماعية، وأوضاعه المعيشية المتدهورة.
وهكذا، فإن ما يمكن استخلاصه من بيانات وتصريحات هيئة الدفاع، أن ملفات القضايا ضعيفة ولا تحتوي على قرائن إدانة قويّة. إذ يعتبرون أن الإجراءات القضائية انطلقت إثر شكوى تقدمت بها النائبة السابقة فاطمة مسدي، والتي استندت إلى شهادات مشكوك في مصداقيتها، عندما كانت في لجنة برلمانية.
من جهته، انتقد المحامي التونسي، القيادي في جبهة الخلاص الوطني (ائتلاف سياسي معارض لانقلاب 25 يوليو)، رضا بلحاج، الإجراءات التي وصفها بغير المسبوقة في التعاطي مع كل من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ونائبه علي العريض. واعتبر أن ما حدث خلال التحقيق معهما هو تنكيل واضح واستهداف لشخصيهما.
إلى ذلك، سبق لجمعية القضاة التونسيين (هيكل نقابي مستقل) أن نبّهت إلى وجود نيّة لدى الرئيس سعيّد "لضرب السلطة القضائية واستخدامها في آن واحد "، وهو ما يمسّ باستقلالية القضاء، حيث إن "مفتاح السجن أصبح بيد رئيس الجمهورية"، وأصبح هناك "قاض الملك وفرقة أمنية خاصة تنفذ تعليمات الرئيس"، على حدّ تعبير رضا بلحاج.
البعض وجد في المحاكمات لقيادات من حركة النهضة والطيف السياسي الإسلامي على خلفية قضية "التسفير لبؤر التوتر" خطوة جيّدة في اتجاه المحاسبة والإطاحة بخصوم سياسيين من الحجم الثقيل، في حين أن المحاكمات انتهت بإطلاق سراح الموقوفين من قيادات حركة النهضة لعدم كفاية الأدلة وأعطت نتائج عكسية من شأنها أن تخدم صورتهم الإعلامية، لعدم قدرة القضاء على إدانتهم، خصوصاً في هذا الملف الحساس.