يراهن الغرب على أن أزمة التعبئة العسكرية الروسية ستؤدي إلى ثورة ضد حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن الأوكرانيين لديهم رهان آخر لاستغلال الأزمة لصالحهم في ساحة المعركة.
في رسم كاريكاتيري لأبرز رسامي الكاريكاتير السياسي الرُّوس، سيرجي إلكين، يظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بينما يقف أعلى جدار الكرملين ويداه ممدودتان.
يسأل بوتين بنظرة يأس: "حسناً، ما الذي أحتاج أن أفعله لكم أيها الناس غير ذلك من أجل أن تبدأوا التمرد أخيراً".
ومع بدء ظهور الصور التي تعرض آلاف الرجال الروس بينما يصعدون الحافلات المتجهة إلى مراكز التدريب، فإن كثيرين في بلاد الغرب يطرحون السؤال نفسه.
القرار الذي اتخذه بوتين بإعلان أول تعبئة منذ الحرب العالمية الثانية أثار حالة فزع منتشرة بين الشعب الروسي، لكنه لم يؤدِّ بعدُ إلى احتجاجات كبيرة؛ نظراً إلى أن الخبراء يتوقعون أن يكون أثر الاستدعاء على الرأي العام تدريجياً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
الرأي العام الروسي أقل تأييداً للحرب مما تشير الإحصاءات
وقال الصحفي الروسي والكاتب لدى مركز أبحاث كارنيغي موسكو، أندريه كوليسنيكوف، الذي تتركز بحوثه حول مواقف واتجاهات البلاد تجاه الصراع: "المجتمع الروسي تعرض للقمع حتى النخاع، وصار مذعناً".
وقال كوليسنيكوف إن غالبية سكان روسيا أُجبروا على "حالة طاعة استباقية"، حيث إن أي عجزٍ متصورٍ عن التأثير في مجريات الأحداث يحث الناس على أن يصيروا سلبيين.
لكن بحث كوليسنيكوف، الذي نُشر عن طريق مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وجد كذلك أن دعم الشعب الروسي للحرب ضد أوكرانيا أقل صلابة مما تشير إليه الإحصائيات في العموم، وهو ما جعله يعتقد أن أمر بوتين بإعلان التعبئة ربما يثبت أنه مقامرة مكلفة.
إذ قال: "قد يكون خطيراً على النظام أن يصطحب محاربي المقاعد الوثيرة الذين يجلسون أمام شاشات التلفاز، ويحولهم إلى مشاركين فاعلين، إننا نرى بالفعل الآن أولى علامات السخط".
في عشية خطاب بوتين تجمع مئاتٌ من سكان موسكو في شارع أربات للاحتجاج ضد التعبئة، وصاح المحتجون: "لا للحرب!"، وسرعان ما أُغلق الشارع عن طريق رجال شرطة مكافحة الشغب والحرس الوطني الروسي، الذين كانوا يرتدون زياً مموهاً، والذين بدأوا في الامتزاج بالحشود لتنفيذ عمليات اعتقال، وكان كثيرون ممن اعتُقلوا من الشباب.
خلال المواجهة مع الشرطة صاحت امرأة: "لسنا المجرمين، إنكم تساعدون بوتين على إرسال آبائنا وأشقائنا إلى الموت!"، وبعدها أشارت الشرطة إليها وجروها بعيداً.
قالت إيرينا، التي تعمل محاسبة وتبلغ من العمر 32 عاماً: "إنني آتي (للاحتجاج) منذ بداية الحرب مباشرة". وأوضحت أنها فكرت في الفرار من البلاد، لكنها قررت البقاء في النهاية. وأضافت: "إنه شيء مهم لأنني ضد قتل الشعب في دولة مجاورة، ولأنّ أهلي يصيرون قتلة".
معاقل النظام تحتج على التعبئة العسكرية
يقول المراقبون إن الأشدَّ إثارة لقلق الكرملين يتعلق بالاضطراب الذي بدأ في التصاعد في المدن الكبرى بالمناطق التي تعد عادةً معاقل النظام.
وفي فيديو التُقط في منطقة قبردينو- بلقاريا، وهي منطقة فقيرة وصغيرة تقع في جبال القوقاز، شوهدت مجموعة من النساء بينما يوبخن ضابطاً محلياً لأنه يسجل أبنائهن. وتصاعدت موجة غضبهن عندما كشف المسؤول عن أن ابنه ليس مؤهلاً للقتال.
تعرض ما لا يقل عن ثلاثة ضباط تعبئة عسكرية محليين للهجوم منذ صدور أمر بوتين بالتعبئة. وأعلنت موسكو يوم الجمعة، 23 سبتمبر/أيلول، أنها سوف ترسل ضباط شرطة لحماية موظفي مكاتب التجنيد العسكري.
ورغم القمع في الشيشان الأمهات يُعربن عن غضبهن من تسجيل أبنائهن
ولعل الأكثر إثارة للدهشة هي الشيشان، التي تعد المنطقة الأشد قمعاً في البلاد، حيث شهدت أول احتجاجاتها منذ وصول الرئيس المستبد القاسي رمضان قديروف إلى السلطة قبل 15 عاماً، إذ تجمعت عشرات النساء خارج مسجد للتعبير عن غضبهن من تسجيل أبنائهن.
في منشور لقديروف على قناته بتطبيق تليغرام، أشار الرئيس الشيشاني إلى وجود احتجاج بسيط، وحثَّ "الأمهات الحبيبات أن يحافظن على هدوئهن".
وأُجبر الكرملين أيضاً يوم الجمعة، 23 سبتمبر/أيلول، على التعليق على حالة الهلع المتزايدة في البلاد، وقال إنهم لا يستوعبون استمرار "ردة الفعل الهستيرية والعاطفية للغاية" تجاه أمر بوتين بتعبئة الشعب.
هل يؤدي الفرار من التجنيد إلى أزمة عقول في البلاد؟
وبالفعل، أعرب كثير من الروس عن استيائهم، الذي تجلّى في صورة زيادة أعداد الرجال في سن التجنيد، الذين يغادرون البلاد بعد إعلان التعبئة، ما يُحتمل أن يثير معه هجرة عقول غير مسبوقة بالأحرى خلال الأيام والأسابيع القادمة.
في الوقت الحالي سوف تضيّق السلطات على الأرجح الخناق على الباقين داخل روسيا. أبلغ مسؤول روسي أبناء العائلات القلقة في أحد مراكز التجنيد بمدينة أومسك في سيبيريا: "لن يقدر أحد على الاختباء، لن يُتغاضى عن أحد، سوف يُعثر على الكل".
وفي فيديو آخر من موقع مجهول في روسيا، شوهد ضابط يصيح في مجموعة من الرجال الذين جرت تعبئتهم، والذين ظهروا بينما يعربون عن قلقهم من تجنيدهم: "اخرسوا وتصرفوا بانضباط… ذلك هو الأمر، انتهى وقت المرح، أنتم جنود الآن".
بوتين يُجند مقاتلين غير متحمسين للحرب، وتزايُد الخسائر قد يغير اللعبة
وقال سام غرين، أستاذ السياسات الروسية لدى كلية كينجز لندن، والمشارك في تأليف كتاب Putin v the People، إنه في ظل الدعوة إلى التعبئة جعل بوتين "الحرب حقيقيةً بالنسبة للشعب أكثر من ذي قبل".
وأوضح: "كثير ممن كانوا غير متحمسين للغزو كان الصمت هو خيارهم المفضل، بالنظر إلى المخاطر التي تعتري الاحتجاجات، ولكن في الوقت الحالي، ومع وجود احتمالية حقيقية بأن يُرسَلوا إلى الجبهة، فقد تغيرت هذه الحسابات".
وأشار غرين إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو البيانات المتعلقة بمواقف الروس واتجاهاتهم من الحرب، التي تشير إلى أن التعبئة قد تتم في الفئة التي يتسم دعمها للحرب بأنه الأضعف، وهم الشباب الذين لم يعترضوا صراحةً على الحرب، لكنهم كانوا ممانعين بنفس القدر لدعمها.
قال غرين: "الروس يبحثون حولهم عما يبدو عليه حس الإجماع العام، ويعدلون سلوكهم وفقاً لذلك".
ولكن إذا بدأ ذلك الإجماع في التغير، لأن كثيراً من الشباب يموتون في أوكرانيا، يجادل غرين بأن دعم الحرب حينئذ يمكن أن يتحرك بسرعة في الاتجاه الآخر.
وأضاف: "زاد بوتين فحسب من احتمالية اندلاع الاحتجاجات".
وهكذا تحاول أوكرانيا الاستفادة من أزمة التعبئة العسكرية الروسية
ولعل استشعار الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالفرصة السانحة أمامه للضرب على وتر الاستياء، جعله يتخذ قراراً بمخاطبة الروس مباشرة بلغتهم الأم خلال خطابه المسائي، يوم الخميس 22 سبتمبر/أيلول.
وقال زيلينسكي بينما ينظر مباشرة إلى الكاميرا: "سوف أشرح للروس ما يحدث باللغة الروسية. مات في هذه الحرب في غضون ستة أشهر 55 ألف جندي روسي، عشرات الآلاف أُصيبوا بجروح أو بُترت أطرافهم، تريدون المزيد؟ كلا؟ فاحتجوا إذاً، قاوِموا، اهربوا، أو استسلموا للأسْر الأوكراني، هذه هي الخيارات التي أمامكم من أجل النجاة".