يقول مسؤولون أمريكيون إن فلاديمير بوتين بات يشرف بنفسه على استراتيجية الحرب في أوكرانيا، بعد الخسائر الروسية الأخيرة، فهل فقد الرئيس ثقته بقادة جيشه، أم أنه يخطط لشيء آخر؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد دخل مرحلة جديدة من التصعيد خلال الأيام القليلة الماضية، إذ قررت روسيا إجراء استفتاءات في 4 مدن أوكرانية، تمهيداً لضمها رسمياً إلى أراضي الاتحاد الروسي، في ظل تنديد غربي متوقع.
تقول أوكرانيا والدول الغربية إن الاستفتاءات على ضم تلك المناطق لروسيا باطلة وتهدف لتبرير الضم وتصعيد العمليات القتالية بعد قرار باستدعاء جزئي لقوات الاحتياط إثر خسائر تكبدتها موسكو مؤخراً في أرض المعركة.
بينما ألقى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ووسائل الإعلام العالمية السبت 24 سبتمبر/أيلول، صور فيه المعارضة للهجوم الروسي على أوكرانيا على أنها مقتصرة على الولايات المتحدة والدول التي تدور في فلكها.
أمريكا تقول إن بوتين "يدير" الحرب!
صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "بوتين يزداد انخراطاً في استراتيجية الحرب"، نقل فيه عن مسؤولين أمريكيين مطلعين قولهم إن الرئيس بوتين، وراء الكواليس، ازداد تدخله في الحرب.
بحسب تلك المصادر، من مظاهر هذا التدخل إخبار القادة بأن القرارات الاستراتيجية في الميدان باتت مهمة الرئيس شخصياً، ورغم أن بوتين وافق على بعض توصيات القادة العسكريين، مثل تعبئة المدنيين، فإن تدخله المباشر في القرارات الميدانية يحدث بعض التوترات.
وساق المسؤولون الأمريكيون رفض بوتين الانسحاب العسكري من منطقة خيرسون، كمثال على ذلك التدخل وما أثاره من جدل، حيث زعموا أن ذلك أدى إلى انخفاض الروح المعنوية بين الجنود الروس الذين انقطعت عنهم أغلب خطوط الإمداد، وإلى خوفهم من أن يتورطوا في مواجهة مع القوات الأوكرانية.
الخلافات بشأن البقاء أو الانسحاب من خيرسون لا تعدو كونها خلافاً جديداً بين بوتين وكبار قادة جيشه. إذ قال مسؤولون أمريكيون لنيويورك تايمز إن كبار ضباط الجيش الروسي شككوا في فعالية خطط الحرب، وخصوصاً المرحلة الأولى التي ارتأت توجيه ضربة سريعة للعاصمة الأوكرانية كييف. وقال مسؤولون أمريكيون إن الضباط الروس رأوا أن الأسلحة والجنود ليسا كافيين للحرب التي قرر بوتين خوضها.
كانت المكاسب الخاطفة التي حققتها أوكرانيا على الأرض، منذ مطلع سبتمبر/أيلول، قد فتحت شلالاً من التساؤلات العسكرية والسياسية بشأن الحرب، سواء بالنسبة لروسيا أو بالنسبة لأوكرانيا وداعميها من الغرب. إذ تمكنت القوات الأوكرانية من إجبار القوات الروسية على الانسحاب من منطقة خاركيف في الشرق، في وقت كانت فيه التوقعات بأن يتركز الهجوم المضاد الأوكراني على منطقة خيرسون في الجنوب.
روسيا، من جانبها، وصفت الانتصارات الأوكرانية في خاكيف بأنها "ضربة مباشرة" من الغرب، وبناء على ذلك التقييم، انتقلت "العملية العسكرية الخاصة" إلى مرحلة جديدة عنوانها "الحرب"، بحسب ألكسندر دوغين، الفيسلوف الروسي الملقب بأنه "عقل بوتين".
وفي مقال له بعنوان "بدأت"، قال دوغين: "يعلم الجميع أن هذا الهجوم (على خاركيف) تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
هل أراد الرئيس الروسي "احتلال" كييف؟
بالعودة إلى تقييمات المسؤولون الأمريكيون بشأن الموقف الحالي، كشف تقرير نيويورك تايمز أن الرئيس الروسي كان صاحب استراتيجية الهجوم الشامل على جميع الأراضي الأوكرانية منذ البداية، بينما تخوف قادة جيشه من أن أعداد القوات المنوط بها التنفيذ غير كافية.
ثبت أن مخاوف الضباط الروس في محلها، وبعد انسحاب الجيش الروسي من المناطق الغربية ومحيط العاصمة كييف، خفف بوتين من تدخله في التخطيط العسكري، بحسب مسؤولين أمريكيين تحدثوا للصحيفة، مضيفين أنه سمح لكبار الضباط بوضع استراتيجية جديدة تركز على قصف مدفعي مكثف. وكانت هذه الإستراتيجية الجديدة فعلياً حرب استنزاف طاحنة ساهمت بدور في تعزيز قوة الجيش الروسي وساعدته على التقدم في شرق أوكرانيا.
كانت الحرب في أوكرانيا قد بدأت يوم 24 فبراير/شباط بهجوم روسي شامل وهجمات جوية وصاروخية استهدفت قواعد الدفاع الجوي الأوكراني والبنية التحتية العسكرية، ثم انطلقت الحشود العسكرية الروسية ووصلت إلى تخوم العاصمة كييف، وحاصرت جميع المدن والمناطق وصولاً إلى مدينة لفيف في أقصى الغرب.
لكن في أبريل/نيسان، انسحبت القوات الروسية من الغرب الأوكراني، وبررت موسكو ذلك بأنه انتهاء للمرحلة الأولى من "العملية العسكرية"، الهادفة بالأساس إلى "تحرير" إقليم دونباس، المتاخم للحدود الروسية، والذي يضم منطقتي لوغانسيك ودونيتسك الانفصاليتين.
ويبدو أن بوتين، بحسب ما تشير إليه التقارير الأمريكية، كان يريد "احتلال" أوكرانيا بالكامل والإطاحة بحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الذي يصفه الكرملين بأنه "أداة لتنفيذ المخططات الغربية الرامية إلى تهديد الأمن القومي الروسي"، ومن ثم تنصيب نظام أوكراني جديد موالٍ لموسكو.
لكن مع فشل استراتيجية بوتين، بحسب الرواية الأمريكية، ترك الرئيس الروسي مزيدا من الحرية لقادة جيشه في إدارة العمليات العسكرية، وأصبح السيناريو هو "ضم" دونباس وضمان "الحياد الأوكراني".
لكن الانتصارات الأوكرانية في خاركيف أعادت بوتين إلى الانخراط أكثر في استراتيجية الحرب، وهكذا أمر الرئيس قادته بمواصلة القتال في خيرسون وعدم الانسحاب، ويحاول الجيش الروسي وقف التقدم الأوكراني هناك. وفي هذا السياق، فجر الروس الأسبوع الماضي سداً على نهر إينهوليتس ليزداد الهجوم المضاد صعوبة.
وعمدت القوات الأوكرانية إلى تفجير معابر فوق نهر دنيبرو، الأمر الذي أدى إلى عزل القوات الروسية إلى حد كبير عن خطوط الإمداد على الجانب الآخر. وقال مسؤولون أوكرانيون إن الروس اضطروا إلى استخدام الجسور العائمة لعبور النهر، ليُفاجأوا بتعرضها للهجوم الأوكراني.
ماذا يعني انخراط بوتين في إدارة الحرب؟
سيث جي جونز، النائب الأول لمدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، قال لـ"نيويورك تايمز": "لديهم وحدات هناك، وإذا اخترق الأوكرانيون الخطوط، فستكون عرضة لخطر العزل والحصار. ولا أريد أن أبالغ في تقدير مدى خطورة وضعهم".
والانسحاب إلى ما وراء نهر دنيبرو سيمكن القادة الروس، على الأرجح، من السيطرة على جبهة الجنوب بعدد أقل من الجنود. وهذا سيوفر لهم مجالاً لنقل القوات من خيرسون إلى مناطق أخرى، إما للرد على هجوم خاركيف المضاد في الشمال الشرقي، أو تقوية الخطوط الدفاعية في منطقة دونباس الشرقية أو فتح جبهة جديدة في الجنوب.
لكن الرئيس بوتين أبلغ القادة بأنه هو من سيضع الاستراتيجية، إذ قال مايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية في معهد CNA للأبحاث العسكرية في أرلينغتون بولاية فيرجينيا: "لاحظنا في هذه الحرب عدم التوافق بين أهداف بوتين السياسية والوسائل العسكرية لتحقيقها. ففي مراحل اتخاذ القرار المهمة، ماطل بوتين، ورفض الاعتراف بالواقع، إلى أن تحولت الخيارات من سيئ إلى أسوأ".
وربما يكون تواصل بوتين مع قادته العسكريين وسيلة للحصول على معلومات أدق عن سير الحملة العسكرية. إذ يقول مسؤولون أمريكيون إن بوتين لم يحصل على معلومات دقيقة من كبار مستشاريه العسكريين، سيرغي شويغو، وزير الدفاع، وفاليري جيراسيموف، رئيس الأركان العامة للجيش الروسي.
وفضلاً عن أوامره بعدم الانسحاب من خيرسون، تدخل بوتين أيضاً في المحاولات الروسية لتعزيز موقف الجيش في الشمال الشرقي بالقرب من نهر أوسكيل، الذي وصل إليه الهجوم الأوكراني المضاد هذا الشهر. إذ قال مسؤول أمريكي إن بوتين عارض الانسحاب هناك أيضاً، لأنه لا يرغب في منح زيلينسكي أي شيء قد يبدو نصراً.
وحتى في الوقت الذي يفرض فيه بوتين استراتيجية عدم الانسحاب، قال مسؤولون أمريكيون إن الضباط الروس أنفسهم منقسمون حول كيفية الرد على الهجمات المضادة الأوكرانية. إذ يرى بعض الضباط أن عليهم تجاهل توجيهات بوتين قبل أن يخترق الأوكرانيون جبهاتهم الحالية. ويرى آخرون أنه من الأصلح اتباع توجيهاته.
وروسيا مستمرة في التركيز على الجنوب، رغم التقدم الأوكراني شرق خاركيف. ورغم أن موسكو أرسلت بعض التعزيزات إلى المواقع الشمالية الشرقية المحاصرة، فالجزء الأكبر من عشرات آلاف الجنود الذين أرسلتهم روسيا جنوباً إلى منطقة خيرسون- ومنهم بعض أفضل جنودهم القتاليين- لا يزالون في مكانهم.
الخلاصة هنا هي أنه على فرض "دقة" المعلومات الأمريكية بشأن انخراط بوتين مباشرة في العمليات العسكرية، لا توجد مؤشرات حاسمة على دوافع الرئيس الروسي من هذا التصرف، فقد يكون السبب هو فقدانه الثقة في أداء بعض قادة الجيش، أو قد يكون هدفه الحصول على مزيد من المعلومات عن أداء جيشه في ساحة المعركة؛ ليتخذ قراراته السياسية بناء على ذلك الأداء.