لم تعد هناك حاجة في تونس لوضع لافتات تُحدد حصة العميل بكيس دقيق واحد أو لترين من الحليب؛ لأنه لا يوجد ما يمكن شراؤه أحياناً، إذ جرى تجريد أرفف المتاجر من البضائع داخل تونس خلال الأسابيع الماضية، وأصبح من الصعب العثور على زيت الطعام، والقهوة، والسكر، والزبدة خارج العاصمة تحديداً. بينما فرضت بعض المتاجر القيود على شراء المياه المعبأة أيضاً. فيما واجه المتسوقون في مراكز التسوق في مصر تجربةً مماثلة طوال الصيف، حيث انخفض مخزون مختلف السلع الاستهلاكية من الملابس وحتى الأثاث. فلماذا تكافح تونس ومصر لسداد فواتير الاستيراد؟
مصر وتونس تعانيان من أزمة سداد فواتير الواردات الأساسية
لا شك أن حالات نقص المعروض تمثل واقعاً مؤلماً للمستهلكين حول العالم منذ عام 2020. لكن الأرفف الفارغة في الشرق الأوسط ليست نتيجة خلل سلاسل التوريد فقط. إذ تُعد تلك الأرفف الفارغة مؤشراً على معاناة الحكومات المثقلة بالديون، والمفتقرة إلى السيولة، من أجل سداد فواتير الواردات الأساسية، كما يقول تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
وتتمتع غالبية السلع التي انخفض مخزونها في تونس بدعمٍ حكومي كبير، حيث يصل سعر كيس القهوة بوزن 250 غراماً في مطحنة القهوة المحلية إلى 1 دولار أمريكي على الأقل، بينما يتجاوز سعر اللتر من زيت الطهي نحو دولارين. وتعتبر هذه السلع أساسيةً داخل بلدٍ يعيش 19% من سكانه على أقل من 5.5 دولار يومياً، وفقاً للبنك الدولي.
يلقي الرئيس قيس السعيد باللوم على من سمّاهم "مكتنزي السلع"، حيث أكّد أن مشكلة تونس لا تكمن في نقص الغذاء، بل في "المضاربين" الجشعين الذين يرفضون بيع السلع بالأسعار الرسمية المخفضة. وتشن الشرطة حملاتها الدورية على المستودعات المليئة بالسلع الأساسية حالياً. بينما أصدر السعيد قانوناً غامض الصياغة في مارس/آذار، يحظر بموجبه نشر "المعلومات الكاذبة" التي قد تثير ذعر المستهلكين أو ترفع الأسعار.
وبرر الرئيس إصدار القانون ببساطة قائلاً إن بعض السلع ليست موجودةً داخل تونس على الإطلاق، حتى داخل السوق السوداء. وتمتلك تونس احتياطيات أجنبية تقدر بثمانية مليارات دولار (أي ما يعادل أربعة أشهر من الواردات)، مع دينٍ يصل إلى 35 مليار دولار لدائنين أجانب في الأغلب. ما يعني أنه لا يوجد الكثير من المال الكافي للاستيراد. وبالتالي تقف الشحنات عالقةً في الموانئ لأن الموزعين لا يمكنهم سداد تكلفتها.
مشكلة تحديد أسعار السلع تفاقم الأزمة
بحسب "الإيكونومست"، فإن تحديد الحكومة للأسعار يُفاقم المشكلة، إذ يتعين على مزارعي الألبان مثلاً بيع حليبهم مقابل سعرٍ أقل من تكلفة إنتاجه بـ25%، ولا تعوضهم الحكومة عن الفارق. وعادةً ما يتذمر المزارعون في مثل هذه الحالات، لكن العديدين منهم تركوا العمل أو تركوا الهزال يصيب قطعانهم.
بينما تختلف مشكلات مصر التي شهدت ارتفاع الأسعار منذ بداية العام، مع وصول معدل التضخم السنوي للغذاء إلى 23% خلال الشهر الماضي. لكن المتاجر العادية لا تزال تحتوي على زيت الطعام والقهوة. في ما تؤثر حالات النقص على الشركات التي تستورد السلع المخصصة للمستهلكين الأثرياء.
وانخفضت احتياطيات البلاد منذ يناير/كانون الثاني من 41 مليار دولار إلى 33 مليار دولار (أي ما يعادل واردات أربعة أشهر). وترغب الحكومة في الاحتفاظ بما تمتلكه من عملات صعبة حالياً، ولهذا حظرت على مئات الشركات استيراد السلع في أبريل/نيسان. وجاء التفسير الرسمي روتينياً، حيث قالت الحكومة إن الشركات فشلت في تقديم الأوراق اللازمة. لكن القرار أدى عملياً إلى فرض شكلٍ من أشكال الاكتفاء الذاتي، وقلل استيراد السلع غير الأساسية. كما فرض البنك المركزي قيوده الخاصة على الاستيراد أيضاً.
وساعدت هذه الإجراءات مصر في خفض فاتورة استيرادها. إذ اشترت سلعاً أجنبية بسبعة مليارات دولار فقط في يونيو/حزيران، بتراجعٍ قدره 8% عن الرقم المسجل في يونيو/حزيران من عام 2021، ورغم ارتفاع أسعار الوقود والقمح. بينما انخفض العجز التجاري بنسبة 12%، لكن حظر الاستيراد أضر بالشركات التي عجزت عن العثور على بدائل محلية.
أزمة في استيراد الشاي وحتى السيارات
وتحاول بعض الشركات الحفاظ على امتلاء أرففها باستخدام ما تبقى في المخازن، حيث تبيع ملابس الموسم الماضي بدلاً من الأزياء الجديدة مثلاً. بينما لا تمتلك شركات أخرى أي سلعٍ يمكن بيعها، حيث تعاني معارض السيارات لتسليم طلبياتها إلى العملاء، الذين دفع بعضهم قيمة سيارته بالكامل قبل ستة أشهر. بينما سجل السائقون عدد سيارات مرخصة أقل بـ43% من العام الماضي في يوليو/تموز.
كما يهدد النقص المشروب المفضل في البلاد أيضاً. إذ يُعتبر المصريون من أكبر شاربي الشاي في العالم، لكن مصر لا تُنتج الشاي مطلقاً، حيث أنفقت 192 مليون دولار على واردات الشاي عام 2020. في ما حذّر أكبر موزعي الشاي المحليين من انخفاض إمدادات الشاي في الشهر الماضي.
وتتحدث مصر وتونس إلى صندوق النقد الدولي حالياً. ومن المفترض أن تنجح مصر في التوصل إلى اتفاق، لكنها ستضطر لخفض قيمة الجنيه أكثر على الأرجح، بعد أن فقد 19% من قيمته منذ مارس/آذار.
خيارات صعبة
تحتاج مصر إلى تمويلٍ ضخم بعد أن وصلت نسبة الدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي إلى 94%. إذ حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار عام 2016، وآخر بقيمة خمسة مليارات دولار في عام 2020. لكن مصرف Goldman Sachs قدّر أن مصر يجب أن ترد 13 مليار دولار إلى الصندوق خلال السنوات الثلاث المقبلة، وربما تحتاج لاقتراض 15 مليار دولار في اتفاقها الجديد.
من ناحيته، قضى السيسي أيامه الصيفية في الاجتماع برجال الأعمال لمناقشة حالة أموال البلاد الحرجة. وتعهدت الدول الخليجية بتخصيص 22 مليار دولار على الأقل للمساعدة، لكن غالبيتها ستأتي في صورة استثمارات وليس مساعدات. وفي 13 سبتمبر/أيلول الجاري، سافر السيسي إلى قطر التي كان يعتبرها دولةً معاديةً نتيجة دعمها للإخوان المسلمين الذين أطاح بهم السيسي، لكن الاختيار رفاهية لا يتمتع بها المتسول، كما تقول "الإيكونومست".
أما تونس التي تواجه فترةً صعبة، فقد بدأت محادثاتها الرسمية مع الصندوق في يوليو/تموز. وربما يأتي الاتفاق بشرط تقليص الدعم وفاتورة أجور القطاع العام، التي ارتفعت من 11% عام 2010 إلى 18% من إجمالي الناتج المحلي عام 2020. لكن الاتحاد العام التونسي للشغل يعارض الخطوتين، ويجادل بأنهما سيؤديان لزيادة الفقر. وبهذا تواجه تونس خيارين أحلاهما مر. فإما فرض أسعار أغلى على السلع المدعمة، أو اختفاء السلع تماماً.