منذ أواخر فبراير/شباط، عندما هاجمت روسيا جارتها أوكرانيا ابتعد الغرب إلى حد كبير عن إشراك موسكو مباشرة، وتغيرت دبلوماسية موسكو بشكل واضح بعد حملة العقوبات الغربية التي فرضت عليها بسبب الحرب، لتبحث عن شراكات جديدة وأندية جديدة بعيدة عن الغرب في هذا الصراع.
كيف غيَّرت حرب أوكرانيا الدبلوماسية الروسية؟
بعد أيام قليلة من الهجوم الروسي وجهت وزارة الخارجية الأمريكية الإدارات والوكالات لإلغاء معظم الاتصالات بين الحكومات مع المسؤولين الروس. وعلقت إدارة بايدن محادثات ثنائية بشأن الحد من الأسلحة الاستراتيجية وكذلك بشأن المناخ مع موسكو. وكانت الاتصالات المباشرة بين كبار المسؤولين الأمريكيين والروس -مثل تلك التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في أواخر يوليو- قليلة ومتباعدة.
وقطع معظم القادة الأوروبيين خطوطهم مع الكرملين، تاركين أمثال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "موضع سخرية"، إن لم تكن "سخريةً صريحة"، لجهودهم في التواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إن الدبلوماسية الغربية مع روسيا قد تقلصت إلى مجرد عدد قليل من القضايا الاستثنائية -مثل المحادثات النووية الإيرانية- والمشاركة متعددة الأطراف في مؤسسات مثل الأمم المتحدة. في غضون ذلك، بحثت روسيا -وفي بعض الحالات أنشأت- منتدياتٍ دبلوماسية جديدة تتجنب الأماكن القائمة التي نُبِذَت عنها.
البحث عن وسطاء جدد
تقول "فورين بوليسي"، أصبح من الواضح في البداية أن الدبلوماسية كانت تتغير عندما انضمت سويسرا إلى حملة العقوبات ضد روسيا، وانتقد الكرملين الدولة المحايدة تقليدياً.
ومنذ ذلك الحين، رفضت روسيا العروض السويسرية لاستضافة محادثات حول مجموعة متنوعة من القضايا. في أبريل/نيسان، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنها لم تعد تعتبر جنيف منصة مقبولة لعقد اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا للإشراف على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة، مستشهدة بـ"الإجراءات غير الودية" لسويسرا.
وفي حديثه على هامش اجتماع جنيف بشأن سوريا في يونيو/حزيران، انتقد المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، سويسرا بالمثل، واقترح أن تُنقَل اللجنة الدستورية السورية -وهي جمعية تأسيسية تيسرها الأمم المتحدة ومقرها جنيف- إلى موقع "أكثر محايدةً". وعندما اجتمعت اللجنة آخر مرة، ورد أن روسيا كانت مستاءة من تعامل السلطات السويسرية مع تأشيرات الدخول لوفدها و"البرود العام في الاستقبال". طاف لافرينتييف أبوظبي والجزائر والمنامة ومسقط وعواصم بديلة ممكنة.
في الوقت نفسه تقريباً، قررت وزارة الخارجية الروسية أن المناقشات الدولية حول جنوب القوقاز لم يعد من الممكن عقدها في جنيف. ورفضت روسيا عرضاً قدمته برن لتمثيل المصالح الأوكرانية في روسيا -على سبيل المثال، في الشؤون القنصلية- والعكس صحيح. وعلى نطاق أوسع، أصبحت روسيا غاضبة من الرفض الأمريكي المزعوم لمنح الدبلوماسيين الروس تأشيرات لحضور فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الشهر.
ورداً على ذلك، طرحت موسكو الفكرة التي يصعب تحقيقها وهي نقل مقر الأمم المتحدة إلى مدينة أخرى، ما ينذر بدعم عدد متزايد من البلدان لمثل هذه الخطوة.
أدى رفض روسيا للأماكن التقليدية للدبلوماسية الدولية -مثل سويسرا- إلى ظهور وسطاء جدد في المقدمة. منذ فبراير/شباط، قبلت روسيا الوساطة التركية في مجموعة متنوعة من القضايا المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، وأهمها التفاوض على اتفاقية يوليو/تموز لتأمين تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية.
وفي الربيع، استضافت أنقرة بالفعل محادثات سلام روسية أوكرانية أولية، أطلق عليها اسم "عملية إسطنبول" -وهي سلسلة من الاجتماعات بين وفدين روسي وأوكراني متوسطي المستوى- وضغطت بنجاح إلى حد ما من أجل إنشاء ممرات إنسانية أثناء الحصار الروسي لماريوبول بأوكرانيا.
وفي الآونة الأخيرة، استضافت إسطنبول المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي وأليكسي ليخاتشيف، الرئيس التنفيذي لشركة روساتوم الروسية للطاقة النووية، لمناقشة مهمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية القادمة إلى محطة الطاقة النووية زابوروجييه التي تسيطر عليها روسيا ولكن تشغِّلها أوكرانيا.
لماذا اختارت روسيا الوساطة التركية؟
في الوقت ذاته، عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مراراً عقد محادثات مباشرة بين بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وبناءً على نجاح صفقة تصدير الحبوب، ألمح المسؤولون الأتراك إلى أن تركيا يمكن أن تتوسط في تبادل الأسرى وحتى وقف إطلاق النار في أوكرانيا.
ينبع استعداد روسيا لقبول الوساطة التركية من تجربة البلدين في الانخراط في نزاعات متعددة -في سوريا وليبيا ومنطقة ناغورنو كاراباخ- من خلال ما أطلق عليه البعض "التعاون العدائي". لطالما تعاونت موسكو وأنقرة وتنافستا في هذه الأماكن. وتقول "فورين بوليسي" إن العلاقة الروسية التركية تفتقر إلى أساسٍ متين، وتشكل الرابطة الشخصية بين أردوغان وبوتين العمود الفقري لها. ومع ذلك، فقد توصل الجانبان إلى تقدير فاعلية المعاملات بينهما. عندما تمنح روسيا تركيا حرية التوسط في أوكرانيا، فإنها تتعامل مع خصم تعرفه، بينما تستمتع أيضاً بفرصة خلق انطباع بأن أحد حلفاء الناتو يلعب بشكل جيد مع موسكو.
تحالفات جديدة وأندية بديلة لتلك الغربية
بالإضافة إلى تركيا، يعمل الدبلوماسيون الروس أيضاً على ترسيخ أماكن بديلة أخرى للدبلوماسية. هذا الصيف، أفيد بأن الأرجنتين وإيران ومصر والمملكة السعودية وتركيا قد تنضم إلى مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. جادل بوتين في يونيو/حزيران بأن من المتوقع أن تقود دول البريكس "تشكيل نظام متعدد الأقطاب حقيقي للعلاقات بين الدول".
وتسعى روسيا للاستفادة من التجمع في مساعيه للالتفاف على العقوبات المالية الغربية، وقد أعلنت مؤخراً أن الهند وإيران ستتبنيان نظام الدفع الروسي مير. وفي غضون ذلك، يبالغ المسؤولون الروس في أهمية منظمة شنغهاي للتعاون -التي اجتمعت هذا الأسبوع في أوزبكستان- بما في ذلك التعاون العسكري الدفاعي.
ومن المسلَّم به أن تشكيل روسيا للأماكن الدبلوماسية البديلة ليس جديداً ولا شاملاً. منذ عام 2017، على سبيل المثال، انخرطت روسيا بشكل أساسي في سوريا في "مجموعة أستانا"، التي تضم إيران وتركيا.
ويعد مصطلح "دبلوماسية الشبكة" -الذي تفهمه موسكو على أنه "نهج مرن للمشاركة في الآليات المتعددة الأطراف من أجل إيجاد حلول فعالة"- صدر بالفعل في مفهوم السياسة الخارجية لروسيا لعام 2016. لكن في ذلك الوقت، جادل النقاد الروس البارزون بأن الهياكل الدبلوماسية الجديدة التي بدأتها روسيا لن تصبح "أدوات السياسة الرئيسية" لروسيا.
يبدو أن هذا يتغير. اكتسب سعي روسيا لطرق دبلوماسية بديلة وشراكات جديدة إلحاحاً منذ فبراير/شباط. وهذا الشهر، قال لافروف إن وزارته أعادت مؤخراً تكليف عدد كبير من موظفيها الدبلوماسيين بمقرها في موسكو أو سفاراتها في "الدول الصديقة". وتعهَّد وزير الخارجية بأن روسيا ستعزز التعاون مع كومنولث الدول المستقلة -مجموعة من الدول السوفيتية السابقة في آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط- "بمعدل متسارع".
منتديات الغرب القديمة
مع استمرار الحرب في أوكرانيا، من المرجح أن تعاقب الدول الغربية روسيا وتعزلها أكثر، ما يعزِّز إعادة توجيهها الدبلوماسي. بعد فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة ضد روسيا، علق الاتحاد الأوروبي مؤخراً اتفاقية تيسير التأشيرات مع موسكو. وكما قال رئيس الوزراء الإستوني كاجا كالاس، فإن القيام بذلك أصبح مسألة تتعلق بـ "الوضوح الأخلاقي للاتحاد الأوروبي أثناء اندلاع حرب الإبادة الجماعية الروسية في أوروبا". في أغسطس/آب، جادل دبلوماسيون بريطانيون بأن روسيا "ليس لها حق أخلاقي في الجلوس في مجموعة العشرين بينما يستمر عدوانها في أوكرانيا".
من المرجح أن تمنح مثل هذه التصريحات والإجراءات موسكو ذريعة أخرى لتجنب المشاركة مع الغرب في المنتديات القديمة، رغم تعهدها بعدم الرد "بنفس الحماقة" على قيود التأشيرات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
بعد اتهامه بأن الغرب لم يعد يستخدم مجموعة العشرين "للأغراض التي أُنشِئت من أجلها" -أي معالجة القضايا العالمية الملحة، مثل الصحة الاقتصادية العالمية- غادر لافروف اجتماع يوليو للمجموعة في بالي بإندونيسيا قبل الأوان. وفي ظل تقارير تفيد بأن بوتين يعتزم السفر إلى إندونيسيا لحضور قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/تشرين الثاني، يفكر القادة الغربيون فيما إذا كانوا سيحضرون أم لا.