جمود في المفاوضات النووية الإيرانية طرأ بشكل بدا مفاجئاً بعدما كان الأوروبيون قد أعربوا عن تفاؤلهم بقرب إحياء الاتفاق النووي، الأمر الذي أثار تساؤلات حول أسباب هذه الانتكاسة، وهل وراءها تعنت إيراني أم تصلب أمريكي مرتبط بحسابات داخلية، أم نجاح للخطط الإسرائيلية الجارية خلف الكواليس لعرقلة إحياء الاتفاق.
ففجأة تحول التفاؤل الأوروبي حول الاتفاق النووي الإيراني إلى تشاؤم، بينما أكدت إدارة بايدن أنها تريد أن يكون لديها خيارات أخرى لحل الملف النووي الإيراني غير التفاوض، فيما كان الإسرائيليون الأكثر وضوحاً، حيث أعلن مسؤول إسرائيلي أن تل أبيب لا تتوقع إحياء الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي التي تنعقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وذلك بعد أن عبرت الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق عن خيبة أملها تجاه طهران.
وقالت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، السبت، إن لديها "شكوكاً خطيرة" إزاء نية إيران بعد أن حاولت الجمهورية الإسلامية ربط إحياء الاتفاق بإغلاق تحقيقات تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن آثار يورانيوم عُثر عليها في 3 مواقع نووية إيرانية، ووصفت طهران البيان الأوروبي بأنه "غير بناء".
لابيد يعتبر الجمود في المفاوضات النووية الإيرانية انتصاراً له
واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد ذلك انتصاراً له قائلاً: "جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء المناوب نفتالي بينيت ووزير الدفاع بيني غانتس، تقوم إسرائيل بحملة دبلوماسية ناجحة لوقف الاتفاق النووي ومنع رفع العقوبات عن إيران". "لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه، ولكن هناك علامات مشجعة".
جاءت كلمات لابيد في وقت كان يستعد لعقد اجتماعات متتالية مع وزير الخارجية الألماني والرئيس والمستشار الألماني، اليوم الإثنين، في محاولة للتأثير عليهم للتخلي عن جهود إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي وقع عام 2015، ثم انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 2018، الأمر الذي ردت عليه طهران بالتخلي عن بعض التزاماتها النووية.
وحاول لابيد خلال الزيارة لألمانيا استخدام كل ما في جعبته من أوراق، حيث أعلن أنه وصل إلى برلين في زيارة دبلوماسية برفقة عدد الناجين من المحرقة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية.
وقال: "نزلنا من الطائرة معاً على الأراضي الألمانية حيث استقبلنا جنود من حرس الشرف بالجيش الألماني. هذا هو انتصارهم وكذلك انتصاري بصفتي ابن أحد الناجين من المحرقة ولنا كشعب وكدولة.. لن ننسى أبداً".
ودعا لابيد القوى الدولية للتخلي عن الاتفاق برمته، قائلاً: "نعتقد بالتأكيد أن التزام" القوى العالمية الست "بالعودة إلى الاتفاق النووي السابق هو خطأ، ويمكنهم تحقيق المزيد إذا وضعوا سياساتهم في المكان المناسب".
إسرائيل تقول إنها أقنعت الأمريكيين بالتوقف عن المضي قدماً لإحياء الاتفاق النووي
وأجرت إسرائيل محادثات مع مجموعة الدول الأوروبية الثلاث والولايات المتحدة مع كل جولة من المحادثات، وقال مسؤول إسرائيلي إن تل أبيب أثرت على الأمريكيين لتجنب المزيد من التنازلات لإيران، حسب تعبيره.
في الشهر الماضي بدا الأمر وكأن إحياء الصفقة وشيك، وبدا الأوروبيون تحديداً شديدي التفاؤل، مثلما أعلن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل.
ولكن وصلت المفاوضات الآن إلى طريق مسدود بسبب مطالبة إيران بأن تنهي الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحقيقاتها في آثار اليورانيوم التي تم العثور عليها في مواقع نووية لم يتم الكشف عنها، وهي آثار نووية مريبة تعود لفترة قديمة، ولكن طهران لم تقدم إجابة شافية بشأنها.
ورفضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنهاء تحقيقاتها. ودعمت الولايات المتحدة ومجموعة الدول الأوروبية الثلاث (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لابيد يسوق للإسرائيليين أن لباقته مع الغرب أكثر جدوى من فظاظة نتنياهو الذي ينافسه بالانتخابات
ويزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد أنه يقف وراء هذا الموقف الأوروبي الأمريكي ضد إيران.
وبينما يستعد لابيد لانتخابات ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، فإنه يحاول أن يقدم نفسه للإسرائيليين باعتباره الرجل الذي سيوقف البرنامج النووي الإيراني.
وجادل لابيد بأن نهجه الأكثر لباقة من نتنياهو تجاه فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإدارة بايدن كان أكثر إنتاجية من الموقف الفظ لمنافسه بنيامين نتنياهو الذي ينافسه في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المقررة في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
لكن البعض يراه يبالغ في دوره في التأثير على المفاوضات النووية
ومع ذلك، فإن كثيراً من المراقبين، بما فيهم إسرائيليون، يرون أن ما دفع الأوروبيين إلى القول بعدم وجود "مفاوضات نشطة" ليس الضغوط الإسرائيلية، بل كان رد إيران الأخير على مسودة اتفاقية الاتحاد الأوروبي المقدمة إلى طهران وواشنطن في 8 أغسطس/آب، والذي رأت فيه الدول الأوروبية الثلاث علامة على عدم استعداد طهران لعقد صفقة.
وفي هذا السياق، قلل تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية من تأثير الضغط الدبلوماسي الإسرائيلي على المواقف الأوروبية والأمريكية.
إذ تقول الصحيفة إن الأمريكيين اتخذوا قراراً بوقف المضي قدماً في التفاوض عندما وصل وفد إسرائيلي إلى واشنطن للتحدث مع الإدارة حول الاتفاقية التي تلوح في الأفق، مشيرة إلى أن سرعة قرار الأمريكيين مؤشر على أن الأمر ليس بسبب التأثير الإسرائيلي.
وتقول الصحيفة الإسرائيلية إن من غير رأيه هو الزعيم الإيراني علي خامنئي لا القادة الغربيون، ولكنها قالت إن لابيد محق في شيء واحد: التحدث إلى الأمريكيين وراء الكواليس أفضل من توبيخهم أو الشروع في خطاب غير ضروري في الكونغرس (في إشارة إلى ما يفعله نتنياهو).
مخاوف من تسييس عمل وكالة الطاقة الذرية إذا تمت الاستجابة لطلب طهران
وكانت إدارة بايدن قد وافقت بالفعل على مسودة الاتحاد الأوروبي، وكان التفاؤل السائد في أغسطس/آب مبرراً.
ولكن إيران تصر على أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإسقاط تحقيق في آثار اليورانيوم التي تم العثور عليها في مواقع مرتبطة بأنشطة طهران النووية قبل عام 2003. كما تطالب بأنواع مختلفة من الضمانات من الولايات المتحدة.
ويجب ملاحظة أن مسألة تسوية تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليست متعلقة بموافقة واشنطن فقط، بل بمجلس محافظي الوكالة، وكذلك بالوسطاء الأوروبيين، وهؤلاء يؤكدون جميعاً على ضرورة عدم تسييس عمل الوكالة، وتفاخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن إحدى نجاحاته الدبلوماسية هي منع تسييس عمل الوكالة، والحيلولة دون ربط التقرير بمساومات التفاوض.
وأوضح المسؤولون الأمريكيون أن الولايات المتحدة لن تتنازل في مسألة طلب طهران إغلاق تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضدها؛ لأن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تلغي سلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المراقبة على المواقع النووية في جميع أنحاء العالم، وتسييس قراراتها.
وأكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأربعاء الماضي، أنها "لا تستطيع ضمان أن البرنامج النووي الإيراني سلمي حصراً"، بسبب عدم رد طهران على مسألة المواقع غير المعلنة والمشتبه في أنها شهدت أنشطة غير مصرح عنها.
وبايدن يبدو أنه لا يحبذ إبرام اتفاق مع طهران قبيل انتخابات الكونغرس
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالرد الإيراني، ولكن العوامل التي تعرقل الوصول للاتفاق مرتبطة بالتنافس الأمريكي الداخلي.
كما كان واضحاً منذ بضعة أشهر، كانت إدارة بايدن حريصة على توقيع اتفاق، ولكنها حريصة على ألا تبدو أنها ترضخ للإيرانيين.
كما أنه ربما يكون توقيع اتفاق مع إيران قبيل الانتخابات الكونغرس مباشرة غير ملائم لإدارة بايدن.
ولذا فإن اتخاذها موقفاً قوياً ضد إيران، والتلميح إلى أن الاتفاق لن يوقع حالياً، وأنها تبحث عن خيارات أخرى بجانب المفاوضات في التعامل مع الملف النووي الإيراني (تهديد مبطن باستخدام القوة)، قد يكون في صالح الديمقراطيين خلال الانتخابات.
وبالفعل يرى الوسطاء الأوروبيون أنه من غير المرجح أن يتم التوقيع على أي شيء قبل انتخابات التجديد النصفي للولايات المتحدة، وقد يكون موقفهم المتشدد هذا بطلب أمريكي.
وإسرائيل تراهن على أن فوز الجمهوريين بأغلبية سيمنع توقيع الاتفاق
تأجيل الصفقة حتى انتخابات التجديد النصفي الأمريكية في مصلحة إسرائيل: إذا فاز الجمهوريون بأغلبية كبيرة في الكونغرس، فسيصعب على الرئيس الأمريكي جو بايدن تمرير مواقف مخففة تجاه إيران، حسبما قالت مصادر إسرائيلية أخرى.
وتتوقع مصادر سياسية إسرائيلية أن يطرح النواب الجمهوريون اقتراحاً بإسقاط الاتفاق النووي مع إيران، وأنه قد يحظى بتأييد الأغلبية. في حالة تمرير مثل هذا الاقتراح، يمكن أن يستخدم بايدن حق النقض (الفيتو) ويرسله للتصويت مرة أخرى، ولكن في ظل هذا السيناريو سيكون من الصعب عليه إلغاء الاقتراح الجمهوري والموافقة على الاتفاق النووي.
أمريكا خائفة من التعاون الروسي الإيراني
يحدد المسؤولون الإسرائيليون عاملاً آخر قد يدفع الإدارة الأمريكية إلى معارضة الصفقة: في الآونة الأخيرة نشأ نقاش نشط داخل أروقة صنع القرار الأمريكي حول القلق من أن تستغل روسيا الصفقة ورفع العقوبات الإيرانية من أجل تحويل إيران إلى ملاذ خلفي لها، حيث يمكنها نقل العمليات التي تضررت من العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة وأوروبا بسبب حربها في أوكرانيا.
وقالت مصادر إسرائيلية إن إسرائيل لا تشارك حالياً في هذه المناقشة، على الرغم من أنها قد تخدم جهودها لتقويض محادثات الاتفاق النووي.
كما تشعر إسرائيل بالقلق من العلاقات الأمنية الدافئة بين إيران وروسيا، وأن صفقة طهران لتزويد روسيا بطائرات من دون طيار يمكن أن تعمق تعاونهما.
وتعتقد مصادر إسرائيلية أن إيران ستحاول استغلال أزمة روسيا بسبب العقوبات الدولية من أجل الحصول على أنظمة إس -400 المضادة للطائرات من روسيا، وهي نسخة أكثر تقدماً من نظام إس -300 الموجود لدى إيران، ويمكن أن تمنع المقاتلات الإسرائيلية والأمريكية من قصف أعماق الأراضي الإيرانية. وقامت إيران بعدة محاولات سابقة لشراء هذه الأنظمة من روسيا، لكنها فشلت. وحالياً، لا يوجد دليل على محادثات لمثل هذه الصفقة.
هل تأجيل الاتفاق مفيد لإسرائيل حقاً؟
اللافت أن صحيفة Haaretz انتقدت حرص المسؤولين السياسيين الإسرائيليين على عرقلة الاتفاق، لأن تأخر الاتفاق معناه تكديس إيران مزيد من القدرات النووية.
فالتقرير الفصلي للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي نشر مؤخراً، يصف في الواقع مخاطر عدم وجود اتفاق جديد.
وبحسب التقرير، يمتلك الإيرانيون الآن 55.6 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، أو 12.5 كيلوغرام أكثر مما كان لديهم قبل 3 أشهر. وهذا يترك طهران على بعد أسابيع قليلة على الأكثر من تكديس ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع قنبلة نووية واحدة. (على الرغم من أن تركيبها على رأس حربي قد يستغرق عامين آخرين).
وقال رئيس المخابرات العسكرية السابق تمير هايمان، لصحيفة "هآرتس" إن "أكثر ما يثير القلق بشأن التقرير هو طوله. عندما تكتفي الوكالة بـ3 صفحات، تدرك مدى تقلص عمليات التفتيش منذ أن أنهى الإيرانيون استخدام الوكالة للكاميرات في المواقع النووية".
فإيران تقترب من أهدافها النووية، ولم يعد العالم يمتلك قدرة إشرافية حقيقية. يمكن للإيرانيين أن يقرروا المضي قدماً، ولن يكون هناك وقت لتحذير مسبق أو اتخاذ إجراء ضدهم".
هل يتم إرجاء الاتفاق أم إلغاؤه؟
على الرغم من أن الاتفاق النووي يبدو أنه يحتضر، إلا أن الإعلان عن وفاته ما زال بعيداً، حسب وصف صحيفة Haaretz، وقال مسؤول إسرائيلي مطلع على المحادثات: "هناك الكثير من الأطراف المهتمة بهذه الصفقة، وسوف يحاولون إحياءها في الفترة المقبلة".
ويضيف قائلاً إن إيران تستخدم باستمرار التأخير كتكتيك تفاوضي، وإصرارها على إغلاق ملف الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد يكون بمثابة تأجيل آخر، ولكنه لن يؤدي إلى تفجير الصفقة بالكامل، على الأغلب.
بالنظر إلى حالة عدم اليقين هذه، تعمل إسرائيل على تقويض الاتفاقية بطرق أخرى، فخلال الأيام القليلة الماضية، أرسل المسؤولون الإسرائيليون مطالب إلى الإدارة الأمريكية لتشديد البنود الأخرى في مسودة الاتفاق، لا سيما فيما يتعلق بتأخير إزالة العقوبات الرئيسية عن إيران بعد توقيع الصفقة، والتي من المقرر إجراؤها حالياً على 4 مراحل.
ولكن الرغبة الأمريكية في التشدد بما يتماشى مع مطالب إسرائيل يمكن أن تزيد من صعوبة التوصل إلى تفاهم مع إيران خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وتطالب إسرائيل أيضاً بأن تؤجل الإدارة الأمريكية تنفيذ بعض البنود، ولكن لا يبدو أن هذا مقبول حالياً على الأرجح.
كما تحاول إسرائيل إقناع الدول الغربية المشاركة في المفاوضات النووية الإيرانية بأن مثل هذا التأخير الطويل في وضع اللمسات الأخيرة على صفقة يؤكد مدى عدم جدوى الجهود المبذولة للالتزام بالوثيقة الأصلية التي تم التفاوض عليها بين طهران والقوى العالمية الست، والمعروفة باسم خطة العمل الشاملة المشتركة.
في كل الأحوال يبدو التعثر في المفاوضات النووية الإيرانية في مرحلة حاسمة أمراً ليس بجديد، فبقدر ما لا تريد الأطراف إفشال المفاوضات، وتصعيد النزاع، فإنها تبدو أيضاً غير قادرة على حسم الخلافات والمضي قدماً نحو توقيع نهائي للاتفاق، لأسباب لا تتعلق في أغلبها بتفاصيل البرنامج النووي الإيراني، بل بديناميكيات الصراع الإيراني الأمريكي وخوف الحكم في طهران وواشنطن على السواء من الانتقادات الداخلية لأي اتفاق، رغم أن البديل قد يكون الحرب.